إذا كان البعض يتأمّل فظائع وأهوال عالمنا العربي، بكل ما فيها مِن مفارقاتٍ مضحكِةٍ بقدر ما هي فاجعةٌ، متسائلاً ماذا يمكن للخيال الأدبي أن يفعل إزاء هذا الواقع، فعليه بقراءة قصص حَسَن بلاسم. صدرت مجموعة (معرض الجثث) عن دار نشر بنجوين، ولاقت احتفاءً نقديًّا واسعَ النطاق في الغرب، كما فازت بجائزة الإندبندنت، التي تذهب لأوّل مَرَّةٍ إلي كاتبٍ عربيٍّ، وصفته صحيفة الجارديان بأنه أفضل كاتبٍ عربيٍّ مازال حيًّا، ولعلّك تشعر بقدرٍ مِن المبالغة في هذا الاحتفاء الصحفي عند قراءة بعض مقتطفات الاستحسان المنشورة علي طيّةِ الغلاف الأمامي للكتاب الذي صدرَ مؤخرًا عن دار منشورات المتوسط، غير أنك لاشكَّ ستراجع نفسك بمجرد دخولك عالم الكتاب، الذي تضجُّ قصصه بالعنف والقسوة وواقعٍ عبثيٍّ غير إنسانيٍّ بالمرة، ومع ذلك تظلُّ قطعًا فنيِّةً جديرةً بالقراءة والتأمُّل والاستعادة، فالإجابة هي هذه إِذَنْ: مجابهة عبث الواقع بكتابةٍ لا تقلُّ عنه عبثيةً وعنفًا، الكتابة بسكِّينٍ مغروسٍ في لحم الحكاية، ما لا يمنع بالمرة الاستمتاع بالكابوس حتّي نهايته. في قصة (المسيح العراقي) نري النادل المرح في المطعم، الذي سيتم تفجيره بعد دقائقَ قليلةٍ، "يمزج أسماء الأكلات الشعبية بأدوات الموت اليومية. وكان الزبائن يضحكون ويحبّونه. يصيحُ مناديًا علي طلب: نَفر كباب مفخخة يضوي الدماغ والبطن... واحد تشريب انشطاري... تمن ويابسة صاروخية..."، وقد مزجَ حسن بلاسم أيضًا حكاياته بأدوات الموت اليومية، ولو كان موتًا شخصيًّا فريدًا بعيدًا كل البُعد عن البانوراما الهائلة للموت الجماعي اليومي، المتواصلة منذ سنواتٍ في بلده. وُلدَ بلاسم في بغداد، عام 1973، وغادرَ العراق عام 1998، ويقيمُ حاليًا في فنلندا، وقبل أن يكون قاصًّا هو أيضًا سينمائيٌّ، كتب وأخرج العديد مِن الأفلام، ما بين الوثائقي والتجريبي والروائي الطويل، وقد شاركَ في بعض تلك الأفلام بالتمثيل، كما أنَّ له مساهماتٍ في الشِّعر، فنحنُ أمام حالةٍ فنيةٍ كاملةٍ، كان مِن الممكن أن نبقي غافلينَ عنها طويلاً، لولا الاحتفاء الغربي بها، ثم نشر مجموعتين له في هذا الكتاب مُؤخَّرًا. مِن الصحيح أنّ بعضنا ينظر الآن بعين الشك إلي كل كاتبٍ عربيٍّ يُحتفي به في الغرب، نتيجةً لتجاربَ سابقةٍ، ولافتراض أننا علينا أن نقدّم لهذا "الغرب" صورةً مُحدَّدةً لعالَمِنَا، تكاد تكون مرسومةً سلفًا، وبمعايير اجتماعيةٍ وسياسيةٍ دقيقةٍ، بصرف النظر عن أيِّ قيمةٍ أدبيةٍ أو طموحٍ جماليٍّ لدي هؤلاء الكتّاب، إلا أنني أعتقد أنَّ الأمر مختلفٌ كثيرًا مع قصص حسن بلاسم، ليس فقط لأنه لا يستثني الغرب مِن سكِّينِهِ الحادِّ الذي يُعرّي به لحظتنا الإنسانية المريضة هذه، ولكن أيضًا لأنَّ كتابته لا تنضم إلي حداء القافلة العربية المعتاد والمتوقع مِن أنينٍ وشجنٍ وتباكٍ، إلي آخره. ولم يسلمْ مِن سخريته القاسية والمريرة أيُّ طَرَفٍ مِن أطراف معادلة التواطؤ علي الاستمرار رغم كل شيءٍ، حتّي هو نفْسه، لا كشخصٍ، بل ككاتبٍ وجامع حكايات الموتي والضحايا. في قصة (جريدة عسكرية)، يُجلِس الكاتب أمامه أحد الموتي مستقبلاً حكايته، هذا الميّت كان يشرف في حياته علي الصفحة الثقافية لجريدةٍ عسكريةٍ، وظلّ لسنواتٍ يتلقّي رواياتٍ تتسم بالشهوانية، يرسلها له أحد الجنود مِن جبهة القتال في الحرب العراقية الإيرانية، خمس رواياتٍ كُتبتْ في شهرٍ واحدٍ علي دفاترَ مدرسيةٍ مُلوَّنةٍ، لكنّ اللعنة تبدأ حينما يتأكد المحرر الثقافي العسكري مِن أنَّ الجنديَّ قد قُتل، فينسب الروايات لنفْسه، ويُحقِّق بها نجاحًا غير مسبوقٍ، وتكريمًا محليًّا، وشهرةً عالميةً، مات الجندي، لكنَّ الروايات الشهوانية ظلَّتْ تصل إليه بوتيرةٍ جنونيةٍ، حتّي أنه احتاج إلي شراء مخازن لتخزينها، "ظلّت تنهمر كل صباحٍ بأعدادٍ هائلةٍ مثل عاصفةٍ مِن الجراد: اليوم مائة رواية، غدًا مائتان، وهكذا..."، كان الحل الوحيد الممكن لهذا الطوفان مِن الروايات هو نار المحرقة. ما أسرعَ ما يتحوَّل حُلم سارق الموتي إلي كابوسٍ، وما أسرع ما تتكشف الضفة الأُخري، في عالم المهاجرين العرب إلي أوروبا، عن لعنةٍ أُخري تطاردهم بحبلٍ مازال مشدودًا إلي أعناقهم، ينتهي طرفه البعيد في البُقعة ذاتها التي نشأوا فيها، وهربوا منها. علي البصراوي في قصة (حقيبة علي) ينبش قبل هروبه قبر أمه التي عاشت ضحيةَ عنف أبيه وإخوته، ويلملم رفاتها في حقيبةٍ، ويحتضنها طوال الوقت، لكنه يفقد رأسها في إحدي محطّات رحلة الهجرة غير الشرعية، علي الحدود التركية اليونانية. وأوضح مثالٍ علي مطاردة اللعنة لمن يحاولون الفرار في قصة (كوابيس كارلوس فوينتس)، حيث يحصل الكنّاس العراقي علي حق اللجوء أخيرًا في هولندا، ويدير ظهره تمامًا لكل الخراب الذي تركه في موطنه، ويعجب بنمط الحياة في هولندا إلي حدّ التقديس الأبله، ويغيّر اسمه بعد أن يختار له أحد أقربائه اسم الكاتب المكسيكي الشهير، يتزوَّج مِن امرأةٍ هولنديةٍ، ويتعلَّم اللغة، ويقسم ألاَّ يتفوه بكلمةٍ عربيةٍ، لكن الكابوس الذي يقوده عمليًّا إلي الجنون هو أحلامه التي يري فيها صبيةً يطاردونه في شوارع بغداد ويعيّرونه باسمه المضحك، وحيث يجد نفسه عاجزًا عن التحدّث بلغته الجديدة. بعد أن ينتحر، كتبت الصحف الهولندية (انتحار رجلٍ عراقيٍّ)، بدلاً مِن (انتحار مواطن هولندي) وقد حصلَ علي الجنسية، هذا يمكن أن يغفره، لكنه لم يستطعْ أن يغفر لإخوته الذين أعادوا جثته إلي العراق، ودفنوه في مقبرة النجف. إذا كنا نستطيع أحيانًا مغادرة كابوس الفوضي والخراب، فإن الكابوس نفسه لا يغادرنا. قصص الكتاب أبعد ما يكون عن الالتصاق بوهم الواقع، أو تقليد أُفُقِهِ الضيق ومنطقه المحدود، بل ثمة خيالٌ وحشيٌّ، قد ينحو في مواضعَ قليلةٍ إلي "الغرائبي الشرقي"، لكنه سرعان ما يستعيد عافيته؛ ليبقي مُنصِتًا لروحٍ ضالّةٍ، تعوي جريحةً في مواجهة أقمارٍ مشوَّهةٍ، ثم تعود تتشمم جثث الحاضر الجميلة مثل أعمالٍ فنيةٍ. لذك كله، لا أظن أنَّ ثمة مبالغاتٍ ترويجيةً في تعليقات الصحف الغربية علي قصص بلاسم، لكنَّ هذا الاحتفاء مع ذلك ربما شابته لمسةٌ مِن الإحساس بالذنب والمسؤولية. أسماه البعض كافكا العراقي، وبشَّرت الصحافة السويدية بحصوله علي نوبل في غضون عشر سنواتٍ، وربط آخرون بين مُنجزِهِ وبين كتابات بعض أساطير أمريكا اللاتينية، مثل: بورخيس وكورتاثار وروبيرتو بولانيو، ويبدو أنَّ محاولات البحث عن أسلافٍ شرعيين لبلاسم لن تتوقّف قريبًا. أمّا هو نفسه؛ فمِن شبه المؤكد عندي أنه لا يُبالي كثيرًا. في مقابلةٍ معه في البرنامج الإذاعي "ليت شو" أشار المذيع جو فريسلر إلي الواقعية السحرية، فأجابه بلاسم "بل الواقعية الكابوسية، والهذيان المروّع". هذا الكتاب، الذي تمّ منعه ِمن معرض الكتاب في السعودية، والذي نفدتْ نُسَخُهُ في بعض المعارض العربية الأُخري حسب تصريح دار النشر، يستطيع بجرأته وصدقه أن يقتل دون أن يسيل دمًا، أن يقتل الزيف والأكاذيب وألعاب التظاهر التي اعتدناها، كما أن إخلاصه الواضح للحكاية البسيطة قد يكون مربكًا لكثيرين مِن كتّاب النصوص الملغزة السابحة في سماوات اللغة والبلاغة، ودرجة الكثافة الشديدة التي تتمتع بها حكاياته قد تجعل عشرات الروايات المهلهلة والمحتشدة بثرثرة التاريخ والهوية تتطاير عارية.