في مثل هذه الأيام، وقبل ربع قرنٍ من الزمان، كنا نتحدث في الدرس عن طبيب كافكا الريفي حين رفع يده، وكنت أظنه سؤالاً بريئاً لا يحمل علي غير الضحك. لم أكن أوقن بعدُ أن للحرية قلباً ولساناً. لقد اخترت يا عزيزي عدوك المخطوء. قلت في نفسي هذه حكايةٌ تستحق الإعدام. متي ننال حريتنا، وكرامتنا؟ أليس هذا ماقلته؟ لم تكن تدري أني أتركها تسقط كلَّ صباح من جيب سروالي المثقوب، ولا أري أختها إلا في آخر الليل قبل أن أنام، مرسومة بدقة علي المخدة، مع صورة سعاد حسني تلوح بمنديلها الأخضر من شباك الليمان. قلتُ تعال لكي أدفع عن نفسي نُذُر هذا الإعدام الشتوي القريب. من هي حبيبتك هنا، ما اسمها؟ فتح فمه بابتسامة مرسومة تتبرأ من الاسم. في اليوم التالي جاءني يحمل رواية صدرت في بغداد حديثاً عن الأفعي لنيكوس كازنتزاكي. قال إنها لي. ثم تفرق الطلاب تحت الغيوم السود. اختصرت أمنا الرحيمة أمريكا السنين في ثلاثة أشهر، وعاد التلاميذ مبتسمين هذه المرة، فالمغامرة تستحق العيش حقاً. حينما سألتُ عنك أخبرني عبد الرزاق كشيش أنك كنت أول الثائرين في الناصريّة، وأول المقتولين. بقيت أفعي اليوناني معي كل هذه السنين، أنقلها كالحاوي من جيب إلي جيب حتي دخلت اليوم في طعامي. حاولتُ كثيراً أن أتأملك وأنت تجري، ولكني لم أعثر علي البندقية في يدك. لم أر منك غير الفم المفتوح. ربما كنت تحدث الثائرين عن جرح صبيّ كافكا الغائر في الخاصرة. لم أحضنك. ولم أقل لك إني أحبك أين تسكن الآن، وهل جارك قاتلٌ عتيق جاء من أبو غريب؟ هل تؤلمك عظامك المكسورة؟ وهل أعاد لك الأمريكان الجمجمة، أم مازالوا ينتظرون الحساب الأخير؟ أُريدُ للريح العراقية القادمة من أور أن تزيل كلّ الرمال من علي قبرك كي نري ما خُطَّ علي جبهتك في ذلك اليوم. وأريدُ من مياه الفرات الراعفة أن تحيي في يدك اليمني برعم الحلم، وفي يدك اليسري صفحة الكتاب الأولي، نقرأ فيها من جديد، نحن العراقيين، كلمة العرفان. هل تحبني حقاً؟ أنا لا أعرفك... هل اشتقت لرؤيتي؟ أنا مشتاق لك. نم بعباءتك السوداء، فالعراق غير العراق الذي تعرفه.