ثلاثة وعشرون نصًّا صاغها أحمد يحيي في كتابه "دون حدث"، الذاخر بالأحداث علي العكس مما يشير إليه عنوانه. الحدث الحقيقي هو شيء جلل يقع، لكن عندما يتكرر حتي يصبح روتينيًّا يوميًا، فإنه يفقد صفته كذلك وينضم إلي زمرة الأشياء التي، فقط، تحدث. مجموعة قصصية عن الألم الذي، لفرط انتشاره، تعشي أعيننا عن رؤيته، فيفقد ليس فقط اهتمامنا به، بل صفته ومسماه، ولا يعد حدثًا أصلًا في وعينا المتبلد، ليصبح مجرد شيء آخر ضمن "الأشياء التي تحدث"، لم يعد حتي حدثًا. في لغة سردية مولعة بالتقنيات السينمائية، يتنقل بنا يحيي في الكتاب الصادر عن دار "كيان" للنشر، بين مشاهد حياتية مألوفة حافلة بالألم الكامن تحت السطح، ويعبرها ببساطة إلي غيرها، صادمًا إيانا بحقيقة أننا لم نعد نراها. يبادرنا الكاتب من البداية بتداعيات معاناةٍ صارخة، لا يسمعها ولا يراها الآخرون: "أغمض عينيَّ لثوانٍ فأري فوَّهة المسدس. أفتحهما مذعورًا فتتراءي لي زوجتي تشاهد التليفزيون بملل. أغمض ثانيةً فأري المسدس. أفتح فيجري الولد والبنت في الشقة بصخبهما المعتاد". هكذا تمضي الحياة في روتينها اليومي الرتيب، غير عابئة بما يحدث هنا، وكأنه ليس حدثًا في الأساس. مشاهد مقطَّعة بالتبادل فيما يشبه تقنية "الفوتومونتاج". يستمر الصراع وتستمر المعاناة كما يستمر روتين الحياة العادي الرتيب. "أفتح فتعطيني أمي عشرة قروش مصروفًا، أقرر أن أحفظ نصفها في علبة معدنية ذات فتحة صغيرة. أغمض عينيَّ متوقعًا أن أحلم بما سأبتاعه بالمال في الحصَّالة فأري المسدس". رجوعًا بالزمن إلي الوراء حتي تلتقي لحظة الميلاد بلحظة الموت، الموت الذي لم يعد حدثًا. "لا تنتظر هي إجابة للسؤال. تشرد ثانية ثم تهمس: «ربما لهذا وثقت بك أكثر من سواك». أرسم نظرة متسائلة علي وجهي، لكنها لا تراها. «أغلب الرجال الذين عرفتهم وقعوا في حبي»". الحب، العاطفة الإنسانية الأسمي والأشهر والأكثر شعبية، يفقد قيمته كحدث يزلزل الكيان ويتحول إلي سلعة استهلاكية أخري، وأداة من أدوات التجميل في يد الفتاة، كطلاء الشفاه وكحل العيون. كتابات يحيي تتسم بالواقعية التي تلتقط الشخوص والتفاصيل "العادية" المهمَلة وتضعها تحت المجهر أمام أعيننا التي لم تعد تراها. "أبي يعود من عمله الصباحي بعد العصر. يتبادل حديثًا مبهمًا مع من يتيسر له رؤيته من أطفاله، ثم يتجه رأسًا إلي المائدة. يتناول الطعام الذي سخَّنته زوجته علي عَجَل. يشرع في احتساء الشاي الساخن، بينما تُهرع الزوجة بملابس عمله الثاني". لكن الغوص في التفاصيل يدحض بساطة المظهر الاعتيادي المألوف. "لا تربط أمي بأبي علاقة حبٍّ، بل عشرة الزواج. جزعتُ حين وجدتها تقضم أصابع يديها لا أظفارها فقط. اقتربتُ محاولًا ملاطفتها كما اعتاد ذلك الطفل بداخلي، غير أنها لطمتني علي أذني. أورثتني اللطمة ضعفًا في السمع لازمني طوال حياتي". إنه الألم المكتوم المكبوت الذي يستحق علي الأقل أن نراه ونشعر بوجوده. "تدمع عينيَّ شفقة علي نفسي، فأستعين بالدموع علي إطفاء السيجارة، لكنها لا تنطفئ". إيقاف المشهد ومراقبته من الخارج ولع آخر يتكرر في الكتاب مرارًا، كتحريضٍ مُلِحٍّ علي التوقف لحظة وتأمل ما يحدث لنا. "تختفي ملامح الغرفة تمامًا، ولا يبقي إلاي في الركن وجثتي علي السرير، وخيط الدخان الثابت أبدًا لا يهتز". شخصيات أحمد يحيي هي نماذج مطحونة تحت وطأة الواقع القاسي في مصر، تقابلها نماذج اكتسبت قسوة الواقع ذاتها: ابن أشعلت أمه النار في نفسها بعد أن فاض بها الكيل من حياة مع زوج غير مبالٍ، فتستمر الحياة علي وتيرتها ويقوم هو بأعمال البيت حتي تصير لأختيه التوءمين القدرة علي القيام بها. لعبة ملك وكتابة بين صبي محتال قوي الشخصية وآخر ساذج، لا يقدر حتي علي الحصول علي مكسبه المستحق. رجل عجوز علي كرسي خشبي أصفر متهالك، يغرق في البحر بهدوء. كاتب في مقهي يعالج حبكة روايته محاولًا أن يجعل بطل كتابه يري فتاته، بينما تتنازعه همومه الخاصة في أن يري هو فتاته. شخص وحيد يفيق في حجرته، يجاهد لإدراك حقيقة آلامه الجسدية المبهمة حتي يعرف الحقيقة الصادمة أخيرًا. موظف سنترال يصطدم بنماذج بشرية غريبة. طفلان يعبثان بالألعاب النارية، بينما عجوز وقور تمر غير منتبهة للخطر. صبي شوارع في العقد الأول من عمره يعاني من الغاز الذي تطلقه "الحكومة"، ويطلب منديلًا من غريب. متسكع في المول يراقب في الزحام ولدًا نحيلًا عصبيًّا، يحاول إقناع فتاته بالإقلاع عن ارتداء البنطلونات الضيقة. شخصيات مألوفة إلي حد يجعلها غير مرئية، كتفاصيل حياتنا العادية التي لا نتوقف عندها، ك"شابوه صوفي كاروه تضعه فتاة علي رأسها وتديره إلي الخلف"، ك"متاهة مرسومة بخيوط الصوف علي بلوفر"، ك"كيس بلاستيكي فخم يحمل اسم دار النشر مزدانًا بنقوش إسلامية"، ك"شعيرات ذقن بيضاء متصلبة نابتة دائمًا"، ك"كرسي بلاستيكي ملحوم بالسلك عدة مرات"، ك"صخور اصطناعية مكعبة علي شاطئ البحر، تزحف أعشاب بحرية زرقة علي مقدماتها"، ك"محلين أو ثلاثة تبيع الهراء مغلفًا للحمقي من ساكني بيوتٍ مالت". تفاصيل عادية تتوقف عندها "عدسة" يحيي، كما تتوقف عند شخصياته "العادية" في حيواتهم التي "بلا حدث". معاناتهم أضحت جزءًا من ملامحهم وتكوينهم، حتي لم تعد الشكوي نفسها فكرة مطروحة. وفي لوحته "قد تشتمَّ فيه رائحة اليود"، يرسم يحيي، بصدق ابن مدينة الإسكندرية العاشق لها، بورتريهًا واقعيًّا حيًّا آخر، بطله هذه المرة هو المكان ذاته، تكاد وأنت تقرأه تسمع صوت البحر وتشم رائحته، بل وتستشعر رذاذ المياه تتناثر علي قدميك: "تتمسَّك أصابعك بالرمال فتخطو خطواتك ثابتة. تمر برمال دافئة من أثر المياه، وأخري باردة عطشانة تشعر فيها بارتجاف خفيف وحاجة للماء المالح. تمشي كثيرًا فتلاحظ ذلك الطائر فوقك، يتلصص متوجِّسًا من الآدمي الوحيد في ذلك الوقت المبكر". هذا هو الكتاب الأول لأحمد يحيي، وهو كاتب ومحرر ديسك مصري عمل في عدد من المؤسسات الصحفية، وقرر أخيرًا أن يتجه إلي الأدب.