رغم كل محاولاته للوصول في موعد التوقيع في دفتر الحضور لم يستطع. كان قد تحرك بسرعة كالبهلوان من حجرة منزله الضيقة إلي باب الشقة، إلي سلالم الدور الأول المكسورة سلمته الثالثة، إلي الشارع، إلي الرصيف الآخر مهرولاً ومتفادياً في الوقت نفسه عربة كادت تدهمه، ومن حارة إلي حارة إلي معدية في النيل وضع قدمه داخلها قبل ثوان من إعلان قائدها اكتمال عدد الراكبين والانطلاق بها إلي الشاطيء الآخر، وعند الشاطيء عبر الشارع مرة أخري إلي محطة الميكروباص التي تضج بالجلبة وصياح السائقين والتباعين: »واحد عمرانية.. جيزة جيزة«. حملة الميكروباص في جوفه المكتظ بمجموعة من البشر، رجالاً ونساء يكادون يختنقون حيث أقدام المحشورين في المقعدين الخلفيين توشك أن تلامس ظهور من أمامهم، والأجساد الملبدة بالعرق، والظهور المنحنية عند الصعود والهبوط تتلاطم تحت سقف العربة شديد الانخفاض. انحني الانحناءة الثانية هابطاً مع بعض الركاب عند وصول الميكروباص لمحطته، وبمجرد نزوله شاهد الاتوبيس الذي سيركبه علي وشك التحرك، حمد الله علي عدم انتظاره له هذه المرة تحت شمس المحطة، وكأنه في سباق للجري لحق بالاتوبيس ممسكاً بقوة بعمود سلمه حتي لا يسقط. وصل أخيرا وأنفاسه تتقطع وساعة يده تشير إلي التاسعة إلا الثلث، لم ينتظر أسانسير الشركة المعطل دائماً وأظهر براعة جديدة وهو يكر كل سلمتين في قفزة واحدة. كان قد أعد عدته في اليوم السابق لما سيقوله للأستاذ سيد مديره إذا ما وصل متأخرا ربما للمرة الثالثة، وإذا ما حاول هذا الأخير خصم يوم جديد من مرتبه جمع في ذهنه كل الأعذار والحجج الممكنة لتأخره وأعد دفاعه الذي ولابد وأنه سيكون مستميتاً بأدلة دامغة يمكن أن تحير العقول وتضطر المنصت إليها إلي رفع الراية البيضاء وقبول عذر التأخير.. معذرة.. سعادتك لا تعرف كيف أصل إلي الشركة، والله وحده يعلم كم أجاهد وأعاني لأصل وأمامي أربع مواصلات ينبغي أن تحملني من منزلي إلي هنا رغم أني أصحو قبل طلوع الفجر، ولكن الطريق من وراق العرب إلي هنا بالكاد بالكاد يحتاج إلي ثلاث ساعات، هذا مع الاستعجال الشديد ومع افتراض وجود مواصلات جاهزة في انتظاري، أقسم لك يا أفندم أني أصحو قبل صياح الديك، لو كنت أعمل بهلواناً في سيرك ما استطعت أن أصل في وقت أكثر تبكيراً من ذلك.. أنا مظلوم مظلوم مظلوم.. لقد تقدمت بطلب من ثلاثة شهور لنقلي إلي فرع الشركة القريب نسبياً من سكني كي أصل في موعدي ولحرصي علي مصلحة العمل ولكن لم يصلني رد علي طلبي حتي الآن، وإجازتي المرضية لم استطع أيضا تجديدها، وطبيب التأمين الصحي الذي يعرف حالتي الصحية أكثر من أي شخص آخر يتهمني بالتمارض.. فلمن أذهب ومن يسمعني ويقدر ظروف حياتي الشائكة الصعبة؟ انتهي من قفز سلالم الأدوار الأربعة واصلاً إلي مدخل الشركة وهو لايزال يلهث والعرق يتصبب من جبينه، وكان أول ما واجهه هو المنظر الخالد لدفتر الحضور الكبير الموضوع علي طاولته والمفتوح علي صفحة اليوم، وفي ذيل الصفحة توقيع آخر من حضر من الموظفين في الموعد وتحته مباشرة الخط الأحمر الذي يفصله عن أسماء المتأخرين مستسلماً للأمر الواقع كتب اسمه تحت الخط الأحمر ووقع بجواره ثم دلف إلي حجرة الأرشيف وهو يمسح عرقه المنساب بمنديله ملقياً بتحية صباح سريعة علي زملائه في الحجرة. كان الزملاء منهمكين في عملهم في صمت باستثناء واحد انشغل بحل الكلمات المتقاطعة في إحدي الصحف، وصله رد تحيته منهم في لهجة روتينية متكاملة صدرت من أفواههم كالهمهمات. قطع أحدهم الصمت قائلاً له في اقتضاب ودون أن يرفع رأسه عن دوسيه يقلب فيه: »المدير كان عايزك« دق قلبه متوجساً، علي أنه كالجندي الذي تزداد فيه روح التحدي عندما يواجه عدواً شرساً استجمع شجاعته وتماسكه في ثوانٍ، وكالطالب الواقف أمام لجنة الامتحان راح عقله يسترجع في سرعة مذهلة كل ما حفظه من أعذار وحجج دامغة وعبارات قوية ومؤثرة تحكي بأبلغ بيان ظروفه الصعبة التي تضطره للتأخير في (بعض) وليس (كل) الأحيان، بسمل وحوقل قبل أن يدق دقات خفيفة مهذبة علي باب حجرة المدير. وصله صوت الأستاذ سيد بلهجته الرصينة وسط صمت حجرته المشع بمهابة نابعة من وجوده فيها »ادخل«. تقدم إلي داخل الحجرة ، توقف وقفته المعتادة أمام المدير كالطالب الواقف أمام ناظر مدرسته، كان الأستاذ يتحدث في التليفون، وبمجرد أن رآه وضع إحدي يديه علي بوق سماعة التليفون مؤقتاً حتي ينهي حديثه معه، ثم نطقت شفتاه بالسؤال المتوقع باستهزاء يشي بثورة غضب كامنة : »سعادتك اتأخرت ليه المرة دي كمان؟« - »أصل الحكاية....« وقبل أن يسترجع أية عبارة من العبارات التي حملها لذاكرته، وقبل أن يردف كلمته الثانية بأي كلمة ثالثة لشد أزر أختيها باغته الأستاذ قائلا بهدوء غريب كقاض يلقي بقلب بارد حكماً بالإعدام علي متهم: «مخصوم منك يومين« بعدها علي الفور رأي رأس الأستاذ سيد يستدير مع كرسيه الدوار جهة اليسار مبتعداً بنظره عنه. تسمر واقفاً في مكانه أمامه محاولاً استعادة رباطة جأشه للمرة الأخيرة ومصراً هذه المرة أيضا علي إلقاء مرافعته وطرح دفاعه. تنبه الأستاذ لاستمرار وجوده في الحجرة فاستدار بوجهه إليه وهو لا يزال ممسكاً بسماعة التليفون وفي عينيه نظرة متسائلة عما يريد، أما هو فلم يتصور أن الموقف يمكن أن ينتهي بهذه السرعة فلم يتحرك خطوة واحدة، عندها تصاعدت النظرة الشاخصة إليه في عين المدير محملةً ببريق كالشرر وهي تكاد تنطق بسؤالها الاستنكاري: »واقف مستني إيه؟.. ما تتفضل تروح علي مكتبك« تنبه إلي ما حاول أن يتجاهله وهو أنه دخل علي المدير أثناء انشغاله بمكالمة تليفونية لم يعد الموقف يحتمل المزيد. توقف عقله عن التفكير فاستدار خارجاً وقد هبط حماسه لكل شيء لنقطة الصفر، وبينما هو يغلق باب الحجرة وراءه وصله صوت المدير مجلجلاً من الداخل كأنه صوت شخص آخر ويقول في مرح لمحدثه علي التليفون: »أيوه يا سيدي.. احنا بقي كنا بنقول إيه؟«