في روايتك "ممر الصفصاف" قدمت مستويات مختلفة في السرد وقدمت صورة صادقة عن مجتمع عربي منفصم، حدثني عن المستويات السردية في الرواية، وما هي الصورة التي رسمتها عن فصام المجتمعات العربية؟ - أجل تنتظم في روايتي (ممر الصفصاف) أبنية سردية مختلفة، وهذا ليس رغبة في تنويع مفتعل، ولا لتعدد شبكة السرد لصنع كثافة برانية نظير روايات تجازف في شكلانية لا يبررها لا الموضوع ولا العالم المرصود. ان تعدد الأبنية السردية رهن بوجود شخصيات ذات مسارات مختلفة وتندرج حيواتها كل في مصير، لتلتقي أو تعود تفترق في ذروة تشابك الحبكة الروائية والتركيب المحبوك، في "ممر الصفصاف" مجمع حكايات وهويات، تارة تحكي منفردة، وتارة أخري في علاقة مع غيرها، وطورا تتحول إلي بؤرة ينطلق منها الحكي وإليها يعود. من الواضح أننا هنا لسنا في اطار كتابة روائية كلاسيكية، وان لم نتخلص - وهذا عمدا - من بنائها العام، عامدين إلي تجريب خطابات سردية مستجدة تلائم تيمة العمل وأزمات أبطاله، كل هذا دون أي اغراق في تجريبية تحول الرواية إلي مسالك مغلقة ومرويات مبهمة، لقد اعتبرت في جميع أعمالي السردية، والتي تعود نشأتها الجدية إلي مطلع سبعينيات القرن الماضي، بأن التجريب الفني أداة لا غاية، وطريقة لمنح الكتابة غني في التشخيص والتمثيل والتصوير والاستبطان، واستغوار الفردي ضمن المجتمعي، وهذا من ذلك. ليس حذلقة أو ادعاء مهارة فاقعة مثل أي طلاء زائف وسريع الزوال. ثمة اجتهادات فردية تصنع هوية للجنس الروائي.. حدثني عن الملامح التشكيلية والفنية للرواية العربية الآن من وجهة نظرك. - كانت الرواية وستبقي هي وسائر الفنون الإبداعية، ثمرة الموهبة الفردية، وعطاء الإنسان في لحظة انفصاله عن العالم وتعبيرها عن عدم توافقه مع ما هو عام واتفاقي وسائد. جاءت الرواية، التي هي جنس أدبي غربي خالص - أي أننا نحن العرب تعلمناه وأخذناه كله عن الغرب، رغم كل المزاعم عما لدينا من تراث حكائي وخبري ومثله، شأن سائر الشعوب - لتعبر عن تحول حاسم في البنيات والعلاقات الاجتماعية بتزامن مع تحولات اقتصادية نجمت عنها أوضاع فردية وأزمات انسانية تولي السرد التخييلي بلغة النثر، وبالرؤية الواقعية التي عرفت تبدلات شتي في منطقها وكسوتها. وطيلة أزمنة نشأتها وتبلورها كانت الرواية تتطور من منظور الموهبة الفردية، التي ليست نظرة فردانية، ولا أحادية، بقدر ما هي رؤية مركبة، ذات أبعاد، تحتوي المجتمع وتسنكنه أعمق ما فيه وتقدمه في قالب حكائي بمواصفات درامية ونقدية ودائما من مقترب الذات، الذات العميقة، المتجذرة في شعورها وفي نسج النسيج الاجتماعي. حتي إن الرواية الواقعية أو البورجوازية، كما تسمت، كانت مرآة التحولات الاجتماعية والمصائر الفردية بتقابل وتزامن وتداخل، لا عجب أن سميت روايات بلزاك بالكوميديا الإنسانية. لا تختلف الرواية العربية عن هذا البناء والتوجه والتصور، مع فروق وتفاوتات نسبية وطبيعية. هذا، من غير أن تكون الرواية العربية استنساخا حرفيا للنموذج الغربي. أظن أن الرواية العربية شبت اليوم عن الطوق، واضحت موجودة في نصوص كتابها الأساس والراسخين، لا العابرين والهواة - هؤلاء يملئون الدنيا أحيانا زعيقا بلا طايل - تعددت فيها التيارات واغتنت بتنوع المقاربات، والأساليب والطرائق الفنية، وخصوصا بظهورها كجنس أدبي ضروري لأوضاعنا الاجتماعية ومصائرنا الفردية، من نواح عدة. أحيانا تجد رواية واحدة تصهر تقنيات وأساليب وعدئل مقدرات ومستويات سردية، راسخة في كلاسيكيتها، وجريئة في تجديدها، في مسارين متوازيين ومتقابلين، واحد فرداني، وجداني بإشباع، وثان هو المناخ والشأن الاجتماعي والتاريخي وهو في صيرورة حيوية، وبانفتاح علي أسئلة الغد. لن أذهب بعيدا لتقديم مثال حي عن هذا التوصيف، فإنه قريب منا جدا، أي من البيئة الأدبية المصرية التي هي حقا منشأ الرواية العربية، وجزء من مجتبي تطورها، أنها رواية " أن تحبك جيهان" للروائي مكاوي سعيد، التي أري فيها نموذجا متقدما وشفافا ومعبرا عن هذه السمات، وتبرز خصائصها بكثافة وإشراق ومهارة الروائي الكلاسيكي، أي المعلم . في أحد حواراتك أشرت إلي أن هناك جوائز تكبر بالأعمال الأدبية، وهناك أعمال أدبية تكبر بالجوائز، ولكن لا يضيفون شيئا للأدب كيف يمكن أن يتحقق هذا علي أرض الواقع؟ رأيي، أنه ينبغي أن نتوقف عن اثارة هذه الأسئلة، وهذا السؤال بالذات. نطرح موضوع الجائزة، وكأنه عيب أو إثم يتوجب عدم اقترافه، فيما الإنسان، والكاتب، الفنان، المفكر، يحتاج دائماً إلي اعتراف المحيط الذي يعيش فيه، وهو اعتراف معنوي بالدرجة الأولي، لأن هذا النوع من الكائنات يعمل في مجال الانتاج الرمزي، كيفما كان الجزاء المادي الذي يتلقاه أحيانا لقاء تفوقه في نطاق ابداعه أو اختصاصه. جميع البيئات العلمية والإبداعية في العالم تنظر إلي الجائزة ومكافأة النابغين نظرة تقدير وتكريم، وهذا يرجع بالطبع إلي التقدير الذي توليه للمعرفة والإبداع، وحيث المبدعون والمفكرون هم اعلامها ورموزها، فيما نحن نثير الريبة وننشر أجواء الحسد والبغضاء حول الفائزين، كيفما كان استحقاقهم. أقول هذا وأجدد رأيي في أن أي جائزة لا تصنع مبدعا ولا مفكرا - لو ذهبت إليه خطا أو بترتيب ما، كما يحدث في أمور أخري في الحياة، إما العبد لله، وقد فزت في مناسبات لم أسع إليها، وكذلك لم يحالفني الحظ، في أخري، ولكني أواصل وسأفعل أكثر، بالجائزة وبدونها، ولا أكابر بتاتا إذ أقول إن طموحي لا تستوعبه أي جائزة، هو بلا حدود وحياة واحدة لا تكفي له، طموح الكتابة أعني. الكتابة الإبداعية، هل هي عملية موهبة ومرجعية ثقافية، أم هي عملية نقدية، أم ماذا؟ - الجواب عن هذا السؤال هو من جنس السؤال نفسه. نعم، في ابداعات الأمم كلها هناك حديث عن الموهبة، أي عن قدرة منفردة، مستقلة وخصوصية لدي أفراد بعينهم، لا عند الخلق أجمعين، شيء مثل الملكة كما عرفها وعينها ابن خلدون بالتعريف في "المقدمة".. لا مجال هنا لتفصيل القول في معني ومصادر هذه الهبة الموهبة. لنقل إنها الفطرة في حالة تركيز وحساسية مفرطة تجد عند الإنسان مسربا مواتيا حسب أنواع التعبير في محيط بعينه، كالملحمة عند اليونان، والشعر في الجزيرة العربية التي قدمت لنا آيات شعرها، أعني المعلقات، ثم ما تبع هذا من نصوص عظيمة لدي العرب (المتنبي وأبونواس وأبوتمام)... والإنسانية جمعاء. رأيي أن الموهبة وحدها لا ولم تكف أبدا، فالثقافة ملازمة لها، وكل من هزلت ثقافته ضعفت موهبته، كل المبدعين الكبار والذين أثروا وقدموا الانجازات الأمهات في ابداع البشرية استندوا إلي معرفة وافية ومجربة للحياة والكتاب والأعماق أنفسهم قبل كل شيء. أن المبدع هو أول ناقد لعمله حين يسعي لتجنب أخطائه ويوفر لنصه ما أمكن من خصائص الكمال، والإعجاز، والتفوق التي تفرد له مكانته بين أقرانه ولدي متلقيه، العامة والخاصة.. وأبعد.