في كل مرّة أربح صداقة أشخاص من ماركة مميّزة في الفايسبوك أشكر الله وأبتسم.لا أتحدّث عن أصدقائي الشعراء والكتّاب ولا عن ذوي البروفايلات التي لا يظهر فيها لا الرأس ولا الرجلين. وانّما أقصد هؤلاء المسجّلين بأسماءٍ حقيقية أو بأسماء الرسل والأنبياء والخلفاء الراشدين. يظهرون في الصوّر واقفين أمام زوايا دينية بعيدة بدشداشات وسيعة ولحي مشذّبة وشفاهٍ دبقة وأسنان محكوكة بأعواد السواك. يقفون في لائحة أصدقائي كتفا لكتف مع شعراء بخمسة دواوين وأكثر. ينقرون تحت ما أكتب وأبادلهم نقرات الحب كما لو أنّنا أطفال مدرسة بعيدة يتبادلون الممحاة البيضاء في حصص التربيّة التشكيلية، أو كجيران أوفياء يتبادلون طاسات الحلوي المغطّاة بمناديل مطرّزة في صباحات العيد الضّاجة بالأطفال والرغيف، فيما جدّات يمسكن بكؤوس شاي ساخنة في الصالون. من قال إن الجدّات تري النجوم والأقمار في كؤوس الشاي. وربما عشّاق قدامي ماتوا في معارك خاسرة. لماذا لا تفكّر الجدّات في كتابة الأشعار مثلاً وإرسالها إلي الجرائد والمجلات مثلما يفعل الأحفاد المغفّلون الذين يسهرون اللّيل ويعصرون برتقالة الرأس بالأيدي المضمخة برائحة التبغ والبن. أهٍ يا جدّتي العزيزة لولا خوفي من العصا المركونة في الجانب لأمسكتُ بك ومخضتك طويلاً كما كنتِ تمخضين اللّبن حتّي تسقط الأفكار من الرأس الأشيب، وأدسّ الأفكار في جيبي وأهرب.أريد أن أجلس خلف زجاج مقهي لأقرأ التّاريخ بحقبه الطويلة وأضحك. أحبّ هؤلاء الأصدقاء وأستغرب أن يقرأوا كتاباتي الجريئة التي تحتاج لتخليصها من بعض الكلمات البذيئة حتّي تصلح للنشر في الجريدة ويُبقي الآباء علي الجريدة فوق منضدة العائلة ليقرأها الأولاد و الزوجة بالتناوب، ثمّ فيما بعد خادمة البيت الحزينة عندما يخرج الجميع. لا أحبّ أن أكتب مثل موظف بنك يمسك بآلة حاسبة ويبتسم للأرقام ولا بطريقة متهتكة ومائعة. ليس مجدياً في شيئ أن أخنق عنقي بربطة عنق ملوّنة ولا أن أتجرّد من ثيابي وأقول للنّاس هكذا خرجتُ من بطن أمّي. كما أنّ الكتابة عن الجسد مسألة صعبة وتحتاج إلي شحذ قبيلة من الجنّ بأكملها. أحبّ المنطقة الوسطي الشبيهة بتنّورة فرنسيّة حدّ الركبتين وحذاء باليه خفيف. ومن يقاوم أن يطلع عليه الصباح ويجده في قطار منحدر من باريس الي بوردو ويغفو جنب النافذة ويفكّر في امرأة بالتحديد قبل أن يأتي من يلطمه علي وجهه ويشعر بالقسوة و ينتبه. أحياناً، أفكر أنّ القسوة تبدأ بسقوط تفاحة من الأعلي وتنحني أنتَ لتضع التفاحة في الصندوق، لكن يأتي من يخطف التفاحة في المسافة الفاصلة بين اليد والصندوق. حينها تسوّي دكّة السروال وتشكر الله، قبل أن تواصل المسير كأيّ مظلوم. ويحتاج الكاتب في النهاية إلي تفرّغ أدبي من الله كي يميط الستائر عن أشياءٍ كثيرة مركونة في الزاوية البعيدة من القلب جنباً إلي جنب مع كتبٍ منزوعة الدفّات وجوارب مثقوبة وكؤوس مشروبة الي النصف. لكن ماذا إذا علم هؤلاء الأصدقاء أنّي آخر من يتسلل من الباب الخلفي للمسجد لأصلّي في الصفّ الأخير وأول من يستدير بعد الصلاة ويغادر. صحيح أنّي أحبّ جلال الدين الرومي وتأثرت كثيراً بابن عربي في كتابه " فصوص الحكم " رغم أن الكتاب متعبٌ وشاقّ ويُستحسن قراءته في ليالي الشتاء الطويلة. صحيح ،أيضاً، أنّي عشتُ أشبه بمتصوّفٍ غريب في قرية بعيدة جنوب المغرب حيث أستلقي كلّ ليلةٍ تحت النجوم وأنتظر عودة جبران في عربةٍ من بيت والد سلمي كرامة في رواية " الأجنحة المتكسرة". لا أنصح أحداً بقراءة جبران خليل جبران ولا المعرّي في سنّ المراهقة. الأول بركان أحمر والثاني زنزانة قاتمة بلا كوّة ضوء.. أخشي علي الأولاد أن يقلبوا طاولة العشاء علي الوالدين ويخرجوا ليسهروا اللّيل ويستمعوا للمذياع مع حارس السيارات. متصوفاً صغيرا كنتُ، لكن دون جلباب خشن ولا حبّات زيتون ترشح برائحة صندوق مركون في الزاوية. فقط بسروال جينز أزرق ممسوح جهة الركبتين ومذياع في اليد مثل الراعي النبيل، وآلة تصوير متدلّية علي الصدر كسائح مسنّ بحذاء أكبر من مقاسه وجيب سروال خلفي مقلوب. في تلك الفترة حفظتُ ثلاثة وثلاثين حزبا من القرآن وأمسكت بميكروفرن المسجد طوال شهر رمضان وشرحتُ قصيدة " البردة " للإمام البوصيري لساكنة القرية. لكن لأسبابٍ نفسيّة غامضة لم أستطع لحدّ الآن أقنع نفسي بأن أترك لحيتي تنسدل إلي الإسفل. وهي الأسباب التي تجعلني أفكّر أنّ العالم حديقة جميلة بممرّات وسيعة وكراس علي مقاسات مختلفة. وهناك الله يرعي الحديقة والكراسي بالماء والنجوم والعصافير. يحدث أن تكون الكراسي هي المساجد والكنائس والمعابد والأديرة البعيدة .ويحدث دائما للناس أن يبحثوا عن تبريرات وأعذار واهيّة ويتقاتلوا خارج الحديقة تحت يافطات العقيدة أو المذهب دون أن تسعفهم الحكمة في الوصول الي الله. شخصياً،أحتفظ بذكري جميلة لتاجرٍ يهودي يبيع النعال والأحزمة الجلديّة وسط المدينة. كان يتعاطف مع نقودي القليلة وأتعاطف أنا مع قبّعته المخرومة وصمته الطويل.لا أدري لماذا اختفي الرجل الجميل بعد اندلاع حرب الخليج الأولي وجاء مكانه من يبيع الأمشاط والأقراط للبنات. مؤسف جدّاً أن تدفع الحرب في كلّ مرة بأناسٍ أبرياء ليجرجروا حقائبهم في محطّات ومطارات العالم، في المعابر الضيّقة وأمام السفارات الغشّاشة.ومؤسف ،أيضاً، أن تدفع بنا عيون قاسيّة لنتملّي وجوهنا في المرآة ونتذكّر البلاد البعيدة التي جئنا منها قسراً. شاعر وكاتب مغربي