للوهلة الأولي شعرت وأنا أتأمل أعماله بأن صوت المطربة الفرنسية إيدت بياف يتسلل إلي أعماقي، كانت لوحاته تشبه مقطوعات موسيقية حالمة متناغمة خاصة وأنها تدور في عالم أعرفه جيدا وهو عالم المقهي أو الكوفي شوب برائحة القهوة التي تنتشر في المكان وبتلك التصميمات التي تميز كل منها والحكايات التي يحملها كل زائر من زواره . "اسبرسو" هو العنوان الذي اختاره الفنان محمد خضر لمعرضه الفردي الرابع الذي استضافه جاليري قرطبة بالمهندسين خلال شهر نوفمبر الماضي مقدما ما يقرب من 30 عملا بخامة الباستيل الناعمة الثرية. وعن اختياره لعنوان المعرض "إسبرسو" يقول الفنان : إن في هذا الاسم دلالة واضحة علي اختيار موضوع الكافيهات كتيمة للمعرض، والتي انتشرت في حياتنا في السنوات الأخيرة وحلت محل المقاهي الشعبية التي تقلصت كثيرا . وقد رصد الفنان من خلال أعماله مشاهد من الكافيهات التي قد نراها يوميا ونعتادها، ولكن برؤية فنية في لوحات حملت في طياتها العديد من المعاني والدلالات أكثر عمقاً من مجرد رصد ظاهري لنماذج من رواد هذه الكافيهات. اما عن "اسبرسو" فيقول : لأنها قهوة مركزة جدا تنطلق منها كل الأنواع الأخري مثل الكابتشينو واللاتية وغير ذلك.. وهو ما يشبه ما فعلته في أعمالي حيث حاولت أن أختزل الأشخاص وأسجل اللغة الجسدية أكثر من تعبير الوجه .. فأصل الموضوع هو الإنسان بدون تفاصيل... وعلاقة الإنسان بالمكان. وربما كان خضر الذي قدم هذا الملمح الغربي المنتشر في مصر وبالأخص القاهرة هو ذاته الذي قدم قبل ذلك مجموعة بديعة من اللوحات التي تغوص في أصالة منطقة وسط البلد في معرض سابق استضافه جاليري أوبنتو خلال شهر مايو الماضي تحت عنوان "آفاق وسط البلد".. والتي استحضر من خلاله روح القاهرة التاريخية الجميلة مصورا تأثير الضوء علي مباني وسط البلد في أوقات متباينة من اليوم، وانعكس من خلالها انبهاره بروعة معمار وسط القاهرة. يقول خضر: القاهرة مدينة المتناقضات، فهي عالم بذاته .. قد تجد فيها روح الشرق أو عالم الغرب .. بها غني فاحش وفقر مدقع .. وليس من الغريب أن تعكس أعمالي ذلك المحيط الذي أعيش فيه .. فالكوفي شوب مثلا أصبح سمة من سمات المجتمع.. وهو مكان من الأماكن التي ارتادها والتي انتشرت حتي أنها أصبحت في كل شارع وكل مكان، لذا لم يعد عنصرا غربيا ولكنه أصبح جزءا من تكويننا.. وعندما أجلس هناك أري بشرا وحكايات وحالات. ومحمد خضر الذي تعامل مع الباستيل بحرفية شديدة، لايسجن نفسه أبدا في قالب واحد فهو يجيد التعامل مع مختلف الخامات ويطوعها لتفريغ شحنته الفنية الداخلية ومنها الأكريليك والأكوريل والزيت، وحتي في تعامله مع خامة الباستيل عمد في معرضه الأخير إلي توظيف تلك الخامة بشكل غير مُعتاد من خلال تحرير الخط في لوحاته معتمداً علي مجموعة لونية متنوعة مما أدي إلي المعاصرة والحداثة المبنية علي أصالة العمل الفني بحيث تطل الخلفية الأكاديمية بظلالها في خلفية المشهد من خلال قوة ورصانة الأداء، وقد جعل الإضاءة في اللوحات هي الأهم مع إظهار ما هو عكس اتجاه الضوء مما أعطي بُعداً درامياً علي الأعمال. ويري الفنان أن ظهور هذا الخط أو الأوت لاين إنما يعكس نوعا من النقاش الفني الداخلي بينه وبين نفسه .. حيث يضيف مفسرا: العلاقة بين الخط والكتلة هو الخط الفاصل بين المصور والرسام ، فالرسام معني بالخط بينما يهتم المصور بالكتلة والخط بالنسبة للمصور شيء وهمي حتي وإن وضعه كنوع من التحديد يلغيه بالكتلة .. وربما كان هذا الصراع الداخلي بين المصور والرسام هو ما أفرز تلك الحالة في النهاية .. وعلي الرغم من نعومتها خرجت بانتونة خضر ثرية ومفعمة بالحياة .. ويعلق خضر علي ذلك قائلا: أنا لا أتعامل مع الألوان علي أنها أحمر أخضر وأصفر .. بل أنظر لها باعتبارها حرارة وضوءا.. فكمية الإضاءة التي تخرج من الأصفر أكبر من التي تخرج من الأحمر.. وأنا في الغالب أنتبه للضوء وقيمته المنبعثة من درجة اللون .. وربما يرتبط ذلك التنوع الفني الذي تعكسه أعمال الفنان محمد خضر من تعرضه لتجربة فنية ثرية حيث حصل علي بكالوريوس فنون جميلة قسم ديكور، شعبة فنون تعبيرية وهي معنية بدراسة المسرح والسينما والفنون البصرية، ومن خلال تلك الشعبة تعرض الفنان لدراسة كافة أشكال الفنون التعبيرية، إضافة إلي ذلك درس تصويرا فوتوغرافيا، وأزياء مسرح وعرائس وكذلك درس موسيقي .. وعقب تخرجه عمل مصمما بقطاع الفنون الشعبية مما دفعه لاستكمال دراسته في الفنون الشعبية حيث يقول : دراسة الفن الشعبي جعلتني أفهم المعني الحقيقي للفن الشعبي، فهو الفن الذي نتج من قلب الناس .. فمثلا هي الأغنية التي يؤلفها ويلحنها الشعب .. كذلك أدركت معني الثقافة بمفهومها الشامل فهي ليست اللوحة أو العمل الإبداعي فحسب ، بل هي كل مفردات الحياة بما في ذلك الطعام الذي نتناوله والملبس وطريقة الكلام وكل شيء يؤثر في حياة الإنسان . ويعتبر معرض "اسبرسو " هو المعرض الفردي الرابع لخضر، ولعل واحدا من أبرز معارضه الفردية الأخري هو ذلك المعرض الذي أقامه في كاليفورنيا وضم 40 لوحة جميعها عن مصر بخامات وأحجام مختلفة، حيث كان الفنان قد تلقي دعوة من مركز "لافانتين" الثقافي بولاية كاليفورنيا الأمريكية للمشاركة مع نحو عدد من المؤسسات الثقافية أخري بهدف تقديم عروض فنية تساهم في تقديم صورة حقيقية عن الشرق الأوسط. حيث يقول الفنان : إن الهدف كان تغيير استخدام مصطلح "الشرق الأوسط" وتوضيح أن هذا الجزء من العالم إنما هو نسيج حضاري ثري يحمل العديد من الثقافات واللغات والتقاليد للملايين من البشر عبر آلاف السنين وتغيير تلك الصورة النمطية المعتادة التي تقدمها السينما الأمريكية عن العرب والمسلمين، خاصة مع وقوع مدينة هوليود عاصمة السينما العالمية بالقرب من مكان الفعاليات. وعندما سألت خضر عن مشاريعه القادمة أجابني بأنه في تلك اللحظة لا يحمل شيئا محددا في تفكيره ولكن الأكيد هو أنه يحتاج لهدنة من سرعة الباستيل، فالباستيل يتطلب مجهوداً لتفريغ الشحنة علي الورق.. ورغم هدوئه الظاهري كخامة ناعمة إلا أنه يخرج بعنف .. أخبرني خضر أنه مع آخر لوحتين شعر بحنين إلي الزيت، مضيفا : كنت أشم رائحة الزيت في أنفي وأعتقد أنني سأرتكن إلي الهدوء في تجربتي القادمة . كانت الموسيقي الخفية للوحات لا تزال تتسلل إلي أذني فسألته عن علاقته بالموسيقي فقال : كل المفردات التي أستخدمها في التشكيل موجودة في الموسيقي ، وأنا أسمع الموسيقي كما أرسم .. وأحب أن أسمع الآلات البعيدة كما أري الطبقات الخفيفة في اللوحة .. مثل الظل والنور، باختصار كل المفردات الخاصة بالموسيقي أراها في الفن التشكيلي .