حالة يعفى فيها الموظف من مجازاته تأديبًا في قانون الخدمة المدنية    غارة إسرائيلية عنيفة على جنوب لبنان    هل سنشهد هدنة إنسانية بقطاع غزة في عيد الأضحى المبارك؟.. خبراء يجيبون ل "الفجر"    بشير التابعي: منتخب مصر "خطف" الفوز على بوركينا مبكرًا.. ونعاني من مشكلة الكرات الثابتة    تغير مفاجئ بالحرارة.. الأرصاد تزف بشرى سارة بشأن حالة الطقس خلال الساعات المقبلة (تفاصيل)    بعد حفل باريس.. هبة طوجي تفتتح فعاليات مهرجان موازين الموسيقي بالمغرب    أهمية أول يوم في الليالي العشر    تأجيل سفر بعثة منتخب مصر لغينيا بيساو لمدة 24 ساعة    تفاصيل إصابة إمام عاشور في مباراة بوركينا فاسو    اليوم.. الأوقاف تفتتح 21 مسجداً بالمحافظات    برقم الجلوس والاسم.. رابط نتيجة الشهادة الاعدادية 2024 الترم الثاني محافظة الغربية (استعلم الآن)    انسحاب وفود الدول خلال كلمة ممثل إسرائيل بمؤتمر العمل الدولي (فيديو)    نيللي كريم تتغزل فى فستانها بزفاف جميلة عوض: اللون الأزرق هو الأقرب للحقيقة    ما قانونية المكالمات الهاتفية لشركات التسويق العقاري؟ خبير يجيب (فيديو)    بعد انخفاض الأخضر.. سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم الجمعة 7 يونيو 2024 في البنوك    متحدث الكهرباء: قبل انتهاء العام الحالي سينتهي تخفيف الأحمال    محمد الشناوي: ماحدش قال لى حمد الله على السلامة وكله بيفكر مين هيلعب    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    إنفوجراف لكلمة مصر نيابة عن «المجموعة العربية» في مؤتمر العمل الدولي بجنيف    «صلاة الجمعة».. مواقيت الصلاة اليوم في محافظات مصر    تحرير 30 مخالفة في حملات لتموين الأقصر للتأكد من التزام أصحاب المخابز والتجار    9 أيام مدفوعة الأجر.. موعد إجازة عيد الأضحى 2024 بعد ضم وقفة عرفات للقطاع العام والخاص    حصول مصر على 820 مليون دولار من صندوق النقد الدولي    السجن 7 أعوام على سفيرة ليبية في قضايا اختلاس    خالد جلال ينعي المخرج محمد لبيب مدير دار عرض مسرح الطليعة    هتوصل لأرقام قياسية، رئيس شعبة الذهب يصدم المصريين بشأن الأسعار الفترة المقبلة (فيديو)    عيد الأضحى 2024| أحكام الأضحية في 17 سؤال    ساتر لجميع جسدها.. الإفتاء توضح الزي الشرعي للمرأة أثناء الحج    أمين الفتوى: إعداد الزوجة للطعام فضل منها وليس واجبا    طريقة عمل البسبوسة بالسميد، مثل الجاهزة وأحلى    طريقة ومدرج وشهية.. حسام حسن يبدأ الرسميات من الباب الكبير    السنغال تسقط في فخ الكونغو الديمقراطية    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    حسين حمودة بعد حصوله على جائزة الدولة في الأدب: "حاسس إن في حاجة أقدر أقدمها لبنتي"    عضو اتحاد المنتجين: استقرار في أسعار الدواجن خلال 10 أيام    في عيد تأسيسها الأول.. الأنبا مرقس يكرس إيبارشية القوصية لقلب يسوع الأقدس    ملخص وأهداف مباراة هولندا ضد كندا قبل يورو 2024    سعر البطيخ والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الجمعة 7 يونيو 2024    بعد ثبوت رؤية الهلال .. إليك أفضل أدعية العشر الأوائل من ذي الحجة    جواب نهائي مع أشطر.. مراجعة شاملة لمادة الجيولوجيا الثانوية العامة الجزء الأول    زيادة أسعار المنشطات الجن..سية 200%.. «الصيادلة» تكشف الحقيقة (فيديو)    بمكون سحري وفي دقيقة واحدة .. طريقة تنظيف الممبار استعدادًا ل عيد الأضحى    ب 60 مليون دولار.. تفاصيل تمويل 12 فكرة ناشئة في مجال تكنولوجيا التعليم    التنمية المحلية: 98% نسبة مسحوبات التمويل من البنك الدولي لبرنامج تنمية الصعيد    حظك اليوم| برج الحوت الجمعة 7 يونيو.. «القمر مازال موجود في برج الحوت المائي ويدعم كل المواليد المائية»    نجل فؤاد المهندس: والدي كان يحب هؤلاء النجوم وهذا ما فعله بعد وفاة الضيف أحمد    عيد ميلاده ال89.. أحمد عبد المعطي حجازي أحد رواد القصيدة الحديثة    نادين، أبرز المعلومات عن الدكتورة هدى في مسلسل دواعي السفر    مؤتمر لأسر المحبوسين ولائحة الأجور، نقابة الصحفيين تحيي الذكرى 29 ليوم الصحفي الأحد    "طاغية".. بايدن يهاجم بوتين أثناء مشاركته في ذكرى إنزال النورماندي    ميليشيا الدعم السريع تحشد قواتها تمهيدا لاجتياح مدينة الفاشر    مصرع سيدة صعقا بالكهرباء في منزلها بالدقهلية    بينهم 3 أطفال.. إصابة 4 أشخاص إثر تصادم "لودر" الحي بسيارة أجرة ببورسعيد    المهن الموسيقية تنعى العازف محمد علي نصر: أعطى درسا في الأخلاق والرجولة    طائرات الجيش الإسرائيلي يقصف منطقة "كسارة العروش" في مرتفعات جبل الريحان جنوب لبنان    توقيع بروتوكول تعاون لترسيخ مبادئ الشَّريعة الإسلاميَّة السَّمحة    نجاح أول تجربة لعلاج جيني يعمل على إعادة السمع للأطفال.. النتائج مبشرة    تهشمت جمجمتها.. جراحة تجميلية ناجحة لطفلة سقطت من الطابق الرابع بالبحيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل انتهي عصر المجلات الثقافية؟!
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 04 - 2016

في العدد الأخير الذي صدر في 23 فبراير 1953 من مجلة الرسالة، كتب رئيس تحريرها وصاحب امتيازها الكاتب والأديب أحمد حسن الزيات مقدمة شبه طللية، جاء فيها: (في الوقت الذي كانت "الرسالة" تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها وأولياء الثقافة والصحافة في وادي النيل، وزعماء الأدب والعلة في أقطار الشرق، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر، وفي الوقت الذي أشرق فيه علي مصر صباح الخير بثورة الجيش المظفر، بعد ليل طال في الظلام، وعمّق في الهول، فأسفر وجه العيش، وافتر ثغر الأمل، وشعر كل مصري في العهد الجديد أن وجوده إلي سمو، وعمله إلي نمو، وأمره إلي استقرار، نعم في هذا الوقت الذي نشأ لتوجيه الإرشاد وزارة، ولتنمية الإنتاج مجلس، ولتعميم الإصلاح خطة، تسقط "الرسالة" في ميدان الجهاد صريعة بعد أن انكسر في يدها آخر سلاح، ونفد من مذودها آخر كسرة، فكأنها جندي قاتل اليهود في عهد فاروق، أو فدائي جاهد الإنجليز بالقناة في حكومة فاروق !ولكن فاروق دال ملكه وزال حكمه، فبأي سبب من الأسباب يؤتي المجاهد من جهة أمنه لا من جهة خوفه، ويقتل بيد شيعته لا بيد عدوه !).
ويستكمل في أسي مثير للدهشة :(تموت الرسالة اليوم في ضجة من أناشيد النصر في مصر، وأهازيج الحرية في السودان، فلا يفطن إلي نزعتها هاتف، ولا يصغي إلي أنينها منشد ! ومن قبل ذلك بشهر، ماتت أختها "الثقافة" وكان الناس يومئذ في لهو قاصف من مهرجان التحرير، فلم تبكها عين قارئ، ولم يرثها قلم كاتب !).
ولا أريد أن أسترسل في تفاصيل المقدمة التي تشبه النعي أو المرثية، تلك المرثية التي تشمل مجلتي "الرسالة"، و"الثقافة"، وكذلك الناس الذين لم ينتبهوا إلي انهيار المجلتين، وكأن تاريخ هاتين المجلتين ذهب إلي أدراج الرياح، في حمي الانشغال بأفراح النصر والانتصار والتخلص من عهد الملكية.
وفي حقيقة الأمر، كان الزيات يرثي عهدا كاملا من الثقافة والمثقفين والفكر والمفكرين والصحافة والصحافيين، ليحلّ عهد آخر يلتزم بوزارة ومجلس وهيئة، وكافة التنظيمات التي نتجت عن الحركة المباركة الجديدة، وهناك من استطاع أن يتعلق بأذيال السلطة الجديدة، ويسير علي نهجها، ويقدم ما تشتهيه تلك السلطة، وهناك من آثر الانزواء الأقرب إلي الاختفاء، وهناك الشباب الذي اعتبر نفسه متمما لتلك الثورة في الصحافة والثقافة والفكر والفن، فعرفنا منهم أحمد بهاء الدين وإحسان عبد القدوس وصلاح جاهين وعبد الحليم حافظ وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم، حتي أبناء اليسار مثل محمود أمين العالم ولطفي الخولي وحسن فؤاد وصلاح حافظ وعبد الرحمن الخميسي ويوسف ادريس وغيرهم، لبّوا نداء الثورة، وقدموا أشكالا لا نظير لها من الدعم الفكري والفني والثقافي والأيديولوجي لسلطة يوليو الجديدة، وكانت مجلات "التحرير والرسالة الجديدة" علي وجه الخصوص، بديلا مناسبا عن مجلتي الرسالة والثقافة.
ولا يستطيع أي باحث أو قارئ لثقافة ماقبل ثورة 23 يوليو 1952، أن يدرك طبيعتها، دون أن يتعرّف بشكل كامل علي مجلتي الرسالة والثقافة في مصر، بل في العالم العربي كذلك، حيث إن المجلتين كانتا من أوسع المجلات الثقافية والعربية تأثيرا وانتشارا، فالرسالة كانت قد نشأت في عام 1933، مستفيدة من الزخم الفكري والسياسي والثقافي والأدبي الذي تفتّق بعد ثورة 1919، وكانت هناك نهضة صحافية قد أرست دعائمها، فكانت الصحف السياسية والفنية مثل البلاغ اليومي والأسبوعي، والسياسة اليومية، والأسبوعية، وروز اليوسف، والمسرح، والكواكب، والعصور، وكوكب الشرق، والجديد، وأبوللو والمجلة الجديدة، وكذلك المقتطف والهلال اللتين كانتا مستمرتين منذ مايزيد علي أربعة عقود في ذلك الزمان، وكانت أقلام طه حسين ومحمد حسين هيكل ومصطفي صادق الرافعي وعباس محمود العقاد وأحمد أمين وسيد قطب ومحمود محمد شاكرومحمد فريد وجدي ومصطفي وعلي عبد الرازق وسلامة موسي وزكي مبارك ومحمد التابعي وفكري أباظة وتوفيق الحكيم وفيليكس فارس وسامي الكيالي وغيرهم، تعمل في جد ونشاط وحيوية، وكانت المعارك الثقافية والفكرية والسياسية مفتوحة بشكل شبه مطلق علي كل القضايا السياسية والأدبية والفنية والدينية، إنه عصر صاخب بكل معني الكلمة، ولا مفر من دراسة هذه المجلات وتوجهاتها، لإدراك مفاتيحه الذهبية.
وبعدما كان يتولي تحرير تلك المجلات كتّاب ومثقفون ومبدعون مثل محمد حسين هيكل للسياسة الأسبوعية، وأحمد حسن الزيات للرسالة، والأديب والكاتب والمترجم عبد القادر حمزة للبلاغ، والدكتور أحمد أمين للثقافة، والشاعر والأديب عادل الغضبان لمجلة الكتاب، والشاعر أحمد زكي أبو شادي لأبوللو، سلامة موسي للمجلة الجديدة، واسماعيل مظهر لمجلة العصور، ثم المقتطف فيما بعد، وأنور كامل لمجلة التطور، أصبحت المجلات الثقافية يترأسها ضباط، فمجلة "التحرير" كان أول رئيس تحرير لها الصاغ أحمد حمروش، واستمر فيها ثلاثة أشهر، ثم قبض عليه، وتولاها من بعده مباشرة الصاغ ثروت عكاشة الضابط بسلاح المدرعات، ولا يعني ذلك أن المجلة كانت تقدم ثقافة وصحافة متوسطتي القيمة، بالعكس كانت تقدّم ثقافة راقية، لأن إدارة المجلة استعانت بكتّاب ومبدعين لهم باع في الثقافة والصحافة مثل حسن فؤاد وصلاح حافظ ومصطفي بهجت بدوي وغيرهم، ولكنها كانت تحت المراقبة، وتحت بصر وأذن السلطة، لذلك تم استبعاد أحمد حمروش والقبض عليه بعدما كتب الشاعر الغنائي مأمون الشناوي مقالا لم يرض عنه أولو الأمر في ذلك الوقت، وكذلك تم إقالة واستبعاد ثروت عكاشة نفسه بعد عام بالضبط، لأسباب تشبه الأسباب التي استبعد بها حمروش، كذلك تولي رئاسة تحرير مجلة "الرسالة الجديدة" الضابط يوسف السباعي، والذي استعان بفريق واسع من الكتّاب والمبدعين المدنيين، ونشر لأسماء كانت حاضرة في المشهد آنذاك، مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور ومحمود أمين العالم ومحمد مندور ومحمد أبوطائلة ويحيي حقي وعباس خضر، ونشر رواية "بين القصرين" علي حلقات في المجلة، مصحوبة برسومات فائقة الجمال للفنان الحسين فوزي.
إذن كان من الطبيعي أن تنتهي استمرارية مجلات الثقافة والرسالة والكتاب والمجلة الجديدة والكاتب المصري، وماشابهها من المشهد، لأن هناك خيوطا جديدة بدأت تمد ظلها الفكري والسياسي والاجتماعي علي المشهد ككل، ولا بد من الأصوات الجديدة تعبّر عن نفسها في منابر جديدة، وبالتالي لم تتوار المجلات القديمة فحسب، بل تواري أصحابها ورؤساء تحريرها وممثلوها الذين برزوا في لحظات تاريخية سابقة، لتحل ّ محلها نماذج أخري ملائمة لتلك المرحلة، حتي عندما عادت مجلتا الرسالة والثقافة للصدور مرة أخري في أوائل الستينيات لم تستمرا، حيث أنها كانت تشكّل صوتا ناشزا في اللحن الجديد، ولم تتناسب مطلقا مع النغمات الجديدة.
وإذا كانت مجلتا التحرير والرسالة الجديدة وبضع مجلات ثقافية أخري مستقلة، استطاعت أن تصبح بديلا محليا عن مجلتي الرسالة والثقافة القديمتين، فهناك في لبنان بدأت مجلة جديدة تخطو خطواتها الأولي، وفي ذات الوقت أي عام 1953، وهي مجلة "الآداب"، والتي استطاعت أن تقدّم البديل الثقافي العربي الأشمل لكل الأصوات القومية والطليعية الثقافية والفكرية والأدبية الجديدة، وجدير بالذكر أن التحضير لصدور هذه المجلة تمت مناقشته مع أحد أقطاب مجلة الرسالة القديمة، وكانت المناقشات تتم بين سهيل ادريس مؤسس المجلة، والناقد أنور المعداوي ناقد مجلة الرسالة الكبير، وجاءت مجلة لتحمل أشواق الكتّاب والمبدعين الشباب الجدد، فتألق في رحابها شعراء من طراز صلاح الدين عبد الصبور ومحمد الفيتوري وعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي وبلند الحيدري وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد ابراهيم أبوسنة وفاروق شوشة ونزار قباني وفدوي طوقان وسلمي خضراء الجيوسي وآخرين، كذلك استقطبت أقلام قصاصين مثل سليمان فيّاض وعبدالسلام العجيلي وغسان كنفاني ومحمد خضير وأبوالمعاطي أبو النجا وغيرهم، كما تألق علي صفحاتها نقاد شباب مثل رجاء ووحيد النقاش ومحيي الدين محمد وسامي خشبة وغالب هلسا وغيرهم، وقدّمت المجلة أعدادا خاصة في الشعر والقصة والرواية والمسرح والنقدالأدبي، وحرّكت المياه الساكنة الثقافية في كافة ربوع العالم العربي، وكان رئيس تحريرها الدكتور سهيل ادريس يتمتع برؤية ثاقبة لكافة القضايا الثقافية والفكرية والأدبية في كل أقطار الشرق العربي، لذلك حملت المجلة معارك حامية الوطيس لمفكرين ونقاد ومبدعين بطول وعرض العالم العرض، وكانت نموذجا مشرفا
وعظيما للصحافة الثقافية المسئولة، واتسعت المجلة لكي تنشئ وحدة نشر للكتب والدواوين الشعرية والمجموعات القصصية، ولكن المجلة بعد أكثر من نصف قرن، بدأت خطواتها تتعثر تحت الأزمات الاقتصادية الحادة، وأمام تراجع قارئ المجلات الورقية، فصمتت تماما عام 2006، لتصبح جدارية ثقافية تاريخية، لرصد وقراءة أكثر من خمسة عقود من الزمان.
بالطبع فالأزمات الاقتصادية التي تمر بها المجلات الثقافية تكون سببا مباشرا لإغلاقها، أو حتي طباعة عدد محدود من نسخها، وهناك مجلة طليعية لبنانية أخري، صدرت في عام 1941، وكانت تمثّل الثقافة اليسارية عموما، ولكنها كذلك قدّمت الصوت الوطني الديمقراطي الثقافي عموما، واتسع قوسها علي مختلف التيارات الطليعية، وبعد ستين عاما من صدورها، بدأت تتعثر، وتقلل من مرّات صدورها، ففي الأربعينيات كانت تصدر مرتين في الشهر، وصارت في بدايات الألفية الجديدة تصدر مرة واحد كل شهرين، وفي عام 2006 أعلن رئيس تحريرها الكاتب الراحل الكبير محمد دكروب أن المجلة سوف تتوقف قليلا تحت ضربات الأزمة الاقتصادية، وربما تعود مرة أخري عندما تنفرج تلك الأزمة، وتعاطف كثيرون من الكتّاب والمثقفين مع أزمة المجلة، لكن الأمر لا يتعلق إلا ظاهريا بالمسألة الاقتصادية، ولكن في حقيقة الأمر ملابسات وظروف تاريخية أخري، خلقت قارئا جديدا، لا تناسبه تلك المجلات التي لعبت أدوارا عظيمة في يوم ما، ذلك القارئ الذي يبحث عن ضالته أولا في الفضاء الالكتروني، ثانيا فلابد من حدوث معجزة ما لتطوير الصحافة الثقافية القديمة، والتخلص من أبعاد صحافية أصبحت مملة، وربما سخيفة أيضا لتناسب القارئ النزق والعصري، ثالثا بالنسبة للمجلات الحكومية المدعومة لا بد من إنهاء طقس المجاملات البائس الذي أسّست له وزارة الثقافة المصرية بامتياز، وذلك منذ عقود عديدة، فتجد رؤساء تحرير لا يملكون أدني مواهب صحفية، ورغم ذلك فهم يصرّون علي البقاء.
وإذا كنا تعرضنا لأبرز المجلات الطليعية المستقلة وانهيارها مثل الرسالة والثقافة، وهناك تجارب أخري شبيهة مثل الغد وأدب وجاليري 68، وكافة المجلات غير الدورية التي صدرت في عقد السبعينيات، هناك تجربة حكومية ومدعومة من الدولة، بدأت في مطلع الستينيات، وهي مجلة "الكاتب"، والتي صدرت عن دار التحرير في ابريل 1961، وترأس تحريرها في البداية أحمد حمروش، وضم مجلس تحريرها الدكتور لويس عوض والدكتور محمد مندور، ثم انتقلت رئاسة التحرير في يناير 1964 للناقد أحمد عباس صالح، واتسع مجلس التحرير ليضاف إليه الكتّاب كامل زهيري ومحمد عودة ويوسف ادريس ونعمان عاشور، وكان شعارها "مجلة المثقفين العرب"، واتخذت المجلة طابعا يساريا واضحا، في ظل مجلات محايدة، وربما كانت يمينية جدا في ذلك الوقت، وعندما أتي الصحفي حلمي سلّام رئيسا لمجلس إدارة دار التحرير، كان ضجرا من المجلة، راح يبطش بالكتاب اليساريين العاملين فيها، فقام بنقل رئيس تحريرها أحمد عباس صالح إلي شركة لتجارة الخشب، وكذلك تم نقل الآخرين إلي شركات للقطاع العام ليست لها أي علاقة بالصحافة أو الثقافة، ولولا تدخل جمال عبد الناصر شخصيا، وأمر بصدور المجلة خارج الدار، ولكن علي نفقة مجلس تحريرها، وبالفعل صدر عدد أكتوبر 1964 علي نفقة هيئة تحريرها، بمعاونة بعض من المثقفين التقدميين في ذلك الوقت، وفي مطلع عام 1966 قرر د. عبد القادر حاتم نائب وزارة الثقافة ضم المجلة إلي وزارة الثقافة، وكانت توزع اثني عشر ألف نسخة حسب رواية ابراهيم منصور في مجلة الآداب، ومنذ اليوم الأول بدأ الصدام بين الوزارة والمجلة، وطلب د. حاتم أن يطلّع علي أصول المقالات قبل نشرها، ولكن أسرة تحرير المجلة رفضت بالإجماع هذا الأمر، ولذلك قرر السيد حاتم رفع الدعم عن المجلة، وعاد مجلس التحرير مرة أخري لإصدار المجلة بالمجهود الخاص، ونشرت سلسلة تحقيقات عن الأوضاع المتردية في قطاع النشر، وتشكلت بعد هذه التحقيقات ست لجان لفحص ماجاء بالتحقيقات، وفي أعقاب ذلك تقدم د. حاتم بالاستقالة من منصبه، ولكنه بعد رحيل جمال عبد الناصر، وفي سبتمبر عام 1971 عاد ليصبح نائبا لمجلس الوزراء، ويصدر قرارا عجيبا وهو إغلاق المجلات التي كانت تصدرها وزارة الثقافة، وعلي رأسها مجلة الكاتب، وكأنه يثأر من المجلة ومجلس تحريرها، وكانت حجة د. حاتم بأن المجلات تخسر، ولكن إدارة مجلة الكاتب قدمت مايثبت أن المجلة لا تخسر، ورغم ذلك استمر الصدام قائما، بعد اضطرار وزارة الثقافة أن تستمر المجلة ولكن دون إعطاء أي مكافآت مالية لهيئة التحرير التي وافقت علي ذلك الشرط.
وفي مارس 1973 تم تعيين يوسف السباعي وزيرا للثقافة، وبدأت أشكال الترصد تزداد وتتفاقم، وراحت الرقابة التقليدية تعمل بضراوة، فتم الاعتراض علي فقرة وردت في مقال للكاتب الصحفي حسنين كروم حول المساعدات الإيرانية للأكراد المتمردين في العراق، وتم الاعتراض كذلك علي مقالين للأستاذين عباس صالح وصلاح عيسي، وبدأت في 11 ابريل عام 1974 طقوس الإزاحة والاستبعاد، وعقد اجتماع في الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور محمود الشنيطي رئيس مجلس الإدارة آنذاك، وأثار فيه الشاعر صالح جودت التناقض بين أن تصدر الهيئة مجلة، وفي الوقت نفسه تهاجمها، وتدرجت وسائل الضغط علي المجلة ومجلس تحريرها الذي طالب برفع سيف الرقابة المسلط علي المجلة، حتي تم إزاحة مجلس الإدارة، وتم تعيين الشاعر صلاح عبد الصبور رئيسا للتحرير، بدلا من عباس صالح، وبدأت حرب شعواء علي المجلة، وعلي أعضاء هيئة تحرير، وارتفعت في الأفق اتهامات بالشيوعية واليسارية أطلقها الكاتب الصحفي ابراهيم الورداني وعبدالعزيز الدسوقي ويوسف السباعي نفسه، ولكن قامات كبري آنذاك دافعت عن المجلة، وعلي رأسهم نجيب محفوظ الذي كتب مدافعا عن المجلة، ولائما يوسف السباعي، وكذلك يوسف ادريس ورضوي عاشور وابراهيم أصلان، وسعيد الكفراوي، لتتحول قضية إغلاق المجلة إلي قضية رأي عام .
وفي ديسمبر 1974 استضافت مجلة الطليعة اليسارية أعضاء هيئة التحرير، ليصدروا ملحقا صغيرا داخل مجلتهم، ولكن هذا لم يستمر، وبالتالي فالمجلة لم تستمر بطابعها القديم، الذي لم يصبح مناسبا للتوجهات السياسية الجديدة، والتي راحت لتعمم مبادئها في كافة الإصدارات الأخري، لتبدأ مرحلة جديدة من عصر المجلات الثقافية، ليصل بنا الحال الآن لتكرار المشهد القديم الذي يفرض نفسه بقوة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.