ترامب يتهم بايدن بقيادة "إدارة من الجستابو"    خبير تحكيمي: حزين على مستوى محمود البنا    محمد صلاح: هزيمة الزمالك أمام سموحة لن تؤثر على مباراة نهضة بركان    حالة الطقس اليوم.. تحذيرات من نزول البحر فى شم النسيم وسقوط أمطار    بسعر مش حتصدقه وإمكانيات هتبهرك.. تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo    نجل هبة مجدي ومحمد محسن يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    موعد مباراة الأهلي ضد الهلال اليوم الإثنين 6-5-2024 في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    "لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرانية    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 6 مايو 2024    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أروقة الأدب لقفص الاتهام .. ومن قاعة المحاضرات لساحة المحكمة
نشر في أخبار الأدب يوم 27 - 02 - 2016

حالة من الاكتئاب لا أستطيع أن أنزعها من روحي منذ أن غادرت ساحة المحكمة تاركين وراءنا أحمد ناجي لتنفيذ الحكم .. الحكم بالسجن الذي يواجهه الآن بتهمة الإبداع.
تتداعي عشرات المشاهد إلي رأسي الآن .. ذلك الشاعر العراقي متدليا من علي المشنقة .. ثم أري رؤوسنا جميعا معلقة علي رماح الموت تقودنا إليه أفكارنا ممسكة بحراب مسنونة.. فيرافق الاكتئاب خوف ما ..
للمرة الثالثة علي التوالي في أقل من بضعة أشهر يفتح قفص الاتهام فمه علي مصراعيه ليلتهم أحدنا .. إسلام البحيري .. فاطمة ناعوت .. وأخيرا أحمد ناجي ..والتهمة قلت أو زادت هي تهمة التفكير والتعبير الحر عن الرأي.
علي أن أتردد الآن وأنا أكتب، أراجع ما أكتبه أو ما أقوله عشر مرات لربما فقدتني أمي غدا في توصيف جديد لتهمة ما أحملها فوق عاهلي بتهمة التفكير ..
بل ربما ما أكتبه الآن يثير الاستياء .. فأنا حقا لا أعرف ما تلك الحدود التي يتوقف عندها ازدراء الأديان أو خدش الحياء العام .. فهي تعبيرات مطاطة للغاية ولا يمكن التعويل عليها إلا بالذائقة الشخصية..
أتساءل هل يرسم الفنان التشكيلي موديلا عاريا بعد ذلك أم أن في ذلك خدشاً للحياء، ماذا عن كل أشكال الفنون التي تتخذ من الجسد البشري مادة للفن كفنون البيرفورمانس أو الأداء.. أتساءل هل التماثيل العارية خادشة للحياء .. ماذا عن مشهد أم ترضع صغيرها بأحد الأفلام؟ لربما كان زواج ياسين بزنوبة التي كانت علي علاقة بوالده في ثلاثية نجيب محفوظ أو العوامة التي يملأها دخان الحشيش في ثرثرة فوق النيل هو نشر للفسق والفجور في المجتمع..
مصطلح جديد كان يتردد داخلي طوال مرافعة وكيل للنيابة .. خادش للروح .. كل هذا الخوف الذي بثته كلماته في قلبي .. كل تلك الطلقات التي رمي بها زميلاي متهما إياهما بأفظع التهم مستخدما أقذع الألفاظ.. وليت التسجيل مسموح به.. لسجلنا تلك المرافعة وجعلنا مبدعي مصر يستمعون إليها ليتوقفوا فورا عن الإبداع ويلتزموا الصمت ويتوقفوا أيضا عن ممارسة فعل التفكير..
يطلب مني طارق الطاهر عقب خروجنا من ساحة المحكمة أن أكتب .. أنظر إليه بدهشة.. فلولا تحركنا علي الفور لدفع الغرامة التي كان هو بحسه الصحفي ووعيه بمجريات الأمور علي استعداد لدفعها فأحضر المبلغ كاملا معه.. لبات رئيس تحرير أهم جريدة أدبية في الزنزانة .. خرج طارق يشعر بالحزن لأنه ترك وراءه أحد ابنائه .. خرج يمسك بهاتفه ليبحث عن مخرج لشاب في مقتبل عمره سوف يرافق المجرمين والخارجين علي القانون بتهمة التخيل ..
أنظر إليه وهو يطلب مني أن أكتب عما حدث .. وأتساءل هل حقا تريدنا أن نكتب من جديد ؟؟ ألن نتوقف عن الكتابة وعن الإبداع وعن الفن.. أليست هذه هي البدايات دائما قبل أن تضيق الدوائر رويدا رويدا .. ألن توقف عن ممارسة فعل الحياة خوفا علي تلك الحرية المؤقتة خارج قفص الاتهام ؟؟
قاعة المحكمة .. كلاكيت أول مرة
46 آخر الرول
أسرح بنظري بعيدا .. إلي صباح ذلك اليوم.. حيث واحدة من البدايات التي تكررت كثيرا في تلك القصة .
التاسعة صباح السبت الموافق 20 فبراير 2016 .. أستقل "تاكسي" إلي العباسية .. حيث برج مصر للسياحة وفي مواجهته محكمة شمال شرق .. المرة الأولي التي أدخل فيها إلي قاعة المحكمة .. أهاتف عائشة لأجدها بانتظاري ..
قاعة المحكمة مزدحمة للغاية .. اخترنا أن نجلس صفا واحدا بآخر القاعة حيث يأتي رقم القضية التي جئنا بشأنها بآخر الرول .. رقم 46 .. طارق الطاهر وعائشة المراغي وسوسن بشير وإيهاب الحضري قبل أن ينضم إلينا آخرون لمؤازرة الطاهر وناجي ..
هناك تتحول كل الأشياء الأولي لمادة خصبة للإبداع لقاصة.. قفص الاتهام.. وجوه الحاضرين .. رائحة القاعة .. الطلاء المتشقق .. ثم تضفر كل ما يحدث في المخيلة الإبداعية التي نحن بصدد محاكمتها الآن ..
كان ذلك الحاجز الخشبي فاصلا بيننا وبين بعض المتهمين .. حيث جلس صلاح الذي رمقنا بنظرة نارية فلكزت عائشة التي جلست بجواري فغرقت في الضحك ..
أتذكر تحذيرات طارق لي بعدم التصوير داخل القاعة حتي لا أتعرض للعقوبة .. ثم يعيد تحذيره أن علينا أن نتوقف عن الضحك وعن الكلام ما إن يدخل القضاة وإلا واجهنا تهمة إهانة القضاء .. حتي مضغ علكة لهدوء الأعصاب كان ممنوعا.
ثم أتذكر قائمة الممنوعات التي غناها الشيخ إمام من كلمات أحمد فؤاد نجم.. ممنوع من السفر..ممنوع من الغنا.. ممنوع من الكلام..ممنوع من الاشتياق..ممنوع من الاستياء..ممنوع من الابتسام..وكل يوم في حبك..تزيد الممنوعات.
أشعر الآن ما الذي يعنيه أن تحبس الحرية وأنا التي أجلس خارج القفص لمجرد أنهم منعوني من الضحك والكلام لمدة قصيرة .. فماذا عما يشعر به من فقدوا حريتهم بالفعل وراء هذا القفص الحديدي.
أتحسس فمي لأتاكد من عدم الكلام وأتحسس رأسي لأتأكد من ربط الأفكار بجنزير حديد حتي لا تتسرب ويراها أحدهم ، وربما كانت أفكارا ذات طبيعة صادمة لمجتمع محتشم بطبعه..
خمس ساعات قضيناها بالانتظار .. تأملنا كل الوجوه .. ودارت بيننا أكواب الشاي .. وامتلأت القاعة بالدخان .. البعض في انتظار حكم القضاة والبعض الآخر في انتظار ذويهم .. ولكل منهم حكاية:
كانت المرة الأولي التي أسمع فيها لفظ "محابيس" .. فقد امتلأ قفص الاتهام الحديدي الأسود بوجوه مختلفة .. بينما بدأ مشهد مواز من نوع آخر لحوارات تتم عبر القفص الحديدي .. كان من بينها قصة حب لفتاة صبغت شعرها بلون أصفر ووضعت علي رأسها إيشارب ليوبارد حسب تعبير صديقتي الأرستقراطية عن كل ما هو يشبه لون النمر .. وكنت قد رأيت شعرها عدة مرات عندما خلعت طرحتها تماما وأعادت ارتداءها قبل أن تمد أصابعها عبر فتحات القفص لتمسك بأصابع ذلك الشاب الذي يقف بداخل القفص ..
ربما لم يكن أحمد ناجي وطارق الطاهر يريان تلك القصص الموازية حيث غرق كلاهما في الحديث مع المحامين عن توقعهم لما سيحدث بين لحظة وأخري..
خرج صلاح براءة بعد ما يقرب من خمس ساعات انتظارا في قاعة المحكمة عقب خروج هيئة المستشارين للمداولة ولكن أحمد لم يخرج.. دخل
متهما بعقوبة خدش الحياء العام وبعقوبة الحبس سنتين .. خرج طارق الطاهر أيضا ولكن بعد أن تمت إدانته وتغريمه عشرة آلاف جنيه كأقصي عقوبة ممكنة له..
الكلايمكس
كان الحكم بحبس ناجي هو ذروة الأحداث الدرامية كما يقولون عليها في الدراما الكلايمكس Climax ، وكعادة الأعمال الجيدة لابد من الرجوع فلاش باك لبداية القصة .. ففي صباح أحد الأيام فوجئ الصحفي والكاتب أحمد ناجي والكاتب الصحفي طارق الطاهر رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب باستدعائهما إلي سراي النيابة للتحقيق معهما في البلاغ الذي تقدم به المحامي هاني صالح توفيق بتاريخ 2014/8/13، والذي جاء فيه أنه عندما قرأ المقال المنشور لأحمد ناجي بأخبار الأدب حصل له اضطراب في ضربات القلب وإعياء شديد وانخفاض حاد في الضغط . وأن هذا المقال خدش حياءه وحياء المجتمع..
تلك القصة التي تغيرت نسبيا في المرافعة الأخيرة والتي علي ما أتذكر حولها وكيل النيابة في مرافعته إلي أب مصري يشتري جريدة "أخبار الأدب" لتثقيف ابنتيه دون أن يعلم بما تحويه ، وأن زوجته وابنتيه قد شعرن بالهلع لما جاء بالجريدة عندما قرأن ما جاء بقصة أحمد ناجي.
المهم أن الجريدة كانت قد نشرت فصلاً من رواية "استخدام الحياة " لأحمد ناجي ضمن مادة عددها الصادر بتاريخ 3 أغسطس 2014، والذي كان مخصصاً للقاهرة، بوصف هذه الرؤية الإبداعية والفنية معبرة عن رؤية الروائي أحمد ناجي للحياة في القاهرة.
وقد قالت النيابة، في أمر الإحالة للقضية رقم 1945 لسنة 2015 إداري بولاق أبو العلا: "إن الاتهام ثابت علي المتهمين وكافٍ لتقديمهما إلي المحكمة الجنائية بسبب ما قام به المتهم (أحمد ناجي) ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة، وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكًا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجًا علي عاطفة الحياء".
وأضافت النيابة أن "المتهم خرج عن المثل العامة المصطلح عليها فولدت سفاحا مشاهد صورت اجتماع الجنسين جهرة وما لبث أن ينشر سموم قلمه برواية أو مقال حتي وقعت تحت أيدي القاصي قبل الداني والقاصر والبالغ فأضحي كالذباب لا يري إلا القاذورات فيسلط عليها الأضواء والكاميرات حتي عمت الفوضي وانتشرت النار في الهشيم."
لم يكن قرار استدعاء أحمد ناجي وطارق الطاهر هو الحدث الأبرز في تلك القضية وإنما تلك الطريقة التي عومل بها الطرفان وكأنهما متهمان في قضية شرف أومخدرات ، تلك اللغة التي استخدمها المحقق سواء في التحقيق أو في مرافعة المحكمة.
استرجع ما قاله الطاهر عقب خروجه من ساحة النيابة : بدأ التحقيق الذي تم منذ شهور بمعاملتي متهما، حيث حرص وكيل النيابة علي ذكر أن المتهم مثل أمامنا وقد تم القبض عليه بمعرفة حرس المحكمة، كما سجل أنني عجزت عن إحضار شهود لنفي الواقعة، سجلت هذه العبارات رغم أنه لم يتم القبض علي وأنا الذي تقدمت بالكارنيه الخاص بنقابة الصحفيين وببطاقتي الشخصية لأخطر السيد وكيل النيابة أنني موجود في الخارج لإجراء التحقيق.
علي العموم كان التحقيق "قاسيا علي نفسي بدرجة كبيرة" فلمدة عشر دقائق لم أستطع أن أستوعب أن يتم التحقيق معي بهذه الصورة، واضطررت أن أطلب من السيد وكيل النيابة إيقاف التحقيق، فوافق مشكورا، وهنا قلت أنني لست تاجر مخدرات أو أنه يتم استجوابي في قضية تمس الشرف، وأن النصوص الأدبية أيا كانت هي محض خيال، وأننا من الممكن أن نتفق أو نختلف عليها، وأن الثقافة المصرية عبر تاريخها كانت لها اجتهادات، وصلت إلي حد لماذا أنا ملحد، فيرد الآخر لماذا أنا مسلم، وأنه ذات يوم انتصر محمد نور لحق طه حسين في التفكير، بعد صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" فقاطعني وكيل النيابة متسائلا من محمد نور، فأجبت رئيس النيابة الذي حقق مع طه حسين في هذه الواقعة، فأجاب وكيل النيابة بأنه لا يعلم شيئا عما أذكره.
إن تلك اللغة التي استخدمها المحقق كانت مهينة إلي حد كبير بالنسبة لمبدع ورئيس تحرير واحدة من أعرق الجرائد الأدبية ، ليعامل معاملة المجرمين وتجار المخدرات بل أن يتم استخدام مفردات مثل الذباب والقاذورات.. في محضر رسمي توصيفا للواقعة..
في المحاكمة الثانية لم أقرأ ولكنني سمعت بأذني .. وشعرت بأنني أقف في موقف مشابه .. وأصابتني حالة من الاكتئاب ومن الخوف لأول مرة من الكلمة التي طالما كانت بالنسبة لي طريق للحياة .
الإبداع تحت المقصلة
يتغير المشهد من ساحة المحكمة (منظر داخلي) إلي (منظر داخلي) آخر حيث قاعة المحاضرات بجامعة القاهرة حيث أقوم بدراسة التشريعات الثقافية ضمن مواد دبلوم التنمية الثقافية التي تهدف لتأهيل العاملين في مجال الثقافة.
واحدة من القواعد المهمة التي أحتفظ بها جيدا، أن علي المبدع أو العامل بمجال الثقافة دراسة المحيط الذي يعمل به جيدا بما في ذلك المجتمع والأعراف والتقاليد ، وأهم من ذلك معرفته بالتشريعات والقوانين التي تحكم العمل الثقافي في البلد التي يعمل بها .
شعرت بالراحة ، فقد خرج دستور 2014 للدفاع عن المبدعين وحمايتهم طبقا لمواده التي تتناول حرية الإبداع والفكر والتعبير عن الرأي فتنص المادة 65 من دستور 2014 علي أن "حرية الفكر والرأي مكفولة ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أوالكتابه، أوالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر". ومن هنا يضع الدستور المصري ركنا أساسيا من أركان دعم الحرية بأن لكل مصري الحق في التعبير عن رأيه بأي وسيلة تعبير ملائمة بالنسبة للشخص نفسه.
كما توضح المادة 67 من الدستور وتؤكد علي أن " حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوي لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري أما الجرائم المتعلقة بالتحريض علي العنف أو التمييز ضد المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد فيحدد القانون عقوباتها وللمحكمة في هذه الأحوال إلزام المحكوم عليه بالتعويض جزائياً للمضرور من الجريمة إضافة الي التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار".
وبالنظر في هاتين المادتين يتضح أن الدستور المصري المعدل في 2014 يتمسك بحرية الإبداع الفني والأدبي والتأكيد علي حماية الدولة للمبدعين وكفالة حرية التعبير والنشر كافة .. وأن المختص بتحريك الدعاوي للوقف أو المصادرة تكون علي العمل وليس علي المبدع ولا تتم إلا من خلال النيابة العامة وليس عن طريق الأفراد وفي حالة التحريض أو التمييز أو العنف أو الطعن في عمل إبداعي يتم التعويض المادي للمضرور.
حرية الابداع في الدستور واضحة وقاطعة وكما نصت المواد الدستورية علي حرية الإبداع فقد أكدت بعدم المساس بالمبدع سواء أدبيا أو ماديا فلا يحق حبسه أو منعه أو التضييق عليه أي أن الدستور يضمن للمبدع مناخا صحيا يساعده علي الإبداع ويطلق لأفكاره العنان ولا يحق مجازاته من الأفراد بل توجه النيابة العامة الدعاوي للمصادرة في حالات محددة .
حين وضع المشرعون الأمر بيد النيابة العامة كان الهدف حماية المبدع من قضايا الحسبة ولكن لم يكن في الحسبان أن تضع النيابة العامة رقبة أحد المبدعين تحت مقصلة سلب الحرية والسجن طبقا لما يراه من أحكام القانون.
ماذا حدث إذاً؟
اخترت أنا وزميلتي تاميران محمود التي تشغل منصب مدير تسويق المركز القومي للترجمة وكذلك تدرس معي بدبلوم التنمية الثقافية، قضية أحمد ناجي وطارق الطاهر نموذجا عمليا لتطبيق ما درسناه بمادة التشريعات الثقافية... قمنا بجمع كل ما كتب عن تلك القضية وقرأناه جيدا.. كذلك قامت تاميران برصد حالات المصادرة وأزماتها في مصر، والتي لم تصل أبدا لدرجة الحبس أو تقييد الحرية.
تقول تاميران: عندما يتم إنتاج عمل إبداعي ذو طبيعة صادمة للمجتمع لإحساس المبدع إنه بحاجة للتميز أو لنقد إحدي ظواهر المجتمع بشكل غير مألوف فإنه قد يواجه عقوبة قد تصل للموت إذا ما غاب مناخ الحرية عن المجتمع وتقبل الآخر والإيمان بالتنوع الثقافي.
والمبدع بحاجة إلي الحرية وهي ليست شكلا واحدا بل اثنان: الأولي وهي الحرية من القيود الخارجية أي تحرر المثقف من قمع السلطات الثلاث؛ الحكومية، والدينية، والعرفية، وهذا يعني أن الديمقراطية هي حاضنة الإبداع، فهي قاعدة انطلاق الإبداعات الإنسانية. والحرية الأخري من الداخل، وهي قابلية المثقف علي تحرير نفسه من زنزانات الموروثات والمشهورات والمألوفات.
إن أحمد ناجي كاتب شاب قدم عملا أدبيا متحررا من القيود المجتمعيه والأدبية المتعارف عليها و لربما كان التفاعل مع النص المطروح (الرواية) كعملة جيدة أو رديئة والحكم في ذلك يعود لجمهور القراء والنقاد ومانحي الجوائز الأدبية وليس مكان الحكم علي الأدب ساحات المحاكم .
إن هذه التهمة التي وضعت كاتبا خلف القضبان لم تحدث في جمهوريات الموز فكيف تحدث في دولة يعود تاريخ الأدب فيها إلي ما قبل الميلاد وكيف تكون الرواية المتهم كاتبها بخدش الحياء تدعو إلي الحياة والبناء ومحاربة القبح السائد؟!
عندما كتب ماركيز رواية "ذاكرة غانياتي الحزينات" لم يتهم بالإباحية وعندما فاز يوسا عام 2010 بجائزة نوبل للأدب كان عن مجمل أعماله الأيروتيكية بالمناسبة، ولما كتبت إيزابيل الليندي "ابنة الحظ" لم يقل أحد إنها مهووسة بالجنس وإذا ما كانت النيابة لا تعرف هذه الأسماء فلربما بحثت عن منظومة يوسف وزليخة للفردوسي لتري أن الأنبياء أنفسهم لهم من الألفاظ المكشوفة والتعبيرات الصريحة نصيب..
ألأنه حقا خادش للحياء؟
أعادني حواري مع تامي مؤخرا إلي توصيف تهمة أحمد ناجي "خادش للحياء"، وإلي ما نشرته الصحف عن الحوار الذي دار بين سلماوي ووكيل النيابة في المحكمة، فحين تم استدعاء الكاتب محمد سلماوي للشهادة في المحكمة سئل فيما سئل " هل تستطيع أن تقرأ لنا الآن وأمام الحضور جزءا منها؟ سلماوي: هذا لا يجوز. النيابة: لأنه خادش للحياء؟ " حينها أجاب سلماوي: هذا لا يجوز في الأدب، فاجتزاء مقطع وحده هكذا وقراءته مستقلا عن الرواية إنما يخرجه عن السياق الذي كتب فيه، ومن المبادئ الراسخة في النقد لمن درسوه أن العمل الفني لا يؤخذ إلا في مجمله لأن المقصود منه هو تأثيره الكلي علي المتلقّي وليس تأثير جزء واحد منه منفصلا عن السياق الذي جاء به، لذلك لا يمكن لنا أن نجتزئ قطعة من تمثال لرائد فن النحت المصري الحديث محمود مختار، مثل ثدي الفلاحة في تمثال نهضة مصر الشامخ أمام الجامعة ونعرضه وحده علي الملأ، وإلا كان بالفعل خادشا للحياء لأنه خرج عن المعني الوطني الذي يرمز له التمثال ليصبح تأثيره حسيا بحتا، فما يخدش الحياء في الحياة لا يكون كذلك في الفن، وفي الوقت الذي يخدش حياءنا مشهد العري في الطريق العام فإننا نرسل طلبة المدارس إلي المعارض والمتاحف التي تضم لوحات فنية قد يكون بها بعض العري دون أن يكون في ذلك ضرر عليهم."
أما المحامي ناصر أمين فقد ذكر من خلال حواره مع موقع مبتدا أن : القانون ذاهب إلي الواقعية المطلقة من خلال تحليل الأعمال بدقة شديدة، لذلك غير مقبول أن يستخدم عبارات خيالية، بعكس الأعمال الأدبية والفنية فالأديب مطالب بأن يستخدم كل العبارات التي يصل بها القارئ إلي عنان السماء، لذا فالقاعدة القانونية والأدبية دائما علي تناقض، ولا يوجد قانون يلزم الأدباء باستخدام ألفاظ معينة ولا يجرم استخدامها.
وأضاف أمين في ذات الحوار : يجب أن تتطور القاعدة القانونية بتطور المجتمع، فما كان في الماضي خادشا للحياء الآن قد لا يكون علي نفس الحال، ولأن الأخلاقيات متغيرة، لا يجوز أن يتم التعامل معها باعتبارها قاعدة ثابتة، ووصلت محكمة النقض إلي أن الحياء العام هو كل ما يمارس سرا خشية العلانية، والجهر به أو الحديث عنه خدشا للحياء، كالعلاقات الإنسانية الخاصة، وهناك فرق كبير بين العلاقات التي قد تنشأ بين الأفراد، واستخدام المفردات للكتابة الأدبية عنها، والجمع بين الأمرين خطر للغاية.
وأضاف أن النصوص القانونية الحالية التي تعالج "خدش الحياء العام"، بالية، خرجت في منتصف القرن الماضي، وبحثت كيفية معالجة تبول الأشخاص في الشوارع، وكيفية مواجهة رسم راقصة صورة لها وهي شبه عارية، هذه النصوص لا يجوز تطبيقها علي الأعمال الأدبية، لنفرض أن كاتبًا يصور حياة القاهرة في الأربعينيات، ووصف الصور سالفة الذكر، باعتبارها ركنا من الحياة المصرية في تلك الحقبة الزمنية، لا يجوز محاكمته بخدش الحياء العام، ما دام من دوره التعامل مع الواقع ونقله، فالأديب إذا رسم الواقع بشكل أجمل مما هو عليه يكون قد خان قواعده الأدبية، وإذا نقله كما كان عليه يكون قد كسر قاعدة قانونية، لذا لابد من معاملة الأديب بشكل مختلف، وهذا ليس استثناء شخصيا، إذ نسميه ضمانات عملية إطلاق الإبداع.
الحكم بعد المداولة
حين كنا ندرس قضية أحمد ناجي وطارق الطاهر في إطار مادة التشريعات الثقافية لم يكن الحكم الأول قد صدر بعد وتوقفنا في البحث علي رصد كل ما قيل وعرض القضية من كافة جوانبها، وقبل الامتحانات بيومين صدر حكم ببراءة الطاهر وناجي مما أثلج صدورنا ولكننا كنا بانتظار حيثيات الحكم لندفع بها في ورقة الإجابة، وعندما رأيت صديقتي تاميران أول مرة عقب عودتنا من أجازة منتصف العام .. كان ناجي في السجن لتنفيذ العقوبة .
تحدثنا وسألتها: ما رأيك الآن؟؟ فأجابتني: عندما صدر الحكم في قضية أحمد ناجي من محكمة جنح بولاق أبو العلا ظن كل المهتمون أن الأمر انتهي لصالح الثقافة إلا أن استئناف النيابة ضد رواية "استخدام الحياة" يدفعني أن أتساءل عن مصلحة النيابة في سجن الكاتب وهو الأمر الغريب حيث إن القانون والدستور ينصان علي مصادرة العمل دون المساس بحرية الكاتب وهو ما لم يحدث مع أحمد ناجي الذي نشرت روايته عن دار التنوير اللبنانية ودخلت الرواية لمصر بوصفها مطبوعا أجنبيا يحصل علي تصريح من الرقابة علي المطبوعات وله رقم ايداع وترقيم دولي وهو العجيب في الأمر أن يكون المطبوع حصل علي موافقة المختصين لنشره وتداوله وتتفضل النيابة بالاعتراض علي المحتوي والفنيات للعمل الأدبي بوصفه خادشاً للحياء.
إن النيابة ليست بالتأكيد الجهة المنوط بها الحكم علي الأعمال الأدبية ولا تمتلك أصلا المؤهلات الفنية لنقد عمل أدبي ووكيل النيابة بحكم دراسته للقانون لم يدرس التذوق الأدبي أو النظريات الأدبية .
أعادني سؤال تامي لما قاله الطاهر عقب خروجه من ساحة النيابة قبل الحكم الأول في وصف ما جري في غرفة التحقيق عن دفاعه أمام وكيل النيابة قائلا : ولكنني تمسكت بأن مسئولية النشر كانت مسئوليتي، وأنني أنا الذي سمحت بالنشر بعد قراءة العنوان فقط وبضعة الأسطر الأولي، لأنه جزء من كتاب، بالإضافة إلي أنه نص إبداعي متخيل، فسألني ما هو الفرق بين المقال والنص الإبداعي وعرض الكتب؟ فأجبت المقال هو تعبير عن وجهة نظر الكاتب، أما النص الإبداعي فهي عمل متخيل لا يمت للواقع بصلة ويحكم عليه عن طريق النقاد المتخصصين، أما عرض الكتب ففيه سرد لأهم الأفكار التي يتبناها كتاب من الكتب."
إذاً فوكيل النيابة لم يفرق بين المقال والنص الإبداعي ، فكيف له أن يحكم علي هذا الموضوع ، وهنا وجب اللجوء في تلك الحالة إلي جهة أكثر اختصاصا للفصل، وربما هذا ما أشار إليه أحمد ناجي في حواره بجريدة القاهرة قائلا: قرار النيابة والقرارات القضائية عموما مستقلة تماما في مصر ربما بشكل أكثر مما ينبغي وهو ما يتسبب في حدوث التباسات وأخطاء من هذا النوع وهو ما حدث أيضا سابقا مع الفنان د. مجدي الشافعي في أزمة روايته الشهيرة "مترو" حيث استعانت النيابة بآراء الخبراء وقتها وكان منهم د.جابر عصفور وزير الثقافة السابق حيث قدموا مذكرة برأيهم الفني في الأزمة للنيابة العامة وقتها بناء علي طلب من النيابة.
كنا نتمني أن تأخذ المحكمة في الاستئناف برأي الخبراء كما حدث قبل سابق حين تم الاستعانة بمحمد سلماوي وصنع الله إبراهيم ، من واقع عرف قضائي مستقر باللجوء للمتخصصين فلو أن هناك إشكالية طبية أو هندسية للجأ القاضي بلا شك إلي رأي الخبراء ، فلماذ لا يعامل الأدب بالمثل .
تقول تاميران: أتوقع في الفترة القادمة أن تشهد الحياة الثقافية صراعات شديدة وتعنتاً ضد المستنيرين والمثقفين ومصادرات للأعمال الأدبية والفنية بدعوي الأخلاق والفضيلة.
إن الانشغال بالشأن الثقافي ومناخه الصحي الذي من المفترض أن يسود يضع الجميع أمام مسئولية حماية الثقافة وحرية الإبداع وتعيش مصر الآن ظروفا استثنائية وشديدة الخصوصية أثرت علي حركة الإبداع في الخمس سنوات الماضية بشكل كبير جداً لم يكن معتادا من قبل خاصة وأن المرحلة الحالية التي تمر بها مصر كان يجب أن تكون مبنية علي التواصل مع المبدعين والمثقفين وإعادة تشكيل الوعي الثقافي المصري بما يناسب خصوصية المرحلة ورغبة المبدعين والمثقفين.
إن قضية أحمد ناجي حتي كتابة هذه السطور لم تنته وإذا كان تشدد النيابة يثير قلق كل المهتمين بالشأن الثقافي.
أجلس الآن أمام شاشة جهازي الصغير أحتسي النسكافيه الصباحي وأقرأ بيان مثقفي مصر ضد حبس الروائي أحمد ناجي ، بينما أطلق لخيالي العنان فيما يفعله أحمد ناجي الآن في زنزانته الصغيرة لأنه كان لديه خيال واسع قاده إلي هناك .. فمن التالي؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.