لقد أصبحت القطيعة مع الواقعية السحرية، في أدب أمريكا اللاتينية، أمرًا واقعًا، مع ظهور جيل تالٍ، وليس جديدًا، لجيل جابريل جارثيا ماركيز، وماريو بارجاس يوسا، ورغم هذا ستظل المقارنة حاضرة مع الأسماء التي منحت لأدب أمريكا اللاتينية شأنًا وقيمة في العالم أجمع. بهذه الكلمات يبدأ المترجم عبد السلام باشا مقدمته لترجمته لرواية "الطريق إلي إيدا" للروائي ريكاردو بيجليا، الكاتب والناقد والسيناريست الأرجنتيني، والصادرة حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب، ضمن إصدارات سلسلة الجوائز. باشا يري في مقدمته أيضًا أن ريكاردو بيجليا هو أحد الذين جهروا بهذه القطيعة، بعد أن كان عليه أن يعمل، مثل كُتّاب آخرين في أمريكا الجنوبية، خلال سنوات طويلة، لكي يحصل علي الاعتراف المؤسسي، وعلي قطاع من القراء، ليس بالإسبانية فقط، وإنما بأكثر من عشرين لغة أخري. باشا يقول إن ريكاردو بيجليا استطاع أن يُصرح، قبل ثلاث سنوات، أن الأدب الصادر عن كُتّاب لاتينيين لم يعد خاضعًا لذائقة فنية واحدة، وأن الكُتّاب الحاليين، الذين ينظر لهم العالم ككتّاب جُدد، أصبحوا أكثر تواصلًا مع العالم بتغيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من دون أن يفقدوا الصلة بمجتمعاتهم وثقافاتهم المحلية.باشا يري كذلك أن أعمال ريكاردو بيجليا النقدية والسردية تُمثل تجسيدًا لمفاهيمه حول الأدب المتصل بالعالم، والذي يمكن وصفه بالمعولم، خاصة روايته الأخيرة هذه. تشابكات غير مرئية أما ما يخص رواية "الطريق إلي إيدا"، فباشا يراها عملًا أدبيًّا رفيعًا، يتجاوز الأجناس الروائية، طارحًا نوعًا جديدًا من الكتابة المبهرة المشوقة، كما تُسلط هذه الرواية الضوء علي التشابكات غير المرئية بين ثقافات وأفكار ونُظم سياسية مختلفة، عبر النصوص الأدبية والفلسفية لكتّاب عديدين، كأنها تضع العالم الأدبي والفكري في ثقافات وأزمنة مختلفة تحت جهاز لأشعة إكس، أو تحت إضاءة فوق بنفسجية، قادرة علي كشف غير المرئي، رغم حضوره المحسوس.باشا يري كذلك أنه يوجد جانب مهم آخر في الرواية، وهو اللغة. هذا ويتبع بيجليا في معظم أعماله السردية تقليدًا أرجنتينيًّا عريقًا: الرواية البوليسية، رواية البحث والتقصي والغموض، بعد أن تأثر الأدب الأرجنتيني بالآداب المكتوبة باللغة الإنجليزية. وفضلًا عن ازدواج اللغة، التي تستخدم الإنجليزية أو اللاتينية، للتعبير عن مفاهيم وأفكار، أو حتي مسميات، نجد أن الترجمة التي تقوم بها الشخصية الروائية لكلماته وأفكاره، للعبارات التي يسمعها، وللنصوص الشعرية والسردية التي يذكرها، كلها تحتمل أكثر من ترجمة وأكثر من قراءة. باشا يذكر أيضًا أن كل شخصيات الرواية هي شخصيات مزدوجة، سواء في هويتها، مهنتها، أفعالها أو أفكارها. حتي ذلك القط الذي يظهر في صفحات قليلة من الرواية له حياتان مزدوجتان، وإن لم تكونا متوازيتين، فهو قط متمرد ، تلفظه القطة الأم، تاركة إياه فوق شجرة. هذا القط يقبل بحياة منزلية هادئة، غير أنه لا يحتملها كثيرًا، مثله مثل البشر، يهرب، يفر إلي العالم المفتوح، إنه قط يبحث عن الخبرة والتجربة، فيما تعيش الشخصيات البشرية ازدواجها وخيالاتها بالتوازي، وفي أحيان كثيرة تتحرك الشخصية بين عالمين، سواء سرًّا، في الليل تحت ستار العتمة، أم في أفكارها ورغباتها المُعْلَنة والمكبوتة، وهذا ما يسمح لنا أن نصف هذه الرواية بأنها رواية التحليل النفسي. "في الطريق إلي إيدا"، يقول باشا، يوجد ما يمكن أن نطلق عليه الأدب التوثيقي، أو الأدب الوثائقي، فالقاتل الذي يظهر في الرواية شخصية حقيقية، لها نفس التاريخ الشخصي تقريبًا، وحدثت الوقائع في الفترة الزمنية نفسها، لكن الاستفاضة أكثر من هذا في تفاصيل الشخصية يُفقد النص بريقه وزخمه. رواية عصية علي التصنيف باشا يري أيضًا، في هذه الرواية، أننا أمام خريطة للآداب الإنجليزية والأرجنتينية والأمريكية والروسية، قام بيجليا، بإتقان وألمعية، بصوت الشخصية الروائية، بالتناول النقدي والفلسفي لوليام هدسون وجوزيف كونراد وأوراثيو كيروجا وتولستوي من بين كُتاب آخرين. كذلك يري باشا أننا هنا أمام رواية عصية علي التصنيف، فهي بها من الأدب البوليسي غموض جريمة القتل، والبحث المضني عن القاتل.وبها لمحات خادعة من أدب السيرة الذاتية.فالبطل الذي ظهر بالاسم نفسه في روايات بيلجيا السابقة، إيميلو رينزي، يعاود الظهور هنا في روايته الطريق إلي إيدا، ولإضفاء نوع من التماهي المصطنع، غير الحقيقي، بين المؤلف والشخصية الروائية سنجد أن اسم الكاتب بالكامل هو ريكاردو إيمليو بيجليا رينزي.باشا يتساءل هنا ماذا يوجد في أدب بيجليا من سيرة ذاتية؟.. ويجيب بأنه يوجد شيء أكثر من الاسم بالطبع، ربما بعض المعلومات والملامح الحقيقية، مثل السفر إلي الولاياتالمتحدة، التدريس في الجامعة، امتهان الكتابة والنقد. هذا ويخلُص المترجم إلي أن رواية الطريق إلي إيدا، التي يواصل فيها ريكاردو إيمليو رنزي هوايته بصُنع تناص نقدي وأدبي بين العديد من النصوص والقامات الأدبية الكبيرة، والتيارات الفكرية والسياسية التي غيّرت البشرية خلال القرنين الماضيين، رواية تستحق القراءة لما فيها من إبداع روائي وحبكة سردية متقنة وممتعة. الحياة في صيغة الغائب كانت شعار شبابي، لكنني الآن أتوه في الدوامات الحقيرة للذكريات الشخصية. أفضل شيء أن أستحم وأجلس للعمل، قلت، وانتبهت إلي أنني أتكلم بصوت عال، ولم أكن أتحدث بمفردي فقط، لكنني كنت أتكلم ناظرًا إلي نفسي في مرآة الحمام.مهرج عار، لم ينم جيدًا .