ظلت القصة القصيرة لفترة زمنية من تاريخ المغرب، منذ مرحلة التأسيس إلي مرحلة التجنيس، مرتبطة بشكل مباشر بقضايا الذات والمجتمع في تجلياتهما المختلفة. كما ظلت منحصرة في توظيف تقنيات تقليدية تمس بناء الحكاية في عمومها، حيث الالتزام بالثالوث المتداول: بداية، وسط ونهاية. ولعل النصوص القصصية الأولي، التي ظهرت منذ أربعينيات القرن الماضي إلي الستينيات منه، مع أمثال عبد المجيد بن جلون، محمد الصباغ، أحمد عبد السلام البقالي، محمد التازي، خناثة بنونة، زينب فهمي، محمد بيدي ومن جايلهم، جسّدت هذه النزعة التقليدية في الكتابة. غير أنه، في ظل التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية، التي شهدها مغرب السبعينيات وما بعدها بسنوات، أبان الكاتب المغربي عن حاجة ملحة إلي تطوير أسلوب الكتابة، بما يتناسب والوضع الراهن. واجتهد ما أمكنه في ترسيخ مكانة القصة القصيرة بين الأجناس التعبيرية الأخري، كالشعر والمقالة والرواية، من خلال حرصه علي تمثل النماذج العليا لهذا الجنس الأدبي. ومن ثمة أمكن الحديث عن تداول عدد مهم من النصوص السردية والمجاميع القصصية، التي تبنت هذا التوجه الفني، ونأت عن كل تقليد مجانيّ لما سبق. وقد استند هذا التوجّه إلي مرجعيات مختلفة رام من خلالها بناء نص يعالج موضوعاته القصصية، وفق رؤية فنية تجمع بين الانتقاد والاقتراح. لقد تعامل القاص المغربي مع الواقع وما يعتري الفرد داخله من تمزق واغتراب، تعاملا ينم عن إحساس عميق بالحزن والمرارة. وكان لا بد، للنفاذ إلي عمق الأشياء وجوهرها، أن يتوسل بتقنيات وصيغ تعبيرية جديدة، من قبيل السخرية والتعليق والتلميح والتوسل بالحكايات والنكت وعقد المقارنات وبسط المواقف والأفكار. وهو الأمر الذي شكل رهانا من رهانات القصة القصيرة في هذه المرحلة، حيث الحرص علي ضمان الانسجام بين الوعي الجمالي والوعي الاجتماعي أثناء فعل الكتابة. ويمكن الإشارة، علي سبيل التمثيل لا الحصر، إلي بعض الأسماء التي انكبت علي أهم القضايا الساخنة، التي وسمت المجتمع العربي عموما، والمغربي علي وجه الخصوص، نذكر منها: عبد الجبار السحيمي، عبد الكريم غلاب، محمد زنيبر، محمد ابراهيم بوعلو، إدريس الخوري، محمد شكري، محمد زفزاف، أحمد المديني، مصطفي المسناوي، عبد الرحيم مؤدن، عز الدين التازي، ومن حذا حذوهم في الانتصار إلي مقاربة اليومي والظرفي والهامشي، دون السقوط في السطحية والفوتوغرافية. وهكذا شكلت ثنائيات الفقر والغني، اليأس والأمل، الحياة والموت، الرغبة والحرمان، الثابت والمتغير، الهجرة والاستقرار، ثم التواصل والانقطاع أهم الموضوعات التي انشغل بها كتاب القصة. كما شكلت موضوعات السياسة والمرأة والحرية والطفولة والطبيعة أهم القضايا التي أطرت تلك الحكايات المقترحة. ولم يكن اختيار القاص لهذه المواضيع وأخري، بمعزل عن لغته القصصية. تلك اللغة، التي تجمع بين السرد والوصف والحوار والتأمل والنقد والسخرية والحجاج أيضا، تجعلنا نسافر في عوالم حكائية ممتعة ومغرية بالقراءة والمتابعة. لقد نجحت نصوص هؤلاء وغيرهم، في تعرية الواقع وتسجيل انكساراته المتعددة، من خلال جرد المظاهر والقضايا التي شكلت الشخصية القصصية محورها الأساسي تارة، ومن خلال رصد المعالم والملامح التي شكلت بنية فضائها القصصي، بنوعيه المكاني والزماني، تارة أخري. ويمكن أن نعود إلي عناوين المجموعات القصصية الصادرة وقتئذ، لنلحظ طبيعة المادة اللغوية التي يمتح منها القاص في انتقاء اللفظ والتركيب وفي اصطفاء المعني والدلالة. وإذا كانت النماذج القصصية في الفترة السابقة مسكونة بأسئلة الواقع والمجتمع؛ فإن القصة القصيرة المعاصرة انشغلت بأسئلة الكتابة. إنها طموح دائم نحو التجريب وسعي دؤوب لولوج غابة السرد الكبري؛ بتعبير الروائي والناقد أمبيرطو إيكو. وبهذا المعني، لا غرابة أن تفرد القصة القصيرة المعاصرة لنفسها حيزا غير مرئي، داخل هذه الغابة، كناية علي طبيعتها المجهرية وبنيتها التكوينية الدقيقة، التي تستدعي متجولا/ قارئا ذا عينين نافذتين وناقدتين في آن، يحسن التوغّل داخل المكان بحدسه وبصيرته، دونما الحاجة إلي خريطة أو دليل. وفق هذا التصور انفتحت القصة القصيرة المعاصرة بالمغرب، علي عوالم إبداعية فسيحة تحفل بالأسرار والألغاز. فكل قاص يجتهد، ما وسعه التعبير، في بلورة رؤية قصصية تنسجم واختياراته الموضوعاتية والجمالية، سواء حين استحضاره للمواقف والأحداث أو حين استدعائه للأفضية والشخصيات. وفي مقابل ذلك، يجتهد القارئ/ الناقد، هو الآخر، في تأويل هذه العوالم القصصية المقترحة وتفسيرها، بما توافر لديه من آليات القراءة التي تتجاوز الظاهر والمرئي. ولعل أسئلة من قبيل: ماذا تقول القصة؟ وكيف تقال؟ ما وظائف السرد والوصف فيها؟ كيف يظهر المكان في صلته بالزمان؟ كيف يحضر البطل في علاقته بالذات وبالآخر؟ وبالتالي ماذا عن الحداثة القصصية، في صلتها عموما بمقومات الكتابة؟.. أسئلة كثيرة حركت أصحاب التجارب القصصية المعاصرة، واستدعت تلقيا مغايرا تنوع بتنوع القراء. ولنا أن نتأمل المتن القصصي المتنوع، من حيث الحجم والتراكم، لنتبين مظاهر التحديث والتجريب فيها، سواء علي مستوي الحكاية أو علي مستوي الحياكة. لقد حرص أغلب الكتاب في بناء مادتهم الحكائية علي المزاوجة الفنية بين استلهام الذاكرة والواقع، وبين استشراف عالم الحلم والمتخيل. تلك المادة التي يمتد تأثيرها، بشكل من الأشكال، في المسار القصصي الذي يتبناه هذا المبدع أو ذاك، ومن ثمة، تحقيق رهان الانسجام بين الحس النقدي والحس الإبداعي. وإذ نستقرئ هذا المتن القصصي المغربي المعاصر، بما فيه المجاميع التي ظهرت خلال الألفية الثالثة، تستوقفنا تجارب سردية تباينت مرجعياتها، بين تاريخ وفكر وفلسفة واجتماع وتراث. كما تفاوتت أسئلتها في طرح قضايا الإنسان بين الوجود والوجدان. ولعل سؤال الذات وسؤال المصير، وما استتبع ذلك من مقاربات واختيارات، ساهم في خلخلة الحواجز بين الإنسان وغير الإنسان واستوجب تأملا عميقا، في طبيعة علاقاته بالآخر تارة، وبالعالم وبالأشياء من حوله تارة أخري. نذكر من هذه الأسماء: أحمد بوزفور، الأمين الخمليشي، عبد الحميد الغرباوي، محمد برادة، إدريس الصغير، محمد الدغمومي، حسن البقالي، جمال بوطيب، أنيس الرافعي، محمد أمنصور، عبد العزيز الراشدي، مصطفي لغتيري، عبد الله المتقي، محمد اشويكة، محمد الشايب، أحمد شكر، أحمد لطف الله واللائحة طويلة. ولأن حضور الصوت النسائي داعم وفاعل في المشهد القصصي، فلا يمكن أن نغفل الحديث عن بعض التجارب التي أبانت عن ذائقة فنية وجرأة أدبية. من هذه التجارب ما ارتبط باسم القاصات: ليلي أبو زيد، ربيعة ريحان، مليكة نجيب، ليلي الشافعي، لطيفة لبصير، لطيفة باقا، رجاء الطالبي، سعاد الناصر، زهرة زيراوي، فاطمة بوزيان، الزهرة رميج، وفاء مليح وفاطمة الزهراء الرغيوي وغيرهن. وبضم التجارب بعضها إلي بعض، دون اعتبار للجنس (ذكر/ أنثي) نستشف البعد الثقافي والجمالي الذين ينطبقان بصيغ متفاوتة أو متباعدة علي باقي المنجز القصصي عامة. فرغم التفاوت النصي الظاهر، زمنيا وإبداعيا؛ فإن ثمة أكثر من رابط جوهري يجمع بينهما. فبراعة القاص(ة)، ومهارته(ها) في صنع الحكاية وتدبر عوالمها السردية (أشخاصا وأحداثا ومشاهد ومواقع) كان وراء العديد من التنويعات الجمالية، التي تسحر ذهن القارئ/المتلقي وتأخذ بتلابيبه. فكل قاص له سحره الخاص، وكل قاص له عوالمه المتخيلة، يستثمرها كيف يشاء، لغة وتركيبا وأسلوبا ورسالة، مثلما أظهرنا في دراسة سابقة حيث عرضنا بالدراسة والتحليل لمجموعة من النماذج القصصية. لعل الإضاءات التي يمكن استخلاصها من سائر النماذج القصصية القصيرة المعاصرة، عبر سائر الأحداث ومختلف حالات ومواقف الشخصيات من الفئات المهمشة والمغمورة في المجتمع أساسا، لتقدم الدليل علي أن هذا القاص(ة) أو ذاك كان حريصا علي عدم الالتفات إلي الغابة التي يتنزه فيها جميع الناس. فكاتب (ة) القصة القصيرة حين يركز علي الأقليات الأدبية أو علي "الفئات المغمورة" من المجتمع، من ناس بسطاء وموظفين ومتسولين وسكاري وعمال وشخوص وحدانية ومن كان علي طبقتهم الاجتماعية وشاكلتهم الوجودية، فلكي يبحث مع هذه الفئة عن حلول لمشاكلها اللامتناهية. إن التراكم الذي تحقق في مجال القصة القصيرة بالمغرب، يؤكد التنامي السريع في وتيرة الكتابة والنشر والقراءة، وهو علامة صحية حيث تتنوع التجارب من جيل إلي جيل؛ بله من قاص إلي آخر، تبعا لطبيعة المرحلة حينا وتبعا لثقافة الكاتب، حينا آخر. فجيل الرواد غير جيل الشباب، إذ رغم الامتداد الذي يمكن أن نتلمسه علي مستوي البناء الحكائي نجد عينة من الكتاب توسلوا بثقافتهم الغربية وراهنوا علي ذائقتهم الجديدة؛ وبالتالي حاولوا تمريرها علي مستوي الكتابة، لغة وبناء ودلالة. وهو ما يشكل تلك الإضافة النوعية، التي لامسنا تحققها في بعض المجاميع القصصية الجديدة/الحديثة، في علاقتها بتجارب مشرقية، عبر مستويات متفاوتة واستدعت من القارئ/الناقد التسلح بزاد معرفي مغاير يساير جديدهم ومقترحاتهم السردية. لقد استطاعت القصة القصيرة، بوصفها فنا مراوغا يعني بالسرد الوجيز، أن تسجل حضورها اللافت في المشهد الثقافي المعاصر، بالنظر لما حظيت به من اهتمام واسع من قبل الباحثين والنقاد، علي حد سواء. فمع كل إصدار قصصي جديد تستوقفنا أنماط مستحدثة في الكتابة، تراهن علي أفق جمالي مفتوح يتصل بالتخييل واللغة والمنظورات ويمس القوالب المعمارية والتقنيات والأسلوب.