احتفالات عيد التحرير.. "التعليم العالي" تشهد إنجازا تاريخيا بسيناء في عهد السيسي    رئيس قوى عاملة النواب يهنئ الرئيس السيسي بذكرى تحرير سيناء    ارتفاع أسعار الذهب بشكل طفيف وسط التركيز على البيانات الاقتصادية الأمريكية    ضربة قوية للتجار.. كيف أثرت حملة مقاطعة الأسماك على الأسواق في بورسعيد والإسكندرية؟ تعرف إلى الأسعار الجديدة    محافظ بورسعيد: تواصل أعمال تطوير وتوسعة ورفع كفاءة شارع محمد حسني| صور    محفظة أقساط شركات التأمين تسجل 8.38 مليار جنيه خلال يناير 2024    البترول: تجهيز غرفة أشعة مقطعية للمستشفى الجامعي بالإسكندرية    "الري": بدء إنشاء 50 بحيرة جبلية للحماية من أخطار السيول بجنوب سيناء    عاجل.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يعلن حشد لواءين احتياطيين للقيام بعمليات في غزة    بوريل: مدن غزة دمرت أكثر من مدن ألمانيا بالحرب العالمية الثانية    ريانة برناوي أول رائدة فضاء سعودية ضيفة «يحدث في مصر» الليلة    بسبب الحرب على غزة.. كل ما تحتاج معرفته عن احتجاجات الجامعات الأمريكية    تكذيبا للشائعات.. إمام عاشور يغازل الأهلي قبل لقاء مازيمبي بدوري الأبطال| شاهد    مروان عطية يصدم الأهلي قبل مواجهة مازيمبي الكونغولي    بعد عودة الشناوي.. تعرف على الحارس الأقرب لعرين الأهلي الفترة المقبلة    مواعيد مباريات اليوم الأربعاء 24-4-2024 والقنوات الناقلة    "لا يرتقي للحدث".. أحمد حسام ميدو ينتقد حكام نهائي دوري أبطال آسيا    مصرع وإصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بحدائق أكتوبر    وكيل تعليم بورسعيد: الامتحانات مهمة وطنية يحب أداؤها على أكمل وجه    الكونجرس الأمريكي يقر قانون حظر تيك توك    تفاصيل الحالة المرورية بالمحاور والميادين صباح الأربعاء 24 أبريل    اليوم.. استكمال محاكمة المتهمين باستدراج طبيب وقتله بالتجمع الخامس    مصرع مُسنة دهسا بالقطار في سوهاج    عاجل:- تطبيق قرار حظر الصيد في البحر الأحمر    «خيال الظل» يواجه تغيرات «الهوية»    طرح فيلم ANYONE BUT YOU على منصة نتفليكس    نجوم الغد .. أحمد ميدان: هذه نصيحة السقا وكريم لى    دعاء الحر الشديد.. 5 كلمات تعتقك من نار جهنم وتدخلك الجنة    تقديم خدمات طبية لأكثر من 600 مواطن بمختلف التخصصات خلال قافلتين بالبحيرة    رئيس هيئة الرعاية الصحية: خطة للارتقاء بمهارات الكوادر من العناصر البشرية    رئيس «المستشفيات التعليمية»: الهيئة إحدى المؤسسات الرائدة في مجال زراعة الكبد    تجديد منظومة التأمين الصحي الشامل للعاملين بقطاعي التعليم والمستشفيات الجامعية بسوهاج    فوز الدكتور محمد حساني بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    اليوم.. «خطة النواب» تناقش موازنة مصلحة الجمارك المصرية للعام المالي 2024/ 2025    8 مليارات دولار قيمة سلع مفرج عنها في 3 أسابيع من أبريل 2024.. رئيس الوزراء يؤكد العمل لاحتياط استراتيجي سلعي يسمح بتدخل الدولة في أي وقت    متحدث "البنتاجون": سنباشر قريبا بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة    تاريخ مميز 24-4-2024.. تعرف على حظك اليوم والأبراج الأكثر ربحًا للمال    مفوض حقوق الإنسان أكد وحدة قادة العالم لحماية المحاصرين في رفح.. «الاستعلامات»: تحذيرات مصر المتكررة وصلت إسرائيل من كافة القنوات    تعرف على مدرب ورشة فن الإلقاء في الدورة ال17 للمهرجان القومي للمسرح؟    الذكرى ال117 لتأسيس النادي الأهلي.. يا نسر عالي في الملاعب    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    الشيوخ الأمريكي يوافق على 95 مليار دولار مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا    الصين تعارض إدراج تايوان في مشروع قانون مساعدات أقره الكونجرس الأمريكي    نتائج مباريات الأدوار من بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    مصطفى الفقي: مصر ضلع مباشر قي القضية الفلسطينية    بعد وصفه بالزعيم الصغير .. من هم أحفاد عادل إمام؟ (تفاصيل)    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    هل يجوز طلب الرقية الشرعية من الصالحين؟.. الإفتاء تحسم الجدل    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غرفة تغيير المشاعر
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 07 - 2016

ننشر في صفحات الابداع قصص من الأعمال الفائزة في مسابقة أخبار الأدب فرع المجموعة القصصية، التي فازت بها سلمي هشام عن مجموعتها "غرفة تغيير المشاعر"، وآية عزت طنطاوي عن مجموعتها "أبيض وأسود" وأحمد عبدالعاطي حفني عن مجموعة "انشطار الطير".
العذراء تري
في طريقي إلي المزار المُهمَل المُغطي بالغيوم الدائمة ركبت التوك توك، فتحت صدري للهواء الملوث لأتعود علي الحياة معه في حيز واحد حين أتزوجك، مررت بمحلات الذهب الفقيرة وتخيلتني أدخل أحدها وأخرج مبتسمة تصحبني زغرودة.
أغنية التوك توك الصاخبة كانت تتحدث عنك، عن تلك التي أتي لخطبتها ثلاثة فلم تختر منهم إلا الشهم الجدع الذي لا يملك إلا شجاعته.
حين وصلت إلي المزار استقبلتني بابتسامتك الصافية المعهودة، قدتني للداخل، وقدمتني لكل أصدقائك الودودين، أحببت صحبتهم، أعرف أنهم سيصحبوننا في حياتنا القادمة معا.
في نهاية اليوم، وبعد أن كلت الكاميرا من التصوير، تشاغلت عن التصوير معي تحت تمثال العذراء المبتهل، قلت لا يهم سنأتي ثانية إلي مزار الغيم. حين خرجنا تبللت ثيابي بالمطر ولوثها الوحل المراق علي جانبي الطريق، حاولت تعويضي فاشتريت لي زرا من البطاطا المشوية الساخنة، قبلتها وأنا آكلها وأعطيتك نصفها الآخر، تمنيت أن توشوشك بطعم فرحتي لمرآك.
طبعت صورتنا سويا في ذلك اليوم، تلك الصورة التي سجلت للأبد لحظة غريبة من التوهج، إلا أنني كنت كلما أرانا متجاورين مبتسمين فيها أتذكر ألم ساقي الصاخب وقتها وهو لا يظهر في الصورة، بعد أن أهديتك نسخة منها ثبت خاصتي علي الحائط المجاور لسريري. وجدتك في اليوم التالي تثني علي مظهري في الصورة، فكرت .. يبدو أنني أبدو أجمل في الصور التي تخفي ألمي".
في سعادة ركبت السرفيس والمترو معك وبدونك حتي أتعود علي وسيلة مواصلاتي الجديدة التي لن يكون لها بديل بعد زواجنا.
مر شهر علي أحلامي التي بدأت تتجسد بعد اعترافك لي بحبك، نمت مبتسمة ليلتها أحلم بطيف مقابلتك في الغد، وصلتني رسالتك التي بعثتها أثناء نومي وقرأتها بعدما استيقظت.
لابد أنك تمزح، هكذا فكرت، رغم أني كنت أشعر بشكل من الأشكال أنك ستخذلني، إلا أنني صدقت مزحتك حين رأيت صورة الخطبة.
أزلت صورتنا من علي الحائط، واستخدمت لإزالة آثارها مطهراً شفافاً يقضي علي الجراثيم، لم أمزقها، بل نحيتها جانبا حتي لا يزورها نظري كثيرا.
في اليوم التالي، ركبت التاكسي إلي المزار، وطلبت من الحارس أن يلتقط لي صورة مع العذراء التي كانت لا تزال تبتهل، ثم اشتريت زرا من البطاطا.
بدت العذراء بهية في الصورة ولم أكن كذلك، كنت قد تخلصت من الألم الذي يجعلني أبدو أجمل في الصور.
حضن طازج
1
توقظني يدك في الصباح، أصحو مذعورة، أشكو لك قلقي من الامتحان، أخبرك بأنني ذاكرت حتي أنهكت نفسي البارحة حتي أنام نوما بلا كوابيس ولا حتي أحلام، تناولني يدك كوب اللبن الرائب ثم تعكف علي تربيت شعري بزيت الزيتون فيتغلغل في أصابعها ويزيد من دفء خصلاتي، تبدئين بتجديل الخصلات واحدة تلو الأخري، تضعين شريطا مطاطيا علي منابت شعري أولا، أخبرك أن جدتي تستطيع تضفير شعري دون الشريط المطاطي، بل وتقدم لي عصير مانجو "قها" أيضا علي الإفطار، العصير الذي ترفضين أنتِ أن أتناوله صباحا لأنك ترينه ثقيلاً علي المعدة، تبتسمين لكلماتي.
أضفر شعري الآن، لكنه أصبح أقصر، ويدي أكبر، أفعلها دون شريط مطاطي، كبرت علي زيت الزيتون ورائحة الفجر الطازج قبل أيام الدراسة الطويلة، إلا أنني لم أكبر بعد علي عصير "قها" الذي اختفي من الأسواق.
2
"أمسكيها ودخليها جوا سور البيت عشان العربيات متأذيهاش"
أحملها، كما أشارت علي أمي، من وسطها، فراؤها الأسود يظهر من بين أصابعي، أنظر إلي عينيها الوديعتين المرتبكتين، كم عمرها؟ يومان؟ ربما كانت أكبر بقليل فهي مفتحة العينين، ألمس قوائمها الغضة الدقيقة وأذنيها ذات الشكل المثلثي الناعم.
أدخلها إلي حديقة بيتنا ذي الأدوار الخمسة حيث وُلدَت، أمسك بباب الحديقة الحديدي المُفرّغ، أغلقه
خلفها حتي لا تخرج إلي الشارع من جديد.
أسكب بعض اللبن في غطاء أزرق لزجاجة، وبضع قطرات ماء بغطاء آخر أحمر، أجاورهما بداخل إصيص زرع مدوّر صغير ثم أحمل الهريرة ثانية فينبض قلبها في يدي، أضعها بداخل الإصيص وأتركها لتشرب السائل المغذي اللذيذ، أخرج في خفة إلي عملي بعد أن أغلق باب الحديقة ورائي بينما تقف أمي بشعرها الصبياني القصير في الشرفة تودعني إلي عملي ككل يوم.
لا تظهر أم القطة التي أخاف أن يلحق بها الأذي، فهي لا تزال صغيرة، تستطيع وضعها في كفك، وديعة وهشة مثلما سأكون يوم تتركني أمي، أو تختفي بملء إرادتها لسبب تخفيه عني، لكنها لو أرادت ذلك لفعلته منذ سنين، حين كنت أصغر ومسئوليتي أثقل.
3
علي كل حال، سأظل أنظر إلي الشرفة مرات ومرات كل صباح في انتظار أن تطل وتودعني، وحين لا أجدها ستنكسر نظرة عيني وتقنع بالنظر إلي الأمام دون الطموح إلي شرفات علوية قطنها الحنان في أيام خلت.
سأصحو مبكرا أبذر حبات الأرز علي سور الشرفة حتي تجد العصافير الرمادية الصغيرة ما يملأ خواء بطونها وستسألني -من المؤكد- عن أمي لكنني لن أرد، سأدخر اللحم والعظم والشغت لتأكل الكلاب فتهز ذيولها بينما تموء القطط في امتنان؛ لكنني لا أجيد طهو اللحم، أو أي شيء آخر علي الإطلاق، والبيت لا يكون دافئا دون طهو الطعام.
أدخل إلي مكتبي وأفكاري لا تزال تؤرقني، أحمد الله علي اختفاء العملاء اليوم والذي يتطلب وجودهم التنكر تماما للمشاعر الخاصة والابتسام باستمرار في وجوههم.
بعد ساعتين من الشاي والقهوة وعمل اللاشيء
أمسك بهاتفي واتصل بها:
آلو، ماما، عاملة أيه؟ أنا هاجي البيت بعد الشغل في ميعادي.. لغيت مواعيد بليل. ابقي بس اطلعي البلكونة وحياتك اطمني علي القطة الصغيرة.
أغلق الهاتف، وأتمني ألا تصيبني قذائف البرامج التي تحرص أمي علي مشاهدتها حين أصل البيت مبكرا، والتي تجعلها ذمع الأيام- تؤمن بنظرية المؤامرة، لكن الأمر الأكثر قسوة أنها تؤكد لي أن أمي -في النهاية- إنسان يخطئ ويصيب، وليست -كما كنت أظن كطفلة- إلهة كل ما تقوله وتفعله صحيح... ليتها ظلت إلهة!
4
أحادثها في ليل اليوم السابق له حتي لا تشك في علاقة تليفوني بعيد الأم، أطمئن عليها، أشعر بثقل بداخلي وكأن صديقتي قد نقلت ذدون أن تحس- ثقل يومها إلي صدري، يحتفل الجميع إلا هي ومن ماثلها، أنانية أنا، أطيب خاطرها كل سنة دون أن أفصح عن رغبتي في أن تطيب خاطري هي في المستقبل، أعلم أنني لن أستطيع لها مواساة لكنني أكفر عن نعمة وجودك معي.
أتصل بها بعد شهور، أخبرها بأن صورة والدتها في السبعينات، والتي تضعها علي حساب "الفيسبوك"، تطابق صورتها تماما، أتحاشي تذييل ذكرها ب"طنط الله يرحمها"، حين نتحدث عنها لا نذكر تلك الكلمة، لا
أستطيع تصور وقعها علي أذنيها بعد أن ثارت مرة حين نطقتُ بها حتي بعد مضي كل هذه السنين، هل تحررت بعد من خوف فقدها، بعد أن صار تاريخ الفقد معلوما ومدونا في شهادة رسمية أيضا؟
5
"سيداتي سادتي، ربع ساعة ويُؤذَن لصلاة المغرب حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة، وعلي السادة القاطنين خارجها مراعاة فروق التوقيت".
تبينت هذه العبارة من الراديو وأنا أدخل عليك المطبخ للمرة الثانية خلال ساعة، بعد أن غبت لأقرأ فصل "الصائم اليتيم" من كتاب أحمد بهجت "مذكرات صائم"، سألتك إن كنت تحتاجين لمساعدتي، نويت حمل الطبق الكبير- الذي كانت يدك تضع عليه لمسات أخيرة- إلي طاولة السفرة، كان الطبق طاجنا فخاريا يحمل بطاطس ما لبثت أن خرجت من الزيت الساخن، وبينما انهمكت يدك تعتني بالطبق لمحت عينك تتجه صوب عقارب ساعة المطبخ والروزنامة تحتها تشير إلي يوم من أيام رمضان.. ركزت نظرك وضيقت من حدقات عينيك تبصرين موعد صلاة المغرب المكتوب بخط منمنم أسفل الشهر.. قلت:
- ربع ساعة يا ماما، فاضل ربع ساعة علي الفطار.
زفرتِ ثم حملتِ إناء اللحم تسكبينه فوق البطاطس ثم ترسمين بالملعقة الكبيرة دائرة وهمية فوق الطبق ينسكب علي إثرها المرق فوق البطاطس واللحم معا. مددت يدي أحمله عنكِ فصرختِ "حاسبي، سخن عليكي يا حبيبتي"، طمأنتك إلي أنني "خلاص كبرت" ويجب ألا تخشي عليّ من أمور كتلك.
أمسكت بقماشتين سميكتين وحملت الطاجن حتي طاولة السفرة، ثم أخرجت كرسيا من كراسيها، وجلست متربعة عليه، فتحت الكتاب ثانية فاسترعي انتباهي فصل آخر هو "لماذا جئنا"، أمسكت بالصفحات حتي لا يطيرها هواء المروحة كما يشاء، ثم شرعت في القراءة.
6
انسابت أمامي التعازي علي شاشة الكمبيوتر، شاركت بتعزية علي استحياء، لم أعرف يوما كيف أتعامل مع من فقد عزيزا، أرتبك وأخشي أن يصدر عني ما يغضبه أو يؤلمه فيتضاعف الألم الذي لم أشعر به يوما، ربما الله يدربني حتي أستطيع التحمل، ويمكن أن يكون الأمر حظا لا أكثر.
أمسكت بهاتفي بقبضة عصبية مبتلة، أحاول معها إرخاء صوتي وأحبال حنجرتي حتي لا يشعرا بالتوتر الصادر عني، هاتفتهما، فرح جدي وجدتي أيما فرح بمكالمتي، كأن الأمر حدث جللُُ في يومهما الشائخ الممل، دعوا لي فرن صوتهما في أذني التي حاولت نقل ذبذبات الاطمئنان إلي إدراكي، إدراكي الأحمق الذي يخاف التلفت حتي لا تتغير معالم عالمه الهش الضعيف. وعدتهما بزيارة قريبة تملأ الفراغ الذي سببه طول سنينهما واستكفائهما من كل ما تقدمه الحياة.
7
أجلس بمحاذاة يدك نتبادل الحديث .. تهتز هي وأنت تغمسين كعك العيد بطبق السكر، تغلفينه، ثم تضغطين علي سطحه المنقوش تثبتين طبقات السكر علي جسده الرهيف، تزفرين وتبللين شفتيك ببعض الماء الذي يهتز هو والكوب وأنت تعيدينه إلي مكانه علي الطاولة المغطاة بمفرش ملون بأشكال الخيامية، بين أصابعك تستقر الكعكة، تلفين قرصها، تديرينها كالعجلة، تطمئنين من امتصاص الحواف لذرات السكر، تضعينها برفق في فمي، تغلقين علبة من الصفيح الأحمر علي الكعكات أخواتها، تنفضين السكر العالق بأصابعك بداخل العلبة ثم تضغطين بكامل كفك -الذي ترقشه البقع البنية- علي الغطاء فينغلق بإحكام .. يرتج الغطاء قليلا تحت يديك مُصدرا صوتا خفيفا.
8
تفتحين الباب لي، وجهك ليس سعيدا، تجاعيده ثقيلة اليوم.
- في إيه يا ماما؟ وأنا طالعة دلوقتي باب الجنينة كان مفتوح.
- أكيد حد من السكان فتحه ومقفلوش وراه.
- طب والقطة أمها لسه مظهرتش؟
- لا مظهرتش. بس القطة نفسها طلعت الشارع و...
- خلاص يا ماما. عرفت.
دمعت عيناي، وأحسست باختناق نبهني إلي أنني لا أزال أستطيع التنفس. أمسكت بكتف أمي واحتضنتها.
قالت أمي بعدما بدأت أمسح دموعي:
- روقي بقي خلاص مفيش حاجة نقدر نعملها .. عارفة لقيتلك إيه في السوبر ماركت النهارده؟ عصير مانجا "قها" اللي بتحبيه .. يلا روحي اغسلي وشك وهاتيه من التلاجة نشرب منه سوا.
- يااااااه .. ده أنا بقالي سنين مش عارفة ألاقيه.
اتجه إلي الحمام لأغسل وجهي، بينما يتجمع مذاق العصير في فمي.
نكهة متفجرة
لماذا أريد أن أكتب لك قصة أقول لك فيها إنني أحبك؟ لماذا لا أقولها مرة واحدة وأكتفي؛ فصدي الصوت دائما ما يوهن الأشياء. ربما أخاف من تكرارها فتفقد المعني بعدما أتخلص من حملها علي لساني الذي يشمها كرائحة السكر نبات في جو بحري رطب.
كل مكرور مملول يا حبيبي، وأنا أخاف أن يكون أدائي للفظة بلا روح ولا معني، أجزع حين تمطرني بحلو الكلام لأنني لا أتبين ألفاظه أو أفسرها فتغدو كسحابة من الحلويات تمطر قليلا ثم تنقشع.
لماذا أجلس اليوم في "ماكدونالدز"، وأتلفت كلما سنحت الرغبة للطاولة التي جمعتنا يوما في هذا الجو الصاخب، وجمعت اثنين في أيام أخر لم تكن أنت متواجدا فيها، أدندن لا إراديا أغنية فيروز "في قهوة ع المفرق" وأجد نفسي، ككل الأحباء، مبتذلة، أكرر نفس الأغاني ونفس المواقف والشعارات.
فيروز التي لا تحبها ويحبها غيرك كانت تغني للأحباء الجدد "عشاق اتنين صغار قعدوا علي مقاعدنا .. سرقوا منا المشوار"، ساعتها لم تكن تجلس هي وحبيبها في مطعم للوجبات والعلاقات السريعة، سريعة كقصتي التي لا أملك
نفسا طويلا للانتهاء منها وأنا أفكر، في جانب بعيد ومظلم من رأسي، هل سرقت حقا منك المشوار؟
أحاول كتابة كلمة النهاية وألهث بعدها، ولا أملك أصابع رفيعة صبورة أغزل لك بها منديلا، فالمناديل الورقية أصابت أصابعي بالكسل، وقطعت عادتها التي تشتهي الغزل، ولا تحسب أيام الشتاء إلا بطوله.
أجرب التخلص من حمل القصة التي تعيق حركة الدموع في عيوني، فأتخلص منها كالقذي الأصفر الساقط غير مأسوف عليه، ولا أدخن سيجارة كنزار قباني، فالمطعم السريع مانع لراحة البال والتدخين.
ربما تقول: تحتاجين لنوبة صرع أخري تنتهي بحمي تحرضك علي كتابة قصة حارة تبتعد أميالا عن ثلج المسافة بيننا، وثلج الأفراد أيضا، قصة كانت قبل تكونها جنينا قد تكثفت حرارة علي جبيني أو حاولت كدرب من المستحيل أن تذيقني طعم الهناءة فتفجره في فمي.
أحاول الخروج من الصندوق وزيارة أي مقهي آخر يتسع سقفه الشاهق لمشاجراتنا التي كانت لا تهدأ لأنني أعرف في قرارة نفسي أنني لا أحب سواك فأستفزك. كانت المشاجرات ترتفع عاليا كصف من لعب الأطفال في محل مترب، ثم تتساقط معلنة انتهاء الشجار لتنام أنت بجانبي علي الوسادة عبر ذبذبات الهاتف المحمول. وفي لغوك السابق لنومك تقول وقد أثقل التعب صوتك:
"أحبك .. لا أزال أحبك أيتها الخائنة رغم كل شيء".
سر الميزان
صعدت هالة فوق الميزان، نظرت إلي المؤشر فلم تر شيئا، اغتاظت وذهبت لتحضر نظارتها الطبية، وقفت فوقه ثانية وبعدها خطت علي ورقة صغيرة وزنها الحالي، ثم ذهبت لتصلي المغرب في المساحة الصغيرة بين سريرها وسرير أخيها.
بعد الصلاة هرعت إلي الميزان، ونظارتها تهتز فوق أرنبة أنفها، تتأكد من تأثير الصلاة التي تمحو الذنوب فيصبح الإنسان أقل حملا وأخف وزنا وأنقي سريرة. أملت في أن تصبح أقل وزنا كما قرأت في كتاب الدين، لكنها لم تصل إلي مبتغاها فحين قارنت بين الوزنين وجدتهما واحدا.
كررت نفس العملية لمدة أسبوع، تزن نفسها قبل الصلاة وبعدها فلا تجد فرقا، حتي أصيبت بالغم الشديد، وأخبرها وسواسها أن الله لم يعد يحبها، فأصرت علي صيام يوم بأكمله وعكفت علي قراءة المزيد من صفحات مصحفها الصغير حتي أنهت سورة البقرة -التي ظنت أنها لن تنهيها أبدا- بل وأكثرت أيضا من الدعاء "يا رب أرجوك حبني .. ده أنا بصلي وبصوم وبقرأ قرآن زي ما حضرتك أمرتني".
وقفت هالة في طابور الصباح خلف صديقتها ندي الأطول منها، والتي تحجب بطولها الفارع ضوء الشمس المزعج عنها، تحب التطلع إلي لون ضفيرتها الذي يتحول إلي لون السناجب تحت أشعة الشمس. هي لا تحب التقدم في الطابور الذي تبذل زميلاتها الكثير من أجل التقدم فيه، ويعقدن الصفقات التي قد تشمل تبادل السندويتشات أو الحلويات أو البرايات والأقلام الجذابة.
أمسكت يدها تفركها وقد تبللت بقطرات عرق بارد، همت تسأل ندي عما إذا كان وزنها لا يخف أيضا من أثر الصلاة لكنها خافت، صحيح أن ندي صديقتها الصدوقة، وأنها من القلائل اللائي لا يضايقنها في الفصل إلا أنها خشيت أن تكتشف من كلامها أن الله فعلا لا يحبها. وفي أثناء ترددها هل تفصح أم تصمت تحرك الطابور متجها إلي الفصل.
في الفسحة لم تطق صبرا، كان الموضوع قد ملأ عليها تفكيرها ولم تستطع التخلص من إزعاج رأسها في محاولاته إيجاد سبب لما حدث. جرت متشنجة صوب ندي، التي كانت تقضم قضمة السندوتش الأخيرة، وسألتها فلم تفهم. تحركت غُرتها الكثيفة وهي تخبرها "نسأل سندس"، وقبل أن تنطق هالة ب "لا بلاش" كانت ندي قد تطوعت تنادي سندس بعلو صوتها.
دق قلب هالة خائفا وسندس تقترب فتطوعت ندي تسألها عما يؤرق صديقتها. نظرت سندس إليهما في ريبة ثم قالت "حرام .. اللي بتقولوا عليه ده حرام"، ابتسمت ندي وراحت تسألها "حرام إزاي يعني؟"، "هو كده"، أجابت سندس ثم استدارت وابتعدت عنهما في خطوات ثابتة، فتوقف سباق الدقات المحموم بقلب هالة.
بعدها بيوم - وأثناء حصة الدين - نظرت هالة إلي "مس ابتهاج" وقد عقدت ذراعيها أمام صدرها استعداداً لقراءة القرآن، فكرت أن تسأل "المس" بعد نهاية الحصة، لكن المس ضبطت صديقتها هند تتشاغل عن الدرس بإطعام ورقة توت لدود القز بعدما وضعت كيس الدود في فجوة المكتب أمامها حتي لا تنتبه المُدرسة إليه، فما كان من "مس ابتهاج" إلا أن ألقت بالكيس تحت قدميها ودهست الدود، فارتاعت هالة.
احتوت يد الجد كفها الصغير وقد أتي لاصطحابها إلي بيته في نهاية اليوم الدراسي. أخذت تهز يده في الشارع وهي تحجل طوال طريقها لمنزل الجد.
فكرت أن تسأل جدها الذي تحبه فهو رجل كبير "وبقاله كتير عايش وأكيد هيكون عارف". بعدما حكت هالة لجدها عن سرها وسبب همها ابتسم وربت علي رأسها وأجلسها علي حجره الدافئ فبدأت تلعب في حزام روبه المنزلي الصوفي كعادتها.
أخبرها أن الإنسان يخف صحيح بعد الصلاة، لكن ذلك لا يحدث للأطفال الصغار مثلها، فالله يحبهم ولا يقبل أن يقل وزنهم في هذه السن حتي يصبحوا كبارا ويدخلوا المدرسة الثانوية وبعدها الجامعة إن شاء الله.
اقتنعت هالة بكلام الجد واستكانت الأسئلة في رأسها بعدما اطمأنت إلي أن الله لا يزال يحبها، لكنها ظلت طوال السنين التالية- تبتسم متذكرة جدها كلما صعدت فوق الميزان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.