هل النص يخضع لمفهوم القارئ أم أن القارئ يخضع لمفهوم النص؟ هل أي نص يُكتب يتشكل حسب معتقدات ومسلمات البيئة التي نشأ عليها المتلقي أم أنه يتعدي ذلك لينتج دلالات تتسع للزمان والمكان الإنساني بمختلف عصوره، أم أنه خاص بأمة عن غيرها من الأمم؟ كلها أسئلة حاول الكثير من علماء اللغة والمفكرين والمختصين أن يبحثوا عن إجابات، تلك الإجابات التي من شأنها أن تُخرج الإنسان العربي خاصة من أزماته ومشاكله العديدة والمتوالدة عبر قرون طويلة من الزمن. وفي اعتقادي أن انحصار الوعي في بيئة متوارثة هو ما أنتج تفسير اللغة القاصر لخلق آفاق متعددة من الاحتمالات في رؤية متعددة للنصوص التراثية التي أنتجتها البشرية. والأساطير تعد منتجا إنسانيا متوارثا لمختلف شعوب الأرض منذ بداية وعي الإنسان ومحاولته لتفسير الظواهر الطبيعية التي تحدث حوله. عالمية النصوص الأسطورية إن العديد من النصوص الأسطورية لم تنحصر عند شعب معين ، بل إن النص الأسطوري موجود في الثقافات الشعبية المختلفة ومن بين هذه الأساطير، أسطورة الطوفان، التي ذكرتها النقوش القديمة البابلية والسومرية وكتب العهد القديم والقرآن وقد ذكرتها أيضا أساطير الهنود الحمر وغيرها. ليس تحديدا هنا لنص بعينه نخوض في تركيبه ومنشئه اللغوي البيئي الذي كتب عليه ،ولكننا سنبحث عن المعني وأين يكمن.. الذي يعد في الفكر الفلسفي أو الكلامي خارج العقل ... المعني في الوجود، وعلي العقل أن يكتشف قوانين الوجود ويستنبط المعني منه. "المعني هو جدلية الوجود والوعي، المعني هو التجربة .. ليس هناك وعي مستقل خارج الذات العارفة، ووعي الذات العارفة لاتستقل عن تجربة الذات العارفة، وبالتالي المعني لا يكمن في الخارج تماما، ولا يكمن في الداخل تماما، بل هو العلاقة بين الداخل والخارج، وهو الجدلية." تقابلنا في الكثير من النصوص الشعرية المعاصرة ظاهرة توظيف الأسطورة، التي تشكل بعدا عميقا في التعبير الشعري، والذي يعكس أزمة الإنسان والحضارة المعاصرة، النص الشعري المعاصر الذي انفتح علي التراث الميثولوجي الإنساني فتأثر به وأثر فيه، يتحول الأسطوري إلي شعري لتكوين إيدولوجيا جديدة لتلك الأساطير، التي "تهجع في اللاوعي الإنساني، تعبر عن ذاتها في الحلم علي مستوي الفرد والأسطورة علي مستوي الجماعة وتسمي النماذج الأصلية. إن علاقة الشعر بالأسطورة علاقة قديمة تشهد لها العديد من المخلفات الفنية كالملاحم البابلية والأغريقية، والصينية، وليس مستبعدا أن تكون الملاحم الشعرية قد جاءت من التراتيل والابتهالات الدينية، التي كان يؤديها الكهنة وسدنة المعابد. وهنا يقابلنا نص شعري في طرح آخر لقصة الطوفان المذكورة في الموروث الإنساني، والتي رصدتها النقوش، وذكرتها الكتب الدينية المتعددة، لتأتي النظرة المغايرة، والطرح المختلف لهذه الأسطورة في أسلوب أدبي وقراءة فلسفية تولد معني جديدا ، يصور فيه الإنسان إرادته وتمرده الذي خُلق من أجلها في هذا الوجود. لقد استحضر الشاعر أمل دنقل قصة الطوفان في قصيدته "مقابلة خاصة مع ابن نوح" فالأسطورة تتبني الحقيقة التي تعلن عنها بطريقتها الخاصة، التي هي فوق مستوي التعبير اللغوي المعتاد علي حد تعبير ستراوش والتعبير المجازي عن الحياة والوجود، فهذه المجازية في الرؤية والتعبير هي القاسم المشترك بين الأسطورة والشعر. والملاحظ أن النص لم يشر إلي ابن نوح بعينه، بل يمكن استكناه موقعه بين شباب المدينة، الذين رفضوا النجاة والركوب علي السفينة، وصمدوا أمام الطوفان لإنقاذ مهد الحضارة. فهنا تلك اللغة المجنحة التي توحي بالحقيقة ولا تقبض عليها، وهي لغة الشعور، أو الذات في إحساسها بالأشياء علي نحو غامض. جاء طوفان نوح المدينة تغرق شيئا فشيئا تفر العصافير والماء يعلو ذلك الطوفان الذي عم سطح الكرة الأرضية في حقبة من الزمن ليعيد تشكيل الأرض من جديد، وجاء في القصيدة رمزا للنكبات العربية، الطوفان الذي كان سببه الرئيسي الخنوع والضعف، أمام الحكام والقابضين علي رقاب الشعب، هل جاء الطوفان ليخلص الأرض من الطغاة، وينهي الفساد، أم أنه جاء ليظهر صورة المتشبثين بوطنهم، مهد الحضارة؟ لقد كان الغرق تدريجيا، "شيئا فشيئا" وكأنه جسد الوطن اليوم الذي يتلاشي . الماء يعلو علي درجات البيوت الحوانيت... مبني البريد الملوك التماثيل " أجدادنا الخالدين" المعابد أجولة القمح مستشفيات الولادة بوابة السجن دار الولاية أروقة الثكنات الحصينة. هذه المفردات التي تجعل من زمن الطوفان وكأنه الزمن الحاضر الذي يعود للزمن الغابر، في تجربة لا تختلف كثيرا عما كانت عليه في زمن نوح. أو " إينواخ" كما ورد في النقوش، تجعلك تنظر للطوفان وكأنه يحدث الآن، في الأماكن المذكورة. هذه الأماكن التي يفسد فيها الإنسان، ونري في النص أن من يبتغي النجاة هم من أفسدوا فيها، وهذا ما عبرت عنه المفردات الواردة. "ها هم الحكماء يفرون نحو السفينة " وكأن أول من يفسد فيها هم من يمثلون علي الناس دور الحكمة، الناصحون حين يلبسون ثوب الفضيلة. المغنون... سائس خيل الأمير... المرابون.. قاضي القضاة.. ومملوكة. حامل السيف .. راقصة المعبد ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار جباة الضرائب ... مستوردو شحنات السلاح عشيق الأميرة في سمته الأنثوي الصبوح جاء طوفان نوح ها هم الجبناء يفرون نحو السفينة. لقد حوًر النص المفهوم السائد عن قصة الطوفان حين كان أصحاب السفينة هم القوم الصالحون، الذين يئسوا من إصلاح مجتمعهم الفاسد، فهجروا موطنهم. بل جعل من أصحاب السفينة ،الخطيئة المكتوب لها البقاء لتعود دورة الحياة والألم بعد النجاة. وما طرحه النص من رؤية أخري لتلك القصة ماهي إلا إعادة تفكير في الوضع الحالي الذي تمر به الأمة. ومن يصنعون الأزمات هم أول من يترك الأرض تغرق وينجو بنفسه. ومن يرفض النجاة ويصعد إلي السفينة هم من بقيت أجسادهم في الأرض لنبت جديد يعيد الحياة. وهنا يكون الأدب " أسطورة قد أزيحت من مكانها" من وجهة نظر "فراي." والعودة من خلال الشكل الشعري المعاصر لفهم تحولات الأسطورة في البني البشرية عبر التاريخ، فيتعدي الأدب حدوده الآنية ويغدو تعبيرا عن حقائق إنسانية شاملة. بينما كنت كان شباب المدينة يلجمون جواد المياه الجموح ينقلون المياه علي الكتفين ويستبقون الزمن يبنون سدود الحجارة علهم ينقذون مهاد الصبا والحضارة علهم ينقذون الوطن صاح بي سيد الفلك قبل حلول السكينة انج من بلد لم تعد فيه روح قلت.. طوبي لمن طعموا خبزه في الزمان الحسن وأداروا له الظهر يوم المحن. لم يصرح النص "بابن نوح" ولكن يمكننا أن نلمحه مع شباب المدينة، وقد تحول إلي بطل يحاول إنقاذ الوطن، ولم يكن ذلك الابن العاق الذي رفض أن يكون مع المؤمنين ويصعد علي السفينية. لقد تحولت تيمات الأسطورة إلي معان جديدة، من خلال توليد المعني ورصد أحداث الأسطورة بمنظور فلسفي معاصر يخلق منها الشاعر رؤيته الجديدة، ويلمس جذور الأزمة العربية ونكبتها. كان شباب المدينة البذور التي ستبقي في الأرض بعد انتهاء الطوفان، مشهد يختزل المحاولات في انقاذ الوطن التي لن تذهب سدي، الشعب هو الجبل الشامخ الذي يحتمي به من تحدوا الطوفان وواجهوا كل ذلك الخراب. ومن هذا المعني تضمنت الأسطورة عنصرا من الخلق، في اللغة الشبيهة بالأحلام، ليصبح عقل الشاعر هنا "عقل صانع الأساطير" كما قال" كاسيرر." لقد كانت لغة الأساطير والموروث الشعبي هي اللغة المشرقة لغة الأمم المكافحة من أجل البقاء. اللغة التي تستطيع أن تنفذ للأعماق، وتشهد ميلاد الإنسان في اتحاده مع الوجود. وصحيح "أن الأسطورة لا تعطي الإنسان القوة المادية للسيطرة علي البيئة ولكنها مع ذلك تعطيه وهم القدرة علي فهم الكون، والسيطرة عليه " كما يقول "شتراوس" فتنتقل الأسطورة عبر الزمن لتبقي خالدة ويحاول الشعراء استنطاقها والخروج بها إلي التعبير الجديد، وإعادة إنتاج الأحداث، وفق ما تخدم فلسفة الأحداث المعاصرة. ولا شك أن الأدب يُعدُّ رافداً مهماً للمعرفة الإنسانية حين يتعدي الواقع لاستحضار المستقبل، وبإعادة قرءاة التراث والتاريخ الإنساني، بشكل يغاير المنقول الذي أسس عقلية الأمة العربية وكان سببا في تأخرها وتخلفها، وكان العديد من الأدباء من جعلوا من أدبهم المكتوب عدسة للرؤية العميقة فيما نقلته كتب التراث والتاريخ الإنساني، الذي حفل بثقافة الشعوب المتقاطعة حينا والمتوازية أحيانا. فأصبحت الأسطورة القالب الجديد التي عبرًت عن استمرار الحياة المهددة بالفناء، وكان النص مقابلة مع ابن نوح تعبيرا عن بقاء الحياة والأرض. ولنا المجد نحن الذي وقنا وقد طمس الله أسماءنا نتحدي الدمار.. ونأوي إلي جبل لا يموت يسمونه الشعب ونأبي الفرار ونأبي النزوح هذا الإصرار علي البقاء الذي ولدته الأسطورة، نظرة الإنسان منذ القدم ومساره التاريخي حين كان يقدم نفسه قربانا للآلهة، حفاظا علي حياته وحياة ذريته، يموت ليبعث من جديد لأن في موته حياة له. وكان قلبي هادئا يرقد علي بقايا المدينة وردة من عطن بعد أن قال لا للسفينة وأحب الوطن. ومن هذه الأسطورة كان الانبعاث والثورة العارمة التي تحدت النكبات والاضطهاد والظلم في زمن يهدد الإنسان العربي بالزوال والضياع.