للوهلة الأولي تبدو أعماله كجزء من مخطوطة قديمة تحتاج لمن يفك طلاسمها، تعتقد أنها دراسة متعمقة في علم الفلك أو ربما مكاشفة روحية، تغرق في تفاصيل الحروف لتكتشف أنها ليست في كثير من أحوالها حروفا معروفة وإنما نمط شكلي أو لغة من نوع خاص يدرك ماهيتها مدونها الذي رغم حداثة وجوده علي الساحة التشكيلية استطاع أن يضع بصمة لأعمال لا تخطئها العين. وقد اختار الفنان الشاب محمد منيصير في آخر معارضه الفردية الذي استضافه جاليري سفر خان خلال شهر أكتوبر الماضي موضوعا غير مألوف كعادته في ذلك "برزخ" .. ليدخل من خلاله إلي عالم يثير الخيال .. عالم يرهبه الكثيرون لمجرد ذكره.. فالبرزخ كما يرد في تعريفه اللغوي هو ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلي البعث.. وليست لغته البصرية وحدها هي التي تدعو للتأمل ولكن كذلك تلك اللغة المكتوبة يستخدمها في التعريف بما يقدم .. حيث كتب في تعريفه بالمعرض: عندما ينحصر اللاشئ بين الشيئين فيُكوّن عنصرا جديدا يجسد الروح دون مادة ملموسة، هو قدرُ من طاقه مجازية، افتراض ليس له لغة حقيقية تفسر معناه ، ولكنه قد يكون الحقيقة التي وراء الطبيعة والجسد وراء كل ما تصدقه حواس الإنسان. ويقول منيصير في تعريفه بالبرزخ: البرزخ .. لطالما استخدم لفظه في الميثولوجيا والأديان بما يفصل الحياة قبل البعث وبعد الموت وآخرين عن ذويهم علي أنه الْقَبْر.. وفي علم الجغرافيا ما يفصل عذب الأنهار عن ملح البحار دون أن يمتزج هذا علي ذاك .. وإذا تواصل الشيئان فلا يعد الفصل قطع بينهما.. وإنما هو شئ غير مادي يعد همزة الوصل بين الشيئين.. له قيمته الخاصة غير المدركة و يسمح لعبور القيمه بينهما كالمرآة بين الجسد والصورة .. وتبعا لتلك النظريه فكل شئ ذي قيمة مدركه يتبعه بُعد آخر معكوس، له قيمه اخري تعكس معني الشيئين عند الصفر الذي يفصل بينهم، أي عند البرزخ ، ليشمل معناه الحقيقي ؛ فالإيمان برزخ بين الخالق والمخلوق؛ بين الله والإنسان.. وإذا اعتبرنا أن الحلم ما يفصل النوم عن اليقظة فهو برزخ .. والروح تفصل الجسد عن العقل فهي برزخ .. وإذا كان الإنسان برزخا فقد يفصل بين الوجود والعدم .. وكأن البرزخ هو الحقيقة لإدراك واقعنا دون التلاعب فيه حيث إنه هو ما يفصل بين الاستيعاب والفهم.. إن ما يقدمه منيصير يقع في تلك المساحة البينية الفاصلة بين الشيء والشيء الآخر. بين الكتابة وروحها بين البوح والغموض ، فحين يبوح بلغته فهو يزيد الأمر غموضا .. هو ما قالت عنه الناقدة فاطمة علي في معرض سابق : بعض المساحات الضخمة استشعرت الزمن معلقا بلا حراك تماما كالخطوط والقماش المرسوم عليها في حالة التوازن الثابت كأنها تقف علي مفترق طرق علي حد سواء لا هي مقروءة ولا غير مقروءة لا جامدة ولا لينة .. لاباردة ولا ساخنة .. فلوحاته تعاني دائما اثنين من الأشياء الخطيرة هما النظام والفوضي .. والحركية والسكونية.. والطاقة واللازمنية .. حتي تلك العبارات القليلة التي استخدمها في التعريف بالمعرض تحتاج لفك وتفسير .. كل لوحة من لوحاته تبدو في مجملها مختلفة عن التفاصيل .. فكل تفصيلة تصلح لوحة بذاتها وعبر طبقات مسارات كثيرة من الخط الذي ينتظم في دوائر أو مربعات ، تصل في كثير من الأحيان إلي الجوهر .. حيث قلب الدائرة وهناك يتجلي الشكل .. ليكون أحيانا هو قلب الإنسان النابض وأحيانا هي فراشة أو تلك العين التي تبصر وتري فالجزء كل والكل جزء والبصيرة تختلف عن البصر.. ربما أصبحت هذه هي اللغة التي يوظفها للتعبير عن مكنون ذاته .. هذا ما ذكره الفنان أشرف رضا في تعليقه علي المعرض قائلا : إنه يتمتع بعبقرية فنية فريدة ... يرسم مفرداته الخاصة جداً ، وبلغته الخاصة جداً، لا يفسرها سواه ... بألوانه وخاماته المنفردة ... وعالمه الرمزي الخاص به، فيحلق بأفكاره ولوحاته بعيداً عن الجميع بمنتهي الإبداع. ويعتمد منيصير في لوحاته علي المزج بين الرسوم التصويرية والكتابات النصية.. ويقول عنها : لوحاتي معظمها مبني علي تجارب وأبحاث خاصة بالباراسيكولوجي مقسمة لمواضيع مختلفة ومنها طبعا الميتافيزيقا .. هنا تصبح الرموز تطبيقا لنظريات بعد التفكير والبناء فيها .. وتشمل الطلاسم إعادة التفكير في اللغة .. وهل هي كافية لتمثيل الغاية منها .. وهل اللغة حقيقة في الأصل؟؟ .. فاللغة هي وسيلة مجازية للتعبير عن الواقع لكنها ليست واقعا بذاتها .. ولذا خرجت الكتابة مطموسة . وتأتي تجربة "برزخ " كثالث التجارب الفردية للفنان حيث سبقها قبل ذلك معرضا "استصمات" و "الحاجز الذهني المفاهيمي للمعتقد".. والتي سار فيها منيصير علي نفس الدرب .. حيث تظهر تلك المساحة البينية التي يكتشفها من خلال أعماله في تعريفه بمعرض "استصمات" قائلا : بين صمت الإرادة وصمت الخضوع .. بين صمت الأصل والعادة .. كان المثير لسيكولوجية الفرد وأيديولوجية الجماعة .. وعنها كان التجريد هو المضمون. أما من خلال معرضه "الحاجز الذهني المفاهيمي للمعتقد" فيصف تلك المساحة النفسية التي يخرج منها فنه قائلا : أقبع بمساحات شاسعة من الوعي وعدمه محاورا فيها الهوة من الذات النفسيه البشرية ، ناقلا حاله من التوتر والغموض لدي المتلقي محاولا إضفاء مدي شعور المتناسي لطبيعة المعتقد والأصل.. والتمادي الفكري اللامنتهي والمتعارض أحيانا مع أصوليات العقائد القديمه وأثره علي التشويش العقلي والروحي للإنسان.. فكان من صنعي التفكيك في المحاور المهيئة لطبيعة العقل اللاواعي ، وحالات الإرباك الذهني لفلسفة التعددية والرمزية التي لا تتعدي المفهوم ولا تتراجع عن الإحساس كوسيط للإدراك العقلي ، انها الرمزيه المجهولة والأداء الزمني البعيد ومسايرتها لفلسفة الكتابة والمحو .