المتحدة    "الكهرباء" تعلن مواعيد تخفيف الأحمال خلال امتحانات الثانوية العامة    الداء والدواء    شكري يستعرض مع نظيره الإيراني الجهود المبذولة لوقف الحرب على غزة    السفاح يكسب الوقت !    أستاذ قانون دولي ل«الحياة اليوم»: أمريكا تتوحش في معاملة الجنائية الدولية وترهب القضاة    رئيس الجمعية الوطنية بكوت ديفوار يستقبل وفد برلماني مصري برئاسة شريف الجبلي    حسام حسن: سعيد بتواجد صلاح ولدي ثقة في جميع اللاعبين    مصدر أمني: العثور على جثة السعودي المتغيب ولا شبهة جنائية حول الواقعة    وزير الطاقة ونائب أمير مكة يتفقدان استعدادات موسم حج 1445    فيديو.. محمد شاهين يطرح أغنية "ملعونة المشاعر"    إيرادات "تاني تاني" تتخطى 15 مليون جنيه بالسعودية خلال 6 أيام    نور تحكي تجربتها في «السفيرة عزيزة» الملهمة من مريضة إلى رائدة لدعم المصابين بالسرطان    أمين فتوى بقناة الناس: الدعاء مستجاب فى هذا المكان    هل يجوز ادخار الأضحية دون إعطاء الفقراء شيئًا منها؟ الإفتاء ترد    إنقاذ حياة كهربائي ابتلع مسمار واستقر بالقصبة الهوائية ببنها الجامعي    وزير الصحة يبحث مع نظيرته الأوغندية سبل التعاون في القطاع الصحي    «التخطيط»: 150 مليار جنيه لتنفيذ المرحلة الثانية من مشروع «حياة كريمة»    الخارجية الروسية: العقوبات الغربية لم تتمكن من كسر روسيا وفنزويلا    بيلينجهام مهدد بالغياب عن ريال مدريد في بداية الموسم الجديد    أميرة بهى الدين تستضيف أكرم القصاص فى "افتح باب قلبك" الليلة    فوز الدكتورة هبة علي بجائزة الدولة التشجيعية 2024 عن بحث حول علوم الإدارة    تعليق جديد من مي عز الدين بشأن أزمة والدتها الصحية    أمين الفتوى بقناة الناس: الدعاء مستجاب فى هذا المكان    الداخلية: إبعاد سوريي الجنسية خارج البلاد لخطورتهما على الأمن العام    هانز فليك يحدد موقفه من استمرار فيكتور روكي مع برشلونة    متى تبدأ الليالي العشر من ذي الحجة؟ «الإفتاء» تجيب    خالد الجندي: الفتوى تتغير باختلاف الزمان.. يجب الأخذ بما ينفعنا وترك ما لا يصلح لنا    جامعة المنصورة تتقدم 250 مركزًا في تصنيف QS البريطاني    «الصحة العالمية»: القاهرة تنفذ أكبر برامج الفحص والعلاج ل «الكبدى الوبائى»    «الأطباء» تعلن موعد القرعة العلنية ل«قرض الطبيب» (الشروط والتفاصيل)    بفرمان كولر.. الأهلي يستقر على ضم 3 لاعبين في الصيف الجاري    السبت أم الأحد؟.. موعد الوقفة وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    تعليق مثير من مدرب إشبيلية بشأن ضم أنسو فاتي    رحلة البحث عن الوقت المناسب: استعدادات وتوقعات لموعد عيد الأضحى 2024 في العراق    القومي لحقوق الإنسان والأعلى للثقافة يناقشان تعزيز قيم المواطنة    آخرهم أحمد جمال.. نجوم الفن في قفص الاتهام    "معلومات الوزراء": التقارير المزيفة تنتشر بسرعة 10 مرات عن الحقيقية بمواقع التواصل الاجتماعي    الجريدة الرسمية تنشر قرار محافظ الجيزة باعتماد المخطط التفصيلى لقرية القصر    الامارات تلاقي نيبال في تصفيات آسيا المشتركة    تجديد تكليف سامية عبدالحميد أمينا عاما لجامعة بنها الأهلية    وزير الري يبحث مشروعات التعاون مع جنوب السودان    «القومية للأنفاق» تعلن تركيب بوابات زجاجية على أرصفة مترو الخط الرابع    حزمة أرقام قياسية تنتظر رونالدو في اليورو    تكريم الطلاب الفائزين فى مسابقتى"التصوير والتصميم الفنى والأشغال الفنية"    يتناول نضال الشعب الفلسطيني .. عرض «علاء الدين وملك» يستقبل جمهوره بالإسماعيلية    النشرة المرورية.. خريطة الكثافات والطرق البديلة في القاهرة والجيزة    برلماني: توجيهات الرئيس بشأن الحكومة الجديدة رسالة طمأنة للمواطن    محافظ القليوبية: تطوير ورفع كفاءة 15 مجزرًا ونقطة ذبيح    وزارة العمل تعلن بدء اختبارات الشباب المتقدمين لفرص العمل بالإمارات    مركز الأزهر العالمي للفتوى يوضح الأحكام المتعلقة بحج المرأة (التفاصيل)    مندوب فلسطين الدائم ب«الأمم المتحدة» ل«اليوم السابع»: أخشى نكبة ثانية.. ومصر معنا وموقفها قوى وشجاع.. رياض منصور: اقتربنا من العضوية الكاملة بمجلس الأمن وواشنطن ستنصاع لنا.. وعزلة إسرائيل تزداد شيئا فشيئا    لإحياء ذكرى عمليات الإنزال في نورماندي.. الرئيس الأمريكي يصل فرنسا    محافظ كفر الشيخ يتفقد موقع إنشاء مستشفى مطوبس المركزي    في 9 محافظات.. وزير الصحة يطلق المرحلة الثانية لمبادرة الكشف عن الأورام السرطانية    بتقرير الصحة العالمية.. 5 عناصر أنجحت تجربة مصر للقضاء على فيروس سي    رئيس إنبي: اتحاد الكرة حول كرة القدم إلى أزمة نزاعات    «الأهلي» يرد على عبدالله السعيد: لم نحزن على رحيلك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع الغيطاني في عيد الميلاد بنيوجرسي:
تجليات العبقرية المصرية في صاحب التجليات
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 01 - 2016

فجأة طارت قدما جمال الغيطاني في الهواء وهوي علي ظهره فوق الجليد في لمح البصر، فشددت ذراعي حوله محاولا منعه من السقوط فيما أطلقت صرخة صامتة أطلب فيها في هلع من الله ألا يصيبه بمكروه وهو الذي قد طلب مني أن يصلي معي قداس عيد الميلاد بالكنيسة القبطية الأم بنيوجرسي فكيف يكون هذا جزاءه؟
كنا نتساند ونحن نخطو خطوات حذرة علي الطريق المغطي بالجليد الصاعد إلي الكنيسة المضيئة في الأعالي، في ليلة عيد الميلاد الشرقي عام 2009، تحت سماء نيوجيرسي المكفهرة. وكنت قد تأبطت ذراعه خوفا عليه أن تنزلق قدمه، ويبدو أن دعائي غير المعلن قد استجيب، فقد قام الغيطاني وهو يطمئنني أن الأمر بسيط، وواصلنا الطريق حتي دخلنا الكنيسة وجلسنا في الصف المخصص للضيوف من اعضاء القنصلية المصرية وكبار الزوار، وكان ضميري يؤنبني طيلة الوقت كيف لم أصر علي أن أوصل ضيفي بسلام إلي باب الكنيسة ثم أعود بالسيارة لأتركها في موقف السيارات البعيد، لكنه رفض ذلك وأصر علي أن نمشي معا طول الوقت، وهذا الأدب الجم والذوق المصري الريفي الحميم كان إحدي خصاله الجميلة البارزة.
وها أنذا أتذكر الحادث وأنا أكتب عن الروائي المصري الكبير في أول عيد ميلاد يمر بعد رحيله، وقد سبقت وأعقبت تلك الليلة لقاءات عديدة لنا علي مدي السنوات الماضية في القاهرة حين أزورها وهنا في نيويورك حين يزورها هو، وأصبح من عادتنا أن نلتقي إما في جلسات حميمة مع أصدقاء في بيتي، أو في جولات أصطحبه فيها إلي أماكن يريدها أو أقترحها، وبذلك كان من حظي أن أتعرف علي جمال الغيطاني ليس فقط المبدع المتفرد الذي طالما بهرتني رؤاه الإبداعية وكتاباته الاستثنائية ولكن أيضا الإنسان المثير للدهشة بخصاله ودفئه وحكاياته ولمساته الإنسانية، وهو من هؤلاء القلائل من المبدعين كبار الموهبة الذين تتعرف عليهم شخصيا فيزداد حبك وتقديرك لهم، بينما حدث لي العكس مع بعض الآخرين، وكانت بداية علاقتي به حين كتبت له بدون سابق معرفة خطابا من نيويورك عام 1997 ومعه "باقة قصائد للوطن" أصف له كيف أعادتني قراءة أحد أعداد أخبار الأدب إلي أحضان لغتي الأم بعد انقطاع لما يقرب من عشرين عاماً، فرد بخطاب دافيء قائلاً "أعجبت بشعرك ودفعت به للنشر متخطياً قوائم الانتظار".
انتعاش الغيطاني وهو يستمع إلي الالحان والتراتيل القبطية في الكنيسة ليلة الميلاد هو بعض من اهتمامه ومعرفته الواسعة بالتراث المسيحي القبطي في مصر، ومعرفته بهذا التراث تدهشني شخصيا أنا القبطي ابن رجل الدين المسيحي الذي تكتظ مكتبته بأشكال وألوان من هذا التراث في صوره المكتوبة والمسموعة والمرئية. وانتعاش الغيطاني بهذا التراث هو انتعاش المتذوق المحب المقدر وليس مجرد موقف مثقف مصري يشعر أن من واجبه معرفة شئ عن ثقافة شركاء الوطن- ومكتبته مليئة بالقديم والجديد عن الأقباط وتاريخهم وكنيستهم وفنونهم.
كما أن اهتمام الغيطاني بالوجه القبطي لمصر ليس كاهتمام المثقف المسلم الليبرالي الذي يهتم بالأقلية المسيحية كنوع من تأكيده لموقفه العلماني وترحيبه بالتعددية الدينية والثقافية، فكثيرا ما تجد مثل هذا الليبرالي المسلم مبتعدا عن تراثه الاسلامي منجذبا للتراث الغربي انجذابا كثيرا ما يصل إلي حد الخلل والسقوط في عبودية الآخر، وهو تطرف مخل تماما كالذي يسقط في كراهية الآخر. أما الغيطاني فاهتمامه وهيامه بالتراث الإسلامي - وخاصة الصوفي منه - هو اهتمام هائل وشامل وعميق ودقيق وكتاباته تكاد أن تكون كلها إمتدادات مثيرة لما في التصوف الإسلامي من صفاء وجزالة لغوية وروحية معا، وتكاد أن تكون أسئلته كلها هي أسئلة التصوف الكبري الغائرة فيما وراء المحسوسات محاولة كشف المستور وسبر غور الملموسات، ويقول رفيق دربه الروائي يوسف القعيد- ان الغيطاني في كل أعماله له سؤال واحد: أين ذهب الأمس؟
والواقع أن كلمة "روائي" قد لا تكون الأكثر انطباقا علي جمال الغيطاني، خاصة في أعماله المتأخرة، وفي اعتقادي أن الغيطاني يقع في مساحة خاصة بين الفيلسوف والشاعر، فكلماته شعرية ورؤاه فلسفية، وبينما ينشغل الروائيون عادة بالشخصيات والأحداث، محللين أعماق النفس الإنسانية في تشابكها المأساوي مع الآخرين في حلقات متداخلة من الصراعات والضربات والتحولات، ينشغل الغيطاني بما وراء هذا كله من خيوط كونية خفية وأسئلة وجودية أساسية وكبري. ورغم أنه يمكن القول إن كل روائي عظيم لابد أن تكون أيضا من اهتماماته هذه الأسئلة الوجودية الكبري من خلال صراعات ومصائر شخصياته الروائية، فاننا نجد أن الغيطاني يميل في ازدياد إلي تناول هذه الأسئلة من خلال اللغة والكلمة، فهو ينتقي الكلمة ويزوجها لكلمة أخري ويحل بروحه الابداعية في وسط هذا التزاوج لكي يدفع بالكلمتين إلي توليد مولود جديد مدهش مندهش صارخ بالوجع وبجزوة الحياة، مضيفا إلي المعني وإلي اللغة في آن واحد. فاللغة هي نسيج الغيطاني الأساسي وطينته الطبيعية التي يظل يشكلها ويطوعها لكي يخلق بها ومنها عالمه البديل عوضاً عن عالم لا يعثر فيه علي الأمس، ولا يدوم فيه مكان ولا إنسان.
حين نجد الغيطاني مهموما بسؤال: أين ذهب الأمس؟ نجد ذلك مشابها لما يشغل بال العالم المصري الأمريكي أحمد زويل الذي قال في مقابلة مع مني الشاذلي ومحمود سعد: إن ما يشغلني الآن هو السؤال: ما هو الزمن؟ وهكذا نجد أن الأديب المصري والعالم المصري يشغلهما سؤال وجودي كوني واحد- يحاول كل منهما - بطريقته - البحث عن إجابة له - هل صدفة أم يكون الاثنان مصريين؟ ليست صدفة لأن مصر هي فجر الإنسانية وطفلة الزمان الأولي وهي مبتكرة الأبدية في بحثها منذ القدم عن نقطة نهاية الزمن الكوني ورفضها للنهايات وتكريسها للروح والخلود، فالسؤال عن الزمن هو سؤال مصري صميم.
الارتباط العميق بين الغيطاني وتراثه الاسلامي نراه مجسدا في برنامجه "قاهرة نجيب محفوظ" الذي يتجول فيه شارحا أماكن روايات وشخصيات محفوظ في أحياء مصر العتيقة، ونري فيها كيف يحنو علي الآثار المصرية من جوامع وزوايا وتكايا وأضرحة وقباب ومآذن وأروقة، وكيف يربت علي ظهر كل حائط ويحتفي بكل حجر بشكل لا يقدر أن يفعله شخص آخر - وهذا أيضا تعبير عن ارتباط الغيطاني العميق بالمكان- ليكمل بهذا ارتباطه العميق بالزمان. ونراه يحاول الدفاع عن المكان وحمايته والحدب عليه، وتساعده علي هذا قدرة فذة علي الملاحظة والتحديق والغوص فيما وراء السطح، ولهذا لاحظت أن الغيطاني يسير دائما علي مهل. ويتحدث علي مهل- ولا أذكر أنني شاهدته يسير علي عجل أو يتكلم علي عجل إطلاقا، لأن السرعة تقتل التأمل، وهو يعيش يومه متأملا، وكأنه - في خوفه الوجودي الدائم من الزمن وآثاره المدمرة - يريد أن يغترف الأماكن والأحداث بداخله ليبقيها في الحفظ والصون لتخلد، ولا شك أن القدرة علي الرؤية الثاقبة ضرورية للكاتب، فلابد للروائي أن يري ليروي.
الاهتمام الشديد بالإسلاميات نراه لدي الغيطاني مصحوبا برفض شديد للتطرف الاسلامي والغلو في التدين والارهاب- ولا شك أن هذا الرفض قد ازداد حدة لديه بعد محاولة اغتيال نجيب محفوظ الذي كفره بعض الاسلاميين بسبب روايته "أولاد حارتنا"، ويعترض الغيطاني بشدة علي تحويل القضية الفلسطينية إلي قضية دينية علي يد حماس. وبهذا يمثل الغيطاني تيار الثقافة الإسلامية الوسطية المستنيرة المنفتحة وهو تيار قد تراجع
كثيرا في معظم المجتمعات العربية في ثلث القرن الأخير بسبب المد الإخواني الذي استشري في المجتمع المصري ثم المجتمعات في البلاد العربية وأوربا، وكان الغيطاني مصيباً في هلعه من انتشار هذا التيار المضاد للحضارات وقد كرس جريدة أخبار الأدب التي أطلقها عام 1993 ورأس تحريرها حتي تقاعده لمحاربة فكر البدائية التكفيرية في العالم العربي الذي شوه صورة الإسلام الوسطي التي عرفها وعشقها الغيطاني.
بجانب المعايشة الوجدانية للإسلام في عمقه الصوفي والمحبة الحقيقية للتراث القبطي يكتمل المثلث لدي الغيطاني بمعايشته الفسيحة للحضارة المصرية القديمة. وهو يتحدث عن مصر الفرعونية حديث الباحث المتعمق والعاشق المتيم معا، ويتنقل بسهولة ونشوة من المعتقدات الروحية إلي نظام الدولة إلي نظام الري والزراعة إلي عمارة المعابد إلي أسرار كتاب الموتي أو الخروج إلي النهار فيتحدث لساعات متصلة دون كلل منه أو ملل من مستمعيه، رابطا الغابر بالحاضر مفسرا ومفكرا. فهو حكاء من الطراز الأول يحكي لك في يسر وطلاوة وبابتسامة هي أقرب إلي ابتسامة الطفل الماكر الذي استطاع أن يحل لغزا استعصي علي الكبار من حوله، ومعرفته بالحضارة المصرية القديمة عريضة وعميقة، وقد أمضيت معه ساعات طويلة في الجناح المصري بمتحف المتروبوليتان بنيويورك، وهو جناح هائل الحجم بالغ الجمال، ومن اللافت أنه خصص أحد أعداد جريدة أخبار الأدب للهرم الأكبر، وذهب مع بعض محرري الجريدة في زيارة داخل الهرم وأمضي الليل راقدا في تابوت بحجرة الملك خوفو القابعة في نهاية نفق ضيق طويل يغوص صاعداً إلي بطن الهرم، فلديه دائما تلك النزعة للحلول في الآخرين- جسدا وروحا، مكانا وزمانا، لاختبار حياتهم وتمثل مشاعرهم وتذوق زمانهم، وهاجسه الأساسي هو إخفاقه في أن يكون هو الآخر، أن يتوحد معه، أن يعايشه ويعيشه، ولذلك تتعمق غربته وتمتد رغبته في التواصل عبر الكتابة، لعلها تمنح بعض الحلم وبعض الحلول وبعض الخلود.
جمال الغيطاني كاتب وإنسان متفرد بكل معني الكلمة، فلا أعرف كاتبا مصريا أو غير مصري آخر يملك تلك القدرة والرغبة واللذة في معايشة التراث الفرعوني والقبطي والإسلامي معا، والحلول في كل منها حلولا كاملا، ولهذا فالغيطاني مبدع فريد وظاهرة مدهشة في تاريخ الثقافة المصرية علي طولها.
وعادة ما نجد المثقف المتوغل كثيراً في تراثه الوطني الثقافي المحلي رافضاً أو معاديا للتراث الغربي، ولكن المدهش في الغيطاني أن اهتمامه بالثقافة الغربية كبير وعريض، وليس فقط في الأدب ولكن أيضاً في فنون الرسم والعمارة والمسرح وغيرها. وقد أصيب بجزع حقيقي عند سقوط البرجين في نيو يورك إذ خشي أن يؤدي هذا إلي هوة بين الشرق والغرب وتوقع الأضرار الكبيرة التي ستنجم عنه وهذا ما حدث فعلاً. ولكن إنفتاح الغيطاني علي الثقافة العالمية بشغف وحب هو في اتساق تام مع الشخصية المصرية التي كانت دائماً منفتحة علي الآخر كريمة محبة له مرحبة به في أرضها قبل تلوثها بالتيارات المنغلقة الوافدة عليها من بلاد ليس لها تاريخ طويل في التعامل مع الأخر المختلف ثقافياً وعرقياً ودينياً.
وربما لهذا أجد جمال الغيطاني أقرب من عرفت من المبدعين المصريين لكونه التجسيد الأكمل للشخصية المصرية الصميمة الحميمة في نموذجها الأجمل، أي في نموذجها المعبر عن المصري في عصور الازدهار الحضاري والابداع الإنساني، وليس في عصور الانحطاط والانحدار الذي عاشته مصر في فترات طويلة من تاريخها وماتزال، ولهذا جاء الغيطاني من صعيد مصر، الذي جاء منه الملك مينا موحد القطرين، الصعيد الذي شهد صرح الحضارة المصرية الشاهق وآثاره الخالدة في معابده وأهراماته وتماثيله ومسلاته ومقابره المترامية علي ضفتي النيل من طيبة إلي ممفيس، وهناك صورة طريفة لوجه الغيطاني بجوار وجه تمثال فرعوني لا تستطيع أن تفرق بين ملامح الاثنين، فهذا الشبل من ذاك الاسد، ففي الغيطاني، الذي له كتاب شاهق هو "التجليات" تتجلي الروح المصرية المتجددة الدائمة الحلول في خير أبنائها علي امتداد الزمان، ففيه عذوبة المصري ودفء تواصله ومحبته للآخرين وحبه للدعابة والضحك والمرح، مع حبه الجارف للحياة، فرغم نزعته للصوفية فكرا ولغة ووجدانا، فالغيطاني ليس زاهدا في الحياة وإنما هو محب عاشق لها، متذوق مرهف لما تمنحه من متع وأفراح وملذات ومكابدات جسدية وروحية تنعش الأمال وتجدد الأحلام.
في العام التالي 2010 لم يحضر الغيطاني عيد الميلاد بالكنيسة ولا حضرته أنا، فقد كان كلانا مهموما بخطر يهدد كيان الانسان ووجوده، وعندما حضر إلي نيويورك هاتفني قائلا إنه في هذه المرة يحضر مع زوجته لعلاج من مرض خطير أصيبت به ويتطلب فترة طويلة من العلاج مع جراحة بين ذلك، واستمعت إليه في انزعاج وألم فقد كنا قد سعدنا، زوجتي وأنا، بالتعرف علي السيدة زوجته الكاتبة المميزة ماجدة الجندي في القاهرة عندما دعينا للعشاء في مسكنهما الجميل بالمعادي قبل سنوات قليلة، وبعد أن استمعت لهذا الخبر الصادم قلت أنني أيضا أمر بتجربة مماثلة، فتساءل الغيطاني في نبرة مستغربة: كيف ذلك؟ فقلت له إن طبيبي أخبرني منذ أيام فقط أنني مصاب بورم في البروستاتا ولابد من إجراء جراحة فورا. فصمت قليلا ثم تساءل: وهل هو ورم عادي؟ فقلت لا، هو ورم خبيث! فصمتنا قليلا ثم قال لمؤازرتي: " ان عملية استئصال البروستاتا لم تعد خطرة كما كانت قبل سنوات لقد أجريتها أنا أيضا، وكنت قد أصبت وأنا في رحلة في أوروبا فجأة بألم هائل مصاحب باحتباس للبول، وعندما رجعت لمصر أجري لي طبيب مصري الجراحة، لتضخم البروستاتا، وكان تضخما طبيعيا بدون أورام. وقد كتبت تجربتي كاملة في كتاب"، فتساءل في بعض الإستغراب: وماذا أسميته؟ فقال "يوميات الحصر" فلم أتمالك سوي أن أضحك بصوت عال وشاركني ضحكي. وهكذا نلوذ بالضحك في مواجهة أخطار التهلكة العظمي!
وأجريت جراحتي بعد ذلك بأيام قليلة- وبعدها بحوالي شهرين أجرت زوجته الأستاذة ماجدة جراحتها، وكنا نتهاتف قبل الجراحتين وبعدهما للاطمئنان، وما كنت لأكتب عن هذا الشأن الخاص لأسرة الغيطاني لولا أنه قد كتب عنه بالتفصيل في يوميات الأخبار حيث وصف مشهد دخول رفيقة حياته لغرفة العمليات قائلاً : "ماجدة خلعت خاتم زواجنا، ارتديته في نفس الأصبع الذي يستقر فيه الخاتم الذي يحمل اسمها، انزلق بسلاسة لعلها المرة الأولي التي يفارق اصبعها منذ خمسة وثلاثين عاما.. كان الباب الكبير ذو المصراعين مفتوحا وماجدة بين ممرضتين تتقدم بخطي ثابتة إلي الداخل، إلي الجراحة، يبدو أنها شعرت بوجودي التفتت باسمة، ابتسمت فرفعت يدي ملوحا ومشجعا، واجهتني ملتفتة إلي الخلف.، يتألق جمالها في لحظة نادرة، لم يسبق لي أن رأيتها في هذا الألق، ذلك الصفاء".
جمال الغيطاني حالة فريدة بين المبدعين المصريين وتجسيد نادر للعبقرية المصرية حين تتجلي في شخصية محددة في المكان والزمان، فتمنحك فرصة أن تتعرف من خلالها علي حزمة الخصائص المصرية الإنسانية الصميمة من دفء التواصل وكرم الروح إلي مرح النفس وفرح الحياة، وتبقي لنا أعماله الإبداعية الكبيرة تمنحنا والأجيال القادمة متعة المعرفة ونشوة الإبداع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.