أمسك الرجل بالكرة بين يديه الهائلتين، بعد أن شُطّتها لأعلي، وأقسم ليمزقنها. دعكت عيني حتي احمرتا، ودفعت بأيدي أصدقائي الصغار للأمام. بصوت مرتعش، وأنا أطبطب براحة يدي علي صدري، وألوي رقبتي بنوع من الاستعطاف، قلت له: "والنبي يا عم هات الكوره.. آخر مرة". هي المرة الأولي التي أطيل النظر في شرفة الأستاذ "ناجي" بالدور الثاني. في سورها ثقب صغير كريه المنظر. تحيط به رتوش سوداء في جدر مرشوشة بطلاء أزرق خشن.مقسمة لدوائر، ومربعات كبيرة. باللونين: الأصفر، والأبيض. اتجه إلي الداخل، ثم أتي بسكين مقبضها أسود، ومعدنها الفضي طويل لامع. مررها ببطء فوق الكرة. شعرت بخدر يزحف فوق جسدي، وبرودة ثلجية بحلقي. عدت خطوات إلي الخلف. ثقيلة قدمي، ورأسي يدور. لم أجد جسد أحد من أصدقائي حائطًا هشًا أستند إليه. وبصورة غير متوقعة قذف الأستاذ "ناجي" بالكرة إليَّ وهو مكفهر الوجه. كان يلبس النظارة السوداء فلم أشاهد عينيه الغاضبتين. ظل باب شرفته مفتوحًا كعادته. تراجعت إلي الوراء ببطء. وجهي باتجاه الشرفة، لكنه منخفض قليلًا. حين وصلت أول الشارع الرئيسي بقدمين مرتجفتين نظرت يمينًا ويساراً. رأيتهم فوق مصطبة أحد البيوت بعيون صامتة تحدق فيَّ. جريت إليهم يسبقني صراخ الفرح والظفر، ثم قررنا القبول بإنهاء المباراة بالتعادل كما كانت لحظة التوقف. ربما تُمَزق الكرة بعد أن حضرت السكين التي هددنا بها من قبل. هم لم يصدقوا وجود ثقب بسور شرفة الأستاذ "ناجي" إلا حينما أمسكت برءوسهم واحداً فواحدا، ورأوا الثقب في الصباح التالي حين ذهب إلي عمله. من قبل كنا نحسب بيت الأستاذ "ناجي" المكون من طابقين جداراً صامدًا متفاوت البروز. لا أثر لخدش فيه. لم يكن باستطاعة أحدنا الإمساك بحجر جيري صغير؛ لنحت أسمائنا، وإشارات الحب الصغيرة، ورسم صور غير متناسقة في أي جزء بمنزله كما نفعل ببيوت قريتنا، وبسور السرايا القديم. باعتباره غريبًا عن قريتنا وجارا لنا فقد حاول أبي مرات أن يضمه إلي جلسة الرجال مساءً حول طاولة "الدومينو"، وأكواب الشاي، والحكايات. لبي الأستاذ "ناجي" دعوته ذات مرة. كان يضع أوراق اللعب المعدنية البيضاء بين يديه المطويتين، ثم لمح خلفه من يضع عينيه في أوراقه فقذفها في الهواء، وأمسك برقبة ذلك المتنصت. حاول أبي والرجال أن يفكوا قبضته عن رقبة الرجل الآخر، لكن الأستاذ "ناجي" صاح والدموع تطفر في عينيه ونبرة صوته: "محدش يستغلني". ضرب الرجال كفًا بكف، وقالوا: "دا لعب!". لم يكرر أبي دعوته فيما بعد. ورجال الحارة وصموه بالغريب المطرود من بلده. أمروا أبي حتي ألا يذكره أمامهم. سألتهما، أبي وأمي، ذات مرة عما يعرفانه عنه. أمي أشاحت بيديها قائلة: "بعيد عنكم". أما أبي فقد وأد باقي الأسئلة التي لم تولد بعد علي لساني. حين هممت بالخروج للعب حذرني قائلًا: "إوعه يشاور لك وتروح له!". أكدت لهما أنه لم يعد يلقي السلام علينا نحن الصغار كما كان يفعل، ولا يَرُدْ، أو ينظر لأحد منا، قالت أمي وهي تضحك: "انتم كمان بتراقبوه!". في الليل أسمع صوت مزاليج أبوابه وهو يقفلها بحدة. لعله يخيف العفاريت التي تجري في الشارع، وتنام علي المياه المرشوشة، ويتكئ بعضها علي جدران البيوت. أسمع مواء قطط قادما من قاع بيته، ثم طرقات، وخطوًا متسرعًا، وزئيرًا محتجًا. هل يربي وحوشًا في بيته؟! سألت نفسي كثيرًا، ولم أجرؤ أن أوجه السؤال لأي من إخوتي خوفًا من أن تكون الإجابة: "نعم". فيما بعد أقنعت نفسي أن ما أسمعه هو أول أمواج الحلم التي تشدني من بين إخوتي، وتقذفني وحيدًا في الجزر المهجورة. انتابتني الحيرة حين نظرت إلي الأستاذ "ناجي" وهو يعبر الشارع مرات. رأيت جلد وجهه مرتخيا كجلد كرة ممزق. فمه ليس قانيًا من رشف كوب دماء كل صباح، بل أزرق قاتم من تدافع سجائر إثر بعضها إلي فم اسودت أسنانه. جسده ليس مليئًا بأشواك وخنافس، بل بشعرات كثيفة تبرز في رأسه وذقنه الصغير المدبب. عيناه رأيتهما حين كانتا بلا نظارة سوداء. شعرت ببريق الماء فوق سطحيهما. لعله التفت إلينا، لكنه مضي مسرعًا إلي موقف السيارات؛ ليستقل سيارة من القرية إلي محل عمله في مشرحة المستشفي الكبير في المدينة. كنا نسمع كلمة المشرحة كأنما نسمع عن قتيل في القرية. ننسج الحكايات عن الأستاذ "ناجي". كثيرون، لا شك، يعملون بالمشرحة. فلماذا يوصم الأستاذ "ناجي" بالإجرام دومًا؟ هل له حكايات في عمله؟ نحن الصغار ترتجف أوصالنا لمجرد رؤيته؛ فلا نملك وسيلة دفاعية إذا استفرد بأحدنا. وكأنما ثقب شرفته نقطة ضعفه. سنعرفه من خلاله، وسنستخدمه ضده إذا ما فكر أن يؤذي أحدنا. اتفقنا أن آخذ أحدهم؛ لنرقبه من أعلي مكان في بيتنا الذي يلاصقه، ونعرف كيف يخرج فجأة من عدم ممسكًا بالكرة بين يديه.. ولأن الرعب من الجرائم الخفية التي يلصقونها به باستمرار لتنقله قسرًا من محافظة لأخري، كما يقال، يطاردنا فقد تحصنا بقطع كبيرة من الأحجار. بدءوا في اللعب. وأنا صعدت علي طرف شجاعتي يرافقني أحدهم، ويناولني الأحجار؛ حتي أرصها جنبي أعلي مساحة معروشة بالغاب والقش في سطح منزلنا. تمددنا كثعبانين حذرين، وبرز رأسي. فرشت عيني في شرفته التي ينفتح بابها فور أن يصل. بادلني صديقي نظرة متصلبة. لم نقدر علي تبادل كلمة واحدة. متربعًا كان الأستاذ "ناجي" يجلس فوق حصيرة قديمة. لا تمتد عيناه إلي الجريدة المفرودة في يديه بقدر ما تمتد تلك العينان من الثقب؛ لتراقب أرض الشارع الضيق، والمارة، والرءوس، والأقدام التي تتبادل الكرة، ومع صمتنا التام اقتحمنا صوت بكائه العالي.