الأوراق المطلوبة للتقديم في المدارس المصرية اليابانية ولماذا يزيد الإقبال عليها ؟.. تعرف علي التفاصيل    وكيل مجلس الشيوخ: الدولة لديها رؤية لتحسين إنتاجية القطن المصري    محافظ كفر الشيخ: لدينا 7 مواقع جاهزة لتوريد القمح في مركز دسوق    انعقاد حوار السياسات السنوي بين مصر واليابان بالنصف الثاني من العام الجاري    «تنمية المشروعات» يمول 24 عقدًا لتطوير البنية الأساسية في الدقهلية ب 185.2 مليون جنيه    «الزراعة»: صادرات مصر حققت طفرة كبيرة خلال الربع الأول من العام الحالي    السيسي يبحث مع رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية التطورات الإقليمية والدولية    موعد مباراة الأهلي المقبلة في دوري أبطال أفريقيا.. وتردد القنوات الناقلة    فيفا يصدم الزمالك بعد حسم القمة ومفاجأة ل الأهلي «مستندات»    بالمر يشكر تشيلسي على منحه الفرصة للتألق في الدوري الإنجليزي    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة .. تدريبات بدنية لرجال الأهلي    ضبط 3 تجار مخدرات بحوزتهم 5.5 كيلو حشيش في الأقصر    الكورنيش اختفى.. الشبورة المائية تغطي سماء الإسكندرية (صور)    تفاصيل جديدة حول أسباب حريق شقة نجل الفنان فؤاد المهندس بالزمالك    بندقية بلاستيك.. الأمن يكشف ملابسات استعراض شابين بدراجة وسلاح في العمرانية    أمير المصري يلعب دور نسيم حامد في فيلم the giant مع بيرس بروسنان    الفيلم المصري «شرق 12» يشارك في «أسبوعي المخرجين» بمهرجان كان السينمائي    هيئة الدواء تحذر من أدوية إنقاص الوزن عبر الإنترنت    جدول امتحانات الأزهر الشريف.. وتنويه مهم بشأن المقررات الدراسية    الأهلي يستعيد خدمات مروان عطية في رحلة الكونغو    ضبط 23 مليون جنيه في قضايا اتجار بالعملة خلال 24 ساعة    كولر يفاجئ لاعبيه بعد الهزيمة من الزمالك    تفاصيل المرحلة الثانية من القافلة السادسة لدعم غزة.. تشمل 2400 طن مساعدات    مصدر: وزير الخارجية المصري يتوجه إلى تركيا قبل زيارة مرتقبة للسيسي    "الصحة": ميزانية التأمين الشامل تتحقق تغطية ل 70% من المواطنين (فيديو)    امتى هنغير الساعة؟| موعد عودة التوقيت الصيفي وانتهاء الشتوي    14 مشروعا كمرحلة أولى لتطوير موقع التجلى الأعظم بسانت كاترين    "التعليم" تخاطب المديريات بشأن المراجعات المجانية للطلاب.. و4 إجراءات للتنظيم (تفاصيل)    وكيل الأزهر للعاملين ب "البحوث الإسلامية": الظروف المحيطة تحتاج مزيدا من الأداء    ضبط 171 قضية مخدرات و27 قطعة سلاح خلال 24 ساعة    بضربة شوية.. مقتل منجد في مشاجرة الجيران بسوهاج    رئيس جهاز العبور يتفقد مشروع التغذية الكهربائية لعددٍ من الموزعات بالشيخ زايد    ارتفاع حصيلة ضحايا الأمطار والعواصف وصواعق البرق فى باكستان ل 41 قتيلا    توقعات برج الميزان في النصف الثاني من أبريل 2024: «قرارات استثمارية وتركيز على المشروعات التعاونية»    مستشار المفتي: مصر قدَّمت مع ميلاد جمهوريتها الجديدة نموذجًا محكما في التواصل العالمي    ربنا مش كل الناس اتفقت عليه.. تعليق ريهام حجاج على منتقدي «صدفة»    «افرح يا قلبي».. أحدث إصدارات هيئة الكتاب ل علوية صبح    ثلاثة مصريين في نهائي بلاك بول المفتوحة للاسكواش    قراصنة دوليون يخترقون بيانات حساسة في إسرائيل    ميكنة الصيدليات.. "الرعاية الصحية" تعلن خارطة طريق عملها لعام 2024    بالتزامن مع تغيير الفصول.. طرق الحفاظ على صحة العيون    بالأسماء، تنازل 21 مواطنا عن الجنسية المصرية    بعد تصديق الرئيس، 5 حقوق وإعفاءات للمسنين فى القانون الجديد    معلومات الوزراء: الطباعة ثلاثية الأبعاد تقنية صناعية سريعة النمو    هل أداء السنن يغني عن صلاة الفوائت؟ أمين الإفتاء يوضح    رد الدكتور أحمد كريمة على طلب المتهم في قضية "فتاة الشروق    أوكرانيا: الجيش الروسي يقصف 15 منطقة سكنية في خيرسون    تحرير 31 محضرا بمخالفات لمخابز فى السنبلاوين    جوتيريش: بعد عام من الحرب يجب ألا ينسى العالم شعب السودان    الصين تؤكد على ضرورة حل القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين    «الصحة» تطلق البرنامج الإلكتروني المُحدث لترصد العدوى في المنشآت الصحية    دعاء ليلة الزواج لمنع السحر والحسد.. «حصنوا أنفسكم»    أحمد كريمة: تعاطي المسكرات بكافة أنواعها حرام شرعاً    أبرزها عيد العمال.. مواعيد الإجازات الرسمية في شهر مايو 2024    «حلم جيل بأكمله».. لميس الحديدي عن رحيل شيرين سيف النصر    أيمن دجيش: كريم نيدفيد كان يستحق الطرد بالحصول على إنذار ثانٍ    دعاء السفر قصير: اللهم أنت الصاحبُ في السفرِ    رئيس تحرير «الأخبار»: الصحافة القومية حصن أساسي ودرع للدفاع عن الوطن.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ف . ج . زيبالد : المشي بين آورقة الذاكرة الوقوف علي حافه السرد
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 07 - 2016

عند زيارتي النصب التذكاري للهولوكست في برلين سيطر عليّ إحساس خانق يملأ هذا المكان الكئيب، عرفت لاحقًا أن هذا كان الغرض الأساسي من إنشاء تلك الكتل الأسمنتية، فقد تم تصميمها بطريقة تبعث الحزن والكآبة في نفس كل من يمر بها، جدل كبير دار حول ضرورة إقامتها، عشر سنوات كاملة والمجتمع الألماني بين مؤيد ومعارض حتي تم التصويت بالموافقة في آخر التسعينيات ليتم افتتاحها في 2005، جدل كبير يدور في ألمانيا حتي الآن حول عقدة الذنب تجاه الجرائم النازية؛ هل يجب نسيانها ومنع الحديث عنها لكي يتم تجاوزها تمامًا أم تظل ماثلة أمام الأجيال الجديدة طوال الوقت لتذكرهم بويلات الحروب والدمار حتي لا يتكرر ذلك أبدًا.
"...خلفت الحرب دمارًا ماديًا ومعنويًا في كافة أنحاء البلاد، وقد نال الجميع نصيبهم منه، وعلي الكتاب الشباب تركيز اهتمامهم بذلك من تلقاء أنفسهم، لكي لا ننزلق إلي تلك الأهوال مرة أخري."
هكذا صرح ف. ج. زيبالد الكاتب والأكاديمي الألماني في حوار مع مجلة دير شبيجل عام 1998 وقد كان من أشد أنصار الرأي القائل بضرورة التذكير بما حدث، مارس هذا في معظم أعماله من خلال نبش وإرهاق الذاكرة، وإصراره علي مقاومة فقدان المجتمع لذاكرته من خلال استدامة التأمل في ما مر به من كوارث، كانت لديه قناعة تامة بعدم إمكانية الكتابة المباشرة عن التاريخ الحديث لبلاده، "لا يمكننا الاقتراب وجها لوجه، لأن ضخامة ويلاته شلت قدرتنا علي التفكير أخلاقيا ومنطقيا."
للأسف مازال زيبالد بعيدًا عن ثقافتنا الناطقة بالعربية رغم شهرته العالمية التي قادته إلي أعتاب نوبل ذ حيث تم ترشيحه وكاد يحصل عليها لولا موته المفاجئ ذ فينفريد جيورج ماكسيميليان زيبالد اسم طويل وصعب شأن العديد من الأسماء الألمانية لدرجة أن صاحبه قرر اختصاره في لقبه الأخير.
ولد زيبالد عام 1944 في بافاريا بألمانيا حيث كان والده أحد جنود الجيش الألماني في العهد النازي، ثم صار أسيرًا في فرنسا حتي عام 1947 حين التقي بابنه للمرة الأولي، شاهد الطفل زيبالد صورا لآثار المحارق النازية وظل يبحث عن أجوبة علي أسئلته لكن لم يجرؤ أحد علي الشرح له؛ لذا ظلت تلوح في معظم أعماله ذكريات تلك الأحداث المهولة التي مرت بألمانيا.
"المدينة تغرق خلفي
وأنا عائد لمنزلي في المساء
أقرأ مذكرات صموئيل بيبيس
عن حريق لندن الكبير
الناس يقفزون في القوارب
حمام كثير مقتول
الذعر يملأ النهر..."
درس زيبالد الأدب الألماني والإنجليزي في جامعة فرايبورج، ثم انتقل إلي سويسرا مدة قصيرة ليعود بعدها إلي ألمانيا ثم يهاجر في نهاية الستينيات بشكل نهائي إلي بريطانيا حيث تزوج من زميلة دراسته النمساوية وعمل محاضرًا في عدة جامعات بريطانية ليصير لاحقًا أستاذ الأدب الألماني المعاصر في جامعة إيست أنجليا حتي وفاته المفاجئة عام 2001 عندما داهمته نوبة قلبية أثناء قيادته السيارة مما أفقده السيطرة وعرضه لحادث تصادم مع شاحنة، أقيم قبره في باحة كنيسة سانت أندرو في نورفولك.
أسس زيبالد أول مركز للترجمة الأدبية في جامعة إيست أنجليا البريطانية، حيث كان يكتب وينشر بلغته الألمانية ويشرف بنفسه علي ترجمة أعماله إلي اللغة الإنجليزية؛ وبالرغم من ذلك لم تتم ترجمة أي عمل له إلي اللغة العربية حتي الآن، لا يمكنني تبرئة المترجمين وأنا منهم غير أن هناك عدة عوامل أخري أهمها أسلوبه في الكتابة وتحكم السوق في تحديد وأحيانًا فرض أعمال معينة للترجمة وربما إعادة الترجمة للحصول علي مكاسب سريعة مباشرة.
تطلب الأمر بلوغ زيبالد سن الرابعة والأربعين لكي يصدر أول أعماله (ما وراء الطبيعة) 1988 ربما استهلكته الأعمال الأكاديمية أو كان يظن أن فعل الكتابة يحتاج لحالة خاصة من النضج، كتابات زيبالد في كثير من الأحيان تبدو كما لو كان يجري هاربًا من القبر، فجأة يصبح الماضي حاضرًا، والحاضر يتلاشي ببطء، "أشعر أكثر وأكثر كأن الزمن غير موجود علي الإطلاق".
أعمال زيبالد تقع خارج دوائر التصنيف الأدبي حتي ما كتب علي غلافه رواية أو شعر، فقد كان يكتب بشكل يختلط فيه أدب الرحلات بالسيرة الذاتية، والخيال بالواقع، والشعر بالنثر، وتأملات المدن والعمران بالمشي بين أروقة ذاكرة البشر ليصل من خلال هذا التنوع إلي حافة السرد التي تمكنه من إحداث تأثير واقعي بدون إدعاء عمق أو سطحية.
تتابعت أعماله التي بلغت غاية النضج فأصدر (الدوّار) 1990 (المهاجرون) 1992 (مدارات السرطان) 1995 (أوسترليتز) 2001 ثم مجموعة من قصائده المختارة (عن الأرض والمياه) صدرت في 2008 بعد وفاته بسبعة أعوام، اعتمد زيبالد علي الصور الفوتوغرافية في الحكي ليس لخلق التأثير الواقعي فحسب لكنه صنع منها مادة روائية متكاملة مع منظومته السردية المتطورة تضيف لها بعدًا توثيقيًا ولغة متصلة تفصح عند عجز اللغة الأخري عن التوضيح، هذه الصور قد تكون قديمة أو حديثة، عامة أو عائلية، بعضها لأفراد أو أماكن التقطت بعدسات هواة، والبعض الآخر تفاصيل لوحات تشكيلية أو قصاصات جرائد أو ملصقات وأغلفة كتب أو صفحات مفكرة... وهي وإن تخللت السرد فإنها لا تخلخل سياقه وإنما لإيضاحه أو تعزيزه بشواهد مادية ملموسة، فتبدو كأنها تلعب دوراً مماثلاً لما تلعبه الصور في الكتب المصوّرة أو المدعمة بالوثائق.
"من الصعب فهم تلك المناظر؛
التي تراها عبر القطار السريع
الذي يوصلك إلي الماضي
حيث تختفي بصمت..."
لم يكن زيبالد يكتب روايات يمكنك إعادة حكيها أو تلخيصها بعد قراءتها، فهو ليس لديه إجابات، ربما كان يعتقد أن الأسئلة وحدها كافية، لا تزال أعماله حتي الآن فريدة من نوعها، تجربة القراءة له تحدث ارتباكا رائعا، تحتل كتبه تلك المناطق غير المستقرة، المتنازع عليها بين الخيال والواقع، لا يوجد لديه حبكات واضحة، كما أن أحداثه الرئيسة تتسرب من بين يدي القارئ لتجعله يلاحقها في شغف حتي إذا جاءها لم يجد شيئًا وأدرك أن الكنز في الرحلة.
تتناول (ما وراء الطبيعة) حياة ثلاثة أشخاص من خلال ملاحقتهم بالأسئلة النهمة، الأول الرسام الألماني في عصر النهضة ماتياس جرونيفالد، والثاني عالم النباتات جيورج شتيللر الذي يقود بعثة علمية للقطب الشمالي، والثالث هو زيبالد نفسه الذي يصف التجول في الطبيعة للذين يعانون من تحطيم ثوابتهم القديمة، من خلال رؤية مؤرقة للعالم يمزج بين التاريخي والشخصي وينتقل من دمار الحاضر وفقدان الذاكرة الجمعي للحديث عن حي فرانكفورت في العصور الوسطي.
"...مهما كان التنظيم بسيطًا، لكنه يتجلي في الأماكن الجميلة، ويكون مريحًا أكثر من قسوة الجهل بالماضي، علي أي حال، لا بد من العودة للعثور علي بداية جديدة."
(الدوار) أو (فيرتيجو) مرض يشعر فيه المصاب بدوران الجسد أو المكان أو الاثنين معاً، مع عدم القدرة علي حفظ التوازن، من خلال نبش زيبالد في الذاكرة يدخلنا في الشعور بانعدام اتزان الكون، يقودنا الراوي المجهول ذ الذي يعاني من أمراض عصبية ذ في رحلة لجمع أشلاء الشعر من الماضي في شتي أنحاء أوروبا وسط أشباح أدبية قلقة لكافكا وستندال وكازانوفا، في أربعة أقسام مذهلة يغرق الراوي القارئ في الدوار ليضعه في حالة مربكة للغاية ليصنف بعدها الناقد دانيال ميدين زيبالد كأحد أبناء كافكا الثلاثة مع كوتزي وفيليب روث.
أثناء قراءتي (الدوار) تذكرت مبدعنا الجميل أحمد الشيخ وقصته الرائعة (النبش في الدماغ) حيث يصطحبنا الشيخ للتجول عبر ذاكرة أربعة أشخاص لا يوجد رابط بينهم سوي المكان، كان البراح الذي يسمح بالتأمل، والتفرد الذي يؤكد الهوية من أهم العوامل المشتركة بينه وبين زيبالد، (الدوار) نص يتنبه جيدًا لطبيعة السرد الأدبي وحدوده، وفي الوقت نفسه الإتيان بسرد يحتوي كل عناصر الكتابة في قوام جامع ومتماسك.
"بفضل قراءتي المسائية وحدها ربما ما زلت أشعر أني عاقل، كم تمنيت خلال ساعات الأرق الطويلة الانتماء لأمة أخري، أو أفضل من ذلك؛ عدم الانتماء لشيء علي الإطلاق... تلك التفاصيل الصغيرة غير المحسوسة تقرر لنا كل شيء!".
توثق رواية (المهاجرون) في بساطة شديدة قصة حياة أربعة من المهاجرين اليهود في القرن العشرين، لكن تدريجيًا يتسلل نثر زيبالد مثل الحلم ليرسم قصصهم ويدمج حكاياتهم الأربعة لاستعادة ذكرياتهم الهائلة حول المنفي والخسارة، حيث تنتهي حياتهم جميعًا إما بالانتحار أو الجنون، هذه الرواية مكتوبة بإحساس عالٍ من السخرية والافتتان بالغرابة من المهاجرين في مزيج مسكر من وقائع الذاكرة والخيال والصور الفوتوغرافية.
يأخذنا زيبالد في رحلة العودة إلي الماضي والسفر عبر سويسرا، وفرنسا، وأمريكا، وبريطانيا، والقدس، والقسطنطينية، يمكننا رؤية كيفية جمعه للخرائط، واليوميات، والصور، من الناس والأماكن، والمنازل، والسكك الحديدية، كل آثار الهجرة عبر المدن والفنادق والأنهار، حيث تبدو كتصفح ألبوم عائلي، إنها مثل تدريبات استعادة الذاكرة، في البداية تظن أن القصة عن المحرقة والحرب، لكن مع استرسال السرد تجده يتحدث عن الأشخاص المحرومين من بلادهم، وتم اقتلاعهم منها.
تحكي (المهاجرون) أيضًا عن الشوق واستمرار وجود الذاكرة، والتشابك بين الأحاديث والذكريات، إنه كتاب عن ظاهرة الذاكرة، وفقدان البلاد في مرحلة الطفولة، وشوق العودة وقت الرحيل، إنها قصة عن استحالة ترك الماضي أو نسيانه.
"الذاكرة.. تبدو لي في كثير من الأحيان كنوع من الخرس، يثقل رأس المرء ويصيبه بالدوار، كالذي يحدث عند السقوط من ارتفاع كبير، من فوق أحد تلك الأبراج التي تتواري قممها بين الغيوم... يشعر بالقرب أكثر من التراب ثم الضوء والهواء والماء.. في بعض الأماكن كانت الأمور لا تزال بدون عائق، صامتة، ملبدة، عند ذوبان الحدث، شيئا فشيئا، نحو العدم.".
تحدثنا رواية (مدارات السرطان) بقصة شخص مجهول يتجول ماشيًا عبر الريف الإنجليزي، حيث يصف الأماكن التي يشاهدها والأشخاص الذين يمر بهم أثناء رحلته، وهو يري أن بعض العلل النفسية أو الجسدية التي تحدث له ربما كانت بسبب النجوم ومداراتها، تتداعي ذكرياته فينتقل بالحديث عن إحدي لوحات رامبرانت الشهيرة، ثم الأشجار والبلاد والموانئ والشواطئ التي يمر بها، يصحبه في رحلته مجموعة من الأشباح؛ توماس براون، وجوزيف كونراد وآخرون.
ينسج زيبالد حكايته ليضيف تعقيدا تاريخيًا يدمج بسهولة كل من الحقيقة والخيال، كما أشادت سوزان سونتاج بهذه الرواية علي وجه الخصوص ووصفتها قائلة أنها "واحدة من الأعمال القليلة العظيمة في السنوات الماضية".
"في الحقيقة الكتابة هي الطريقة الوحيدة يمكنني من خلالها التعامل مع تلك الذكريات التي تربكني بشكل غير متوقع في كثير من الأحيان، إذا ظلت حبيسة، فإنها تصبح أثقل وأثقل مع مرور الوقت، حتي أنه في النهاية أود الاستسلام تحت وطأة تصاعدها، ذكريات تقبع داخلنا لشهور وسنوات، تنتشر بهدوء، حتي نستيقظ لندرك بطريقة غريبة ما حجب عنا في الحياة... علينا أن نكون بلا ذاكرة؟ لن نكون قادرين علي ملاحقة حتي أبسط الأفكار، فإن القلب الأكثر حساسية يفقد القدرة علي إظهار المودة، ووجودنا سلسلة لا تنتهي، وذكرياتنا مجرد لحظات لا معني لها، لن يكون هناك أي أثر ضعيف للماضي، الأوهام الزائفة، عقيمة جدا، شعوري بالغربة أصبح بغيضًا أكثر وأكثر."
(أوسترليتز) إحدي أشهر معارك نابليون اقتبس زيبالد اسمها ليصير في روايته الأخيرة اسم طفل في الخامسة تم إرساله عام 1939 إلي إنجلترا ضمن مشروع تبنته بريطانيا لإنقاذ الأطفال في العهد النازي، يتبناه زوجين محرومين من الإنجاب، يحاولان محو ذاكرته وهويته ليكبر وهو يجهل تمامًا كل شيء عن ماضيه، يصبح أوسترليتز مؤرخًا معماريًا وبعد تجنب كل الأدلة التي قد تشير إلي أصله يجد الماضي طريقًا ليعود إلي مطاردته، فيضطر لاستكشاف ما حدث قبل خمسين عاما.
تعد (أوسترليتز) العمل الأطول والأهم لزيبالد، برزت فيها بوضوح أهم ثيماته الكتابية، كالزمن، والذاكرة، والهوية، والاهتمام الخاص بالبشر والأماكن، تجلت فيها قدراته الرائعة في السرد وخلق حالة من التأثير الواقعي يصيبنا.
"فيبدو كما لو أن كل لحظات حياتنا تشغل نفس الحيز، وهناك أحداث مستقبلية موجودة بالفعل تنتظر فقط أن تجد طريقا لها في الماضي... وربما لا يكون."
"لا يمكن لأحد أن يفسر بالضبط ما يحدث داخلنا عندما نغلق الأبواب خلفنا، حيث نلقي أهوال طفولتنا الكامنة... كلما أفكر في ذلك أكثر ما يبدو لي أننا لا نزال علي قيد الحياة في نظر الموتي، فقط في بعض الأحيان عبر الأضواء والظروف الجوية لا يبدو أننا في مجال رؤيتهم."
"ينبغي علي الكتابة أن لا تخلق انطباعًا بأن الكاتب يحاول أن يكون شعريًا"، هكذا يوجه زيبالد نصائحه للكتاب، فعند اشتباك عوالمه السردية ينساب النص شعرا، كتب زيبالد الشعر في مراحل مختلفة من حياته وتم جمع معظم أعماله بعد وفاته في ديوان عنوانه (عن الأرض والمياه) ضم قصائد مختارة كتبها من 1964 حتي 2001 صدرت بالألمانية في 2008 وبالإنجليزية في 2012 .
زيبالد مثل كثيرين غيره، نشأ في ظل أسوأ كابوس مر بالبشرية، لكن عبر تجوله المستمر بين أروقة الذاكرة استطاع خلق حالة من التأثير الواقعي في نفوس معاصريه والأجيال التالية له، ليقف متفردًا علي حافة السرد.
الاقتباسات الواردة في المقال من أعمال زيبالد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.