روايتي الأولي، صارت مُؤخرًا كتابًا سمعيّا، والذي .. لن أستمِع إليه. شخصيّاتي؛ تمّ اختيارُ أصواتٍ لها، لكنات، ودرجاتٍ صوتية، لن أسمعها أبدًا. هذه ليست شِكايةً تمامًا، أن تكونَ قد ألّفتَ كتابًا، وأحدهم، يريدُ أن ينشره في كل أشكاله لهُو حُلمٌ بالنسبة للكاتب. لكن، أن أُمسكَ بأحد الأقراص الرقمية التي تحوي شيئًا أنا صنعتُه؛ وقد تحوَّلَ إلي: شيءٍ جديد لم يعد باستطاعتي أن أفهمَه، لهي ورطةٌ، قليلٌ مِن الكُتّاب وجدوا أنفسهم فيها. تلكَ القطيعةُ ستتجلّي بتكرارٍ مُتزايد حين أُباشرُ عملي في سلسلة المناسبات الأدبية التي تأتي بعد إطلاقِ روايتي. باعتباري فردًا من الجمهور، فأنا قد ذهبتُ لمشاركةِ قراءتها في نيويورك. أنا أذهبُ إلي هناك لأنّي واقعةٌ في غرام الكُتب؛ لذا أذهب لأكونَ بصحبة أصدقائي. لكن، حتي باعتباري مُتفرِّجًا، يقتضي منّي هذا الكثير من التركيز، وأحيانًا، حين أكون قد أقحمتُ نفسي في صُداعٍ يصيبُ المرء بالحَوَل؛ أُغلق سمّاعات الأُذن (سماعات خاصة بالصُّمّ وضعاف السمع) وأغوصُ إلي ما تحتَ غطاءِ الأصوات، وأترُكُ نفسي لأنجرَف نحو السكون. في المناسبات الخاصة بي، لن يكون لديّ الخيارُ بأن أُقرّرَ ألّا أُشارك. قمتُ بالقراءة وسط جمهورٍ ثلاث مرّاتٍ تقريبًا، كلٌ مِنها يُصيبُ بالأسي بالطُّرق المعتادة ((ماذا! جمهور!)) يترافقُ هذا مع الرُّعب الإضافيّ جرّاءَ عرْضِ جُزءٍ منّي، جزءٍ مجهولٍ علي نحوٍ آخذٍ في الازدياد، وهو: صوتي. باستطاعتي أن أُشعرَ بكلماتي في صدري وفي فمي، لكن، لستُ علي يقينٍ كيف ستبدو حينَ تخرجَ إلي العالم. بقدر ما أنا قلِقةٌ أنّ صوتي ليس لديه صدي؛ فهو لا يلتصِقُ في شريطِ التسجيل. ما معني أن تتحدَّثَ إلي جمهورٍ بتلكَ السيطرةِ المحدودةِ علي آلياتِ مُخرَجاتِك؟ دائمًا ما أمدّتني الكتبُ بإحساسٍ من العزاء والصُّحبة، حينما يكونُ العالمُ السّمعيُّ في حالةٍ مِن الاستغراق. وبينما أنا أكبر، كنتُ أملأ الدفاترَ بالأشياءِ التي .. كنتُ أخشي أن أنطِقها جَهرًا. المكتباتُ أيضًا. كان يبدو أنها قد صُمِّمتْ لأجلي، حيث هي مكانٌ ليس مُفترضًا للمرء أن يتحدَّث وهو فيه، الأمرُ علي قدم المساواة مع أن يكون المرء واقعًا تحت قانون الصّمت. مُذ أصبحَ فقدي للسمع آخذٌ في الازدياد، كان يتمُّ تعليمي بالإنجليزيّةِ المنطوقة، جنبًا إلي جنبٍ مع نظيرتها المسموعة، ولاحقًا، حين أصبح ذلك شاقًّا للغاية، تعلمتُ لغةَ الإشارة، وكنتُ أستعينُ بمُترجمين فوريّين في الفصل. حينما خُيِّرتُ ما بين الأمرين، أولويّتي كانت للغةِ الإشارة إلي حدٍّ بعيد؛ ففيها لن أشعرَ بالوعي الذّاتيّ. لكن، لكوني قد جيءِ بي إلي العالم السمعيّ بتعليمٍ بالإنجليزيّة، وِمن ثمَّ الآن للكتابة والتعليمِ بها؛ فأنا أقضي وقتًا كثيرًا تمامًا وأنا غائصةٌ في الإنجليزيّة أكثرَ مما أفعلُ في لغة الإشارة. أنا أتحدّثُ بلغة الإشارة بطَلاقة، وأستطيع أن أحلمَ وأُفكِّرَ بالإشارة، لكنّها ليست لغةَ التفكير الأولي بالنسبة لي. في الواقع، اللغة- أو النّمط اللغويّ- الذي أتحدثُ به بطلاقةٍ هو الإنجليزيّةُ المكتوبة. حين أكونُ أكتب، فإنّ عقلي وجسدي ليسا في حاجةٍ لأن يُترجَما لجمهورٍ سمعيّ. لا أقلقُ لكوني غيرَ واضحةٍ في حديثي، ولا لأنّ شِفاهي ولساني سترتدّان إلي هيئتهما غير المُدرّبة تحت الضغط، ولا لأني أتحدّثُ بمستوي صوتيٍّ غير مناسبٍ بالنسبة للضجّة في خلفية الصوت، والتي ليس باستطاعتي أن أقيسها. حين أكونُ اقرأُ كتابًا، فأنا لستُ في اضطرارٍ لأنْ أُخمِّنَ الكلمات بالطريقة التي أفعلها في القراءة الشفهيّة، فالورقةُ لن تُغطّي أبدًا فمها أو تُديرُ رأسها أبدًا. وحتّي الآن، ثمَّة ورطةٌ تُصيبُ المرء بالإرباك؛ ما بين الحديث، والتمرُّن ككاتبة. أُطالِعُ بشكلٍ متكرر نصائحَ كُتّابٍ مشهورين- ستيفن كينج واحدٌ مِن بينهم- أنّكَ حتمًا، يجب أن تقرأ نصَّكَ الخاصّ بصوتٍ عالٍ كي تقومَ بتحريره بشكلٍ صحيح. دون استماعكَ لكلماتكَ بصوتكَ ذاته، فلن يكون باستطاعتكَ أن تفهمَ ما قد كتبتَهُ بشكلٍ كامل، ولا أن تُصغي كيف ستقومَ بتصحيحه. في أفضل الأحوال، ذلك النوع من النصائح يتركني وأنا أشعرُ بعضَ الشيء أنّه .. قد انتهي أمري، لكن، في أسوأ الأحوال أنا أتساءل: هل أرتكبُ أخطاءً لن يرتكبها كاتبٌ سمعيّ؟ جانبٌ آخر من الكتابة، يبدو .. أن لا سبيلَ للفرار من سماعه، وهو: الحوار. أحدهم مِمَّن يكتبُ الحوار بشكلٍ جيّد، لأجل هذا يُقالُ إنّه: " لديه أُذنٌ جيّدة ". لا أظنُّ أنّي أكتبُ الحوارَ بشكلٍ جيّد. سواءً أكانَ هذا هو متوسّطُ مستوي جنونُ العظمةِ بالنسبةِ إليكَ ككاتب، أو إنّه يعودُ إلي سيكولوجيّة فُقدان السّمع، فأنا لا أستطيعُ أن أفوه به. العلاقة هنا هي وجودُ انشقاقٍ ثقافيّ، ما بين الأصمّ، والعوالم السّمعية فيما يتعلَّقُ بالصّراحة. طبقًا لطبيعةِ نمطِها المرئيّ؛ لغةُ الإشارة مُباشِرةٌ بشكلٍ أكثرَ مِن اللغة المنطوقة، فلا وجودَ للتعبيراتِ المُلطَّفةِ في لغة الإشارة. لذا، سقفُ ما هو ((غير مهذّب)) وما هو ((غير مناسب)) أعلي كثيرًا في العالم الأصمّ. إنطلاقًا ربما من .. أيام ما قبل الرسائل القصيرة والبريد الإلكتروني، حينما كان من الأصعب أن نُراقب وسائل الرفاهية بالنسبة لشخصٍ أصمّ، فلا عيبَ من مناقشة المرء مشاعره، خُططه، ووظائفه الجسديّة بشكلٍ فظّ مع الأصدقاء، أو حتّي مع المعارف. في العالم الكِتابيّ، أيُّ آثارٍ من تلك المُباشَرةِ يتمّ ترجمتها علي أنها ((حديثُ معيب)). ((الناس لا يتحدّثون بهذه الأسلوب)) أصدقائي في ورشة العمل كانوا يقولون هذا. وبالطّبع، هم علي صواب. في الإنجليزيّة، صياغة الصمت والصّمم بشكلٍ غامرٍ تدلّ علي شيءٍ سلبيّ. أن تسمع، هو مُرادفٌ لأنْ تفهم- القد سمعتُ عن هذا»، أو اأنا أسمعك»، تفترضُ معرفةً من جانب المتحدِّث، قدرتَه علي الفهم، أو طاقته من أجل إظهارِ تعاطف حيال موضوعٍ ما، حيث إنّه؛ من خلال عناوين المقالات، النّداءات المُطالِبة بالسّلام أو العدالة، غالبًا الا تلقي آذانًا صاغيةب. لذا؛ مادام الصَّمَمُ مُرادفًا للغباء أو للجهل العنيد، فإنَّ الصُّمَّ والأشخاص الذين يستخدمون الإشارة سيظلّون أشخاصًا اآخرينب من طبقةٍ أدني. حقيقةُ كلِّ ما سبق من هذا، أنه لربما ليس مما يدعو للدهشة أنَّ الأعمالَ الأدبية المكتوبة بالإنجليزية بواسطة كُتّابٍ صُمّ، بالإمكان أن تُحصي علي يدٍ واحدة. من المهم أن تُلاحظَ أنَّ لغة الإشارة ترعي تُراثًا غنيًّا من الحكي ومن الشعر الصاخب، لكن، الكتبُ التي تمّ تأليفها بالإنجليزيّة- والتي هي اللغة الثانية للعديدِ من الصُّمّ- هي كتبٌ قليلة. علي الجانب الآخر، هذا يعني أنّ خبرات الشخصيات الصمّاء، تُظهِر مخابيء من المادة الخام الغنيّة التي بالإمكان الإشتغالُ عليها، والتي نسبيًّا لم يتمّ الكشفُ عنها. بجانب، كوني كاتبةً صمّاء، يعني أنّني أستطيعُ الكتابة في أيِّ مكان دون أن يتمّ التشويشُ عليّ- كتبت أغلبَ كتابي الأوّل في ترانزيت نيو جيرسي علي خط قطار نورثست كوريدور. وبينما أنا أكتبُ بواسطةِ لغةٍ تعملُ ضِدّي، يمكن أن تبدو هذه مُهمةً أقلّ مثاليّة: ما هي وظيفةُ الكاتب إن لم تكن تلفيقٌ للغة، أو علي الأقلّ، أن يبتكرَ الفضاء والأدوات لما يتمّ إسكاتُه؟ يمرُّ بخاطري ما يقتبسه تشينو أتشيبي من جيمس بولدوين، والذي يُعبِّرُ عن الإحباطِ إزاءَ محدوديّة اللغة: اخِصامي مع اللغة الإنجليزيّة كان بسببِ أنّ اللغة لا تعكِسُ أيًّا من تجربتي. لكنّي الآن بدأتُ أري الأمر بشكلٍ آخر تمامًا .. ربما اللغة لم تُخلق لي، لأنني لم أُحاول أبدًا أن أستخدمها، قد تعلّمتُ أن أُحاكيها فحسْبب. يواصل أتشيبي ويقول: أنا أُدركُ بالطّبع أنّ مشكلة بولدوين ليست هي أنا تمامًا، لكن، أنا أشعرُ أنّ اللغة الإنجليزيّة سيكون في قدرتها أن تحملَ ثِقلَ تجربتي الإفريقيّة. لكنها ستكون في اضطرارٍ لأنْ تكونَ إنجليزيّةً جديدة. وحيث إنَّ مشكلات بولدوين وأتشيبي لهِيَ أكبرُ كثيرًا من مشكلتي، بإمكاني أن أنظرَ إلي نجاحاتِ عمالقةِ الأدب هؤلاء، وأستنقذَ أملًا، أنّ الإنجليزيةَ، بقليلٍ من العمل، باستطاعتها أن تحمل أيضًا صوتَ الأصم. سارة نوفيتش كاتبة أمريكية من أصل كرواتي، صدرت روايتها الأولي "فتاة في حرب" مطلع 2015 عن دار راندوم هاوس ولفتت الأنظار إلي كاتبتها. الرواية تدور حول الطفلة الجندية آنا وتروي وقائع الحرب الأهلية في البلقان بلسانها، ثم تتابع الأحداث حياة آنا في مهجرها الأمريكي حيث تتبناها أسرة أمريكية لتلحق هناك بأختها الصغري التي تري نفسها كمواطنة أمريكية بالكامل، في حين تظل آنا مسكونة بأسئلة عن الهوية والذاكرة وذكريات الحرب. المصدر: الجارديان