ستة شهور مرت علي افتتاح شارع المعز. تألق الشارع التاريخي بما يضمه من شواهد أثرية فريدة، وكان مشروع التطوير قد ارتكز من البداية علي فكرة أساسية تقوم علي إنقاذ آثار الشارع ثم تحويله إلي مسار سياحي ومتحف مفتوح. المشروع نجح إلي حد كبير في شقه الأول وتم إنقاذ مجموعة كبيرة من آثار المعز التي تصل إلي ما يقرب من 33 أثرا، لكن لا تزال هناك بعض الملاحظات التي رصدناها في زيارتنا للشارع والتي ربما تقف في طريق نجاح الشق الثاني..المتحف المفتوح. أولي هذه الملاحظات هي غياب المعلومات في الأماكن الأثرية المفتوحة، فالشارع التاريخي يضم ما يقرب من 33 أثرا كثير منها مفتوح للزيارة، لكن لا توجد أي معلومات مكتوبة، أو دليل يرشد الزائرين، اللذين يلجئون غالبا للاستماع إلي بعضهم، وكثير من المعلومات التي يتداولونها خاطئة. وحتي تكتمل فكرة المتحف المفتوح، كان يجب أن تكون هناك كتب مطبوعة داخل كل أثر، أو دليل يرشد الناس ويحكي لهم قصة الأثر، والفترة التي بني فيها، يشرح كيف بني، ومن الفنان الذي أبدع هذه التحف الخالدة، من خطط وفكر ونفذ، وكل هؤلاء يستحقون أن تخلد أسماؤهم. الغريب أن يكون هناك حراس وعمال نظافة ولا يكون هناك مرشد سياحي واحد يشرح للناس بدلا من التخبط داخل جدران الأماكن الأثرية وتداول معلومات لا أساس لها من الصحة، ويكفي ما سمعته بنفسي داخل مجموعة قلاوون، حيث أصر أحد الأشخاص وهو يشرح لابنه داخل الضريح أن هذا الضريح هو ضريح الحسين!! الملاحظة الأخطر أن آثار المياه الجوفية بدأت تظهر بقوة علي مجموعة من آثار الشارع، خاصة مجموعة قلاوون التي شوهت المياه الجوفية حوائطها الخارجية تماما، رغم أن واحدة من أهم مراحل التطوير كانت معالجة المياه الجوفية، وهو ما يعلق عليه د.عبد الفتاح البنا أستاذ الترميم : أخطر ما حدث في هذا المشروع، استخدام مادة البنتونيت أو"الطفلة المطحونة" في حقن الحوائط وتثبيت الإضافات وهذه المادة هي السبب في معظم مشاكل الآثار في مصر في الأقصر وسقارة وغيرها، ومن ضمن خصائص هذه المادة أنها يمكن أن تتضاعف 1500٪ حسب كمية المياه التي تتعرض لها، "وتخيل ما يمكن أن يحدث مع وجود المياه الجوفية في المنطقة، أبسط ما يمكن أن يحدث أن تنتفخ الحوائط وتسقط واجهاتها ويمكن أن تسقط بالكامل وهو ما حدث في الكنيسة المعلقة".
من أبرز الملاحظات أيضا أن البوابات الاليكترونية سواء عند الأبواب أو داخل الشارع لا تعمل، بما يعني استمرار الأزمة المرورية في المنطقة وأيضا استمرار استخدام السور التاريخي ك"جراج"، فتخصيص شارع المعز للمشاة فقط كان يتطلب إنشاء أكثر من مكان لانتظار السيارات_ -وهو ما لم يحدث- فتعرض المكان لأزمة مرورية طاحنة لعدم توافر البدائل المناسبة، أصحاب المحال التجارية وسكان الشارع قالوا إنهم أبدوا تخوفهم مع بداية مشروع التطوير من صعوبة دخول سيارات الإسعاف والمطافئ في حالات الطوارئ_، وأيضا عدم قدرتهم علي نقل البضاعة إلي محلاتهم،_ وكان الرد وقتها أن حالات الطوارئ لها أولوياتها، أما المحال فيمكنها استقبال سيارات النقل الصغيرة من منتصف الليل وحتي السادسة صباحا. الآن وبعد افتتاح الشارع رسميا لا تزال هناك صدامات يومية مع العاملين وسكان الشارع التاريخي الذين يصرون علي دخول الشارع بعرباتهم لعدم وجود أماكن انتظار، أما أصحاب المحال التجارية فيلجؤن إلي طرق بديلة للتحايل علي هذا القرار، فيستخدمون الشوارع الجانبية، وأحيانا يدخلون بالاتفاق مع حراس البوابات ورصدنا بالفعل مجموعة من هذه المحاولات! وكان يجب أن يدرج السور ضمن مشروع التطوير من البداية، كان يجب أن يقام "جراج" يستوعب الإقبال الكبير علي الشارع ويخدم السكان وأصحاب المحال التجارية، ويحافظ علي السور التاريخي، فهذا السور لم يكن فقط للمنع والحماية، ففي عصر المقريزي كان تجار الخضر متمركزين قرب باب الفتوح، وأيضا تجار الزيتون والليمون، في حين كان تجار الماشية والقرط "البرسيم" قرب باب المحروق (باب القرط) أما أسواق الغنم والخيول والجمال فقد كانت قرب باب زويلة، وكان من الطبيعي أن يجاور هذه الأسواق مسالخ الحيوانات والمدابغ، ونتج عن انتشار أنشطة ذات خواص متنوعة علي أبواب القاهرة أن تكونت مراكز اقتصادية ثانوية مماثلة للمراكز الاقتصادية الرئيسية، وكان نتيجة ذلك خلق طوائف جديدة حول أسوار القاهرة. ثم أصبحت الأسوار معقلاً لكثير من التحركات السياسية الشعبية وضحت بشكل خاص في فترة الاحتلال الفرنسي وفي الصراع علي السلطة قبل تولي محمد علي. بعض الحرف والأسواق نجا علي مر العصور السابقة، واستمر إلي وقت قريب حتي بدأ مشروع التطوير، فأنهي علي ما تبقي منها، وبدلا من استغلال تاريخ السور تحول إلي جراج كبير!
الغريب أنه ومن واقع خطة المشروع التي قدمتها وزارة الثقافة واعتمدتها وزارة الإسكان اكتشفنا أنها _الخطة- ركزت علي تفاصيل من نوعية الوضع الراهن والألوان والمقاعد والأشجار، ورغم ذكر مشكلة السيارات ضمن أهم مشاكل المسار، لم يفكر أحد في إنشاء جراج أو مكان للانتظار لحماية المنطقة من السيارات، رغم أن الخطة اقترحت إقامة فنادق لخدمة المنطقة السياحية! جاء بالخطة: "اتفقت جميع الدراسات المعنية بإحياء و تنمية منطقة القاهرة الفاطمية بضرورة تحويل شارع المعز إلي مسار مشاه، نظرا لقيمته و طبيعته. و بناء علي ذلك فقد تحددت الأهداف ومنهجية العمل، بحيث تهدف هذه الدراسة إلي اقتراح واستراتيجية وبرنامج عمل لإحياء شارع المعز ثقافياً وسياحياً ودراسة إمكانية تحويل المسار من الحركة الآلية إلي مسار مشاة مع ضرورة إيجاد أسس التحكم في العمران القائم في ضوء الخصائص والمحددات والإمكانات الخاصة بالمنطقة المحيطة ويتم ذلك من خلال وضع حلول تصميميه للمشاكل المختلفة وصياغة أسلوب الحفاظ علي كل ما هو ذو قيمة". تعرضت الخطة لمشكلة المرور باعتبارها من أهم المشاكل التي _ربما- تواجه عمليه التطوير، ولفتت إلي أن تكدس السيارات لنقل البضائع أو الأفراد سيتسبب في ضرر كبير للمنطقة و"يضعف من قدرة تركيز الزائر علي التمتع بالمباني الأثرية وتحويل اهتمامه لتفادي السيارات، كما يؤثر سلباً علي النواحي البيئية، مما قد يؤثر أيضاً علي الحالة الإنشائية للمباني الأثرية"!. كما أشارت أيضا إلي عدم تواجد مناطق لانتظار السيارات، وعدم تواجد نقاط إنزال وتحميل "استخدام هذا المسار في تحميل وإنزال البضائع وانتظار سيارات النقل والعربات التي تجرها الحيوانات يؤثر سلباً علي الصورة البصرية والنواحي البيئية للمنطقة، و ما يتسبب عن ذلك من إشغال للطريق. هذا مع ملاحظة تدني حالة الحارات والأزقة المتفرعة من شارع المعز بيئياً وعمرانياً وضيقها الشديد، مما يقلل البدائل في الحل لاستخدامها كمسارات تساعد علي السيولة المرورية كما أن هناك بعض المسارات الضيقة التي قد لا تستوعب سيارات الإسعاف أو المطافئ في حالة حدوث أي طوارئ تستدعي تواجد هذه السيارات. ونستخلص من ذلك أن الخطة اكتفت بالنواحي النظرية والشكلية فقط دون أن يكلف أحد نفسه باقتراحات بديلة تعالج ما قد ينتج عن تكدس السيارات علي حدود المنطقة التاريخية، وحول السور الخارجي الذي لا يقل أهمية عن مباني شارع المعز نفسه. من أهم الملاحظات أيضا أن مسار المتحف المفتوح تجاهل أماكن تاريخية كان يجب الإشارة إليها حتي ولو لم تعد موجودة-هذا علاوة علي ما تجاهله المشروع من البداية- يوجزها د.محمد حسام إسماعيل أستاذ الآثار الإسلامية في الآتي: "تربيعه جاني بك" بجوار مدرسة السلطان برسباي وبنيت في عصره، وهي نموذج نادر لما يسمي بمبني "التربيعه"- وهي منشأة تجارية لها شكل مربع، علي واجهتها حوانيت ولها باب رئيسي وفوق المبني يوجد ربع سكني يضم وحدات سكنية متعددة- احترقت هذه الوكالة، وبقيت منها أطلال، ثم أهملت حتي اختفت تماما. وفي منطقة "الصناديقية" رُممت وكالتا "الجلابة" و"السلطان إينال" فقط، وأهمل الباقي رغم أن "زقاق المدق" موجود في هذه المنطقة ومن المفترض أنه يحظي ببعض الاهتمام، وبامتداد شارع الأزهر تُركت الوكالات للناس لتجددها بمعرفتها ومعظمها وكالات من العصر المملوكي والعثماني، ومنها وكالة "الأشرفية" وهي وكالة وفندق من عصر السلطان برسباي، و من شارع الصناديقية وحتي السكة الجديدة مجموعة كبيرة من المباني الأثرية المهملة ولا توجد لوحة واحدة توضح أنها وكالات أثرية أو تعطي أي معلومة عنها. يضيف إسماعيل: ينضم أيضا لقائمة الآثار المهملة جامع "الشيخ مطهر"، وكان في الأصل المدرسة السيوفية للناصر صلاح الدين الأيوبي، و"خان مسرور" من العصر الأيوبي، ووكالة "بدوية بيت شاهين" بخان الخليلي التي لم يتبق منها سوي الواجهة فقط. حارة "الخُرنفش" تنضم أيضا للقائمة، لأنه لم يرمم فيها إلا المطل علي شارع المعز فقط، وبالرغم من تحذيرات "أخبار الأدب" فقد اكتمل المبني الموجود علي مدخل الحارة بجوار جامع الأقمر، وبني علي أنقاض وكالة أثرية هُدم ما تبقي منها وخرج مبني لا علاقة له بالمنطقة الأثرية.