تعرفت عليه منذ أكثر من 23 عاماً في مؤتمرات الثقافة الجماهيرية، هو دائماً صاحب رأي قوي، يعبر عما يراه صحيحاً، لا يخاف من مسئول ولا يداهن أحداً.. كان وسيظل الصوت القوي المعبر عن الضمير الثقافي والكاشف بمهارة عما يعاني منه الأدباء خارج القاهرة من تهميش لدورهم، إلا أن الشاعر درويش الأسيوطي استطاع وهو في محافظته أسيوط أن يجعل من اسمه واحداً من الشعراء المتميزين، كما تمكن بإحساس وطني وإنساني أن يقوم بالتأريخ لمظاهر وعادات وتقاليد ما أطلق عليه "صعيد مصر الأوسط". درويش الأسيوطي استطاع بموهبته وإدراكه العميق أن الثقافة رسالة.. فقام بما عجزت عن القيام به مؤسسات عريقة.. فمنذ أكثر من ربع قرن وهو يقوم بالتأريخ والكتابة وحفظ التراث الشفهي لهذا الجزء الثري من الوطن، والمليء بالكنوز والحكايات وتراث الأجداد وقصص البنائين العظام الذين رووا بعرقهم ودمائهم الأرض، واختلطت حياتهم بشكل أساسي بالغناء الذي عرف الطريق إلي تسجيل أفراحهم وأحزانهم وتدليلهم لأطفالهم في المهد، وتحفيز الكبار علي العمل.. الغناء لم يكن بالنسبة لهم ترفاً، بل هو الحياة ذاتها.. فبالغناء تواصلت الأجيال.. فالجد يغني والحفيد يسمع والأب يحفظ، لأنه يعرف أن دوراً سيأتي عليه يقوم بدور الجد.. وهناك في صعيدنا لا يمكن لأحد أن ينسي أو يتغافل عن دوره. "صاحب غناء الفلاحين" واحد ممن تفتخر بهم الثقافتان المصرية والعربية، فقد تمكن بدأب وحرفية عالية أن يحفظ لنا ويسجل في كتب الأغنيات والطقوس المرتبطة بها، فقد قدم خلال السنوات العشر الماضية مجموعة من الكتب نشر بعضها ولايزال البعض الآخر تحت الطبع، كلها تؤرخ لمظاهر الحياة في الصعيد، مما نُشر كتبه: "لعب العيال"، "أشكال الوريد"، "أفراح الصعيد الشعبية" (جزءين)، والكتاب الذي جعلني أتحدث عن درويش الأسيوطي والصادر حديثاً عن هيئة قصور الثقافة في سلسلة الدراسات الشعبية، اسمه "غناء الفلاحين في صعيد مصر" الذي قدمه د. سميح شعلان رئيس تحرير السلسلة بكلمات ينبض منها الإحساس بقيمة المجهود الذي بذله درويش الأسيوطي، فمما جاء في هذا التقديم: "هذا الكتاب استنهاض الهمة، واستحضار الطاقة والعافية، لصد هيمنة الملل علي رتابة الفعل المتكرر، ودرء خطورة الكلل وتراخي الأداء، إنه الغناء الذي يضفي علي الحياة بهجة وتحلو معه مرارة الأيام، إنه غناء الانشغال بالأحوال، الذي يعزف علي أوتار الموال لحن الرحلة الطويلة عبر الأيام الصعبة والليل الذي يمتلئ بالأحلام.. هنا غناء الفلاحين في صعيد المحروسة، موال الليل الطويل الذي امتطي ظهر الدهر البطيء، لعله يتحرك نحو حلو الأيام، إنه موال الألم والأمل، حكاية الأتراح والأفراح، شكوي الزمن للزمن، لعله يلتفت ويسمع الكلام" حتي لو الزمن لم يسمع الكلام.. فيكفيه أن سمعنا أشعار درويش الأسيوطي، وجعلنا- أيضاً- نقترب من عالم الصعيد بلقطات وتحليل عميق من قبل هذا الشاعر الكبير، الذي يقدم في كتابه ليس فقط الأغنيات المرتبطة بحرفة الزراعة، بل نجده يستعرض تاريخ هذه الحرفة وما ارتبط بها من ممارسات، مثل نظام المقايضة وأدوات الزراعة. يتوقف صاحب الكتاب في تحليله عند الأسباب النفسية الدافعة لغناء الفلاح: عادة ما يصاحب معظم الأعمال التي يقوم بها المصري رجلاً كان أو امرأة جهد عضلي شاق، يتطلب حركة رتيبة منظمة، وخروجاً من إطار الرتابة، وتغلباً علي قسوة العمل المرهق يغني الفلاح المصري ما وجد إلي الغناء سبيلاً، لقد بدأت أغنيات الحرف اليدوية في شكل أصوات تصاحب أداء العملية، سرعان ما انتظمت تلك الأصوات لتتواكب مع إيقاع العملية الحركي، ثم ما لبث أن تطورت تلك الأصوات إلي كلمات وأغنيات تعبر عن مشاعر العامل، وترشد المشاركين له في العمل وتوجههم إلي ما ينبغي أن ينتبهوا إليه من خبرات. أخيراً لابد من شكر درويش الأسيوطي علي هذا الجهد المستنير المنحاز لتراب هذا الوطن.