انطلاق فعاليات ندوة "طالب جامعي – ذو قوام مثالي" بجامعة طنطا    وزير المالية: بدأنا مرحلة تصحيحية لمسار الاقتصاد المصري لتجاوز التحديات    ڤودافون مصر توقع اتفاقية تعاون مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لدعم الأمن السيبراني    بروتوكول تعاون بين جامعة الفيوم والاتحاد العربى لحماية الحياة البرية والبحرية    قاضٍ مصرِي يَكشف تواريخ وأسباب تحطم طائِرات رؤساء الدول منذ عام 1936    أخبار الأهلي: موديست يوجه رسالة هامة ل علي معلول    ضبط مكرونة وسجائر مجهولة المصدر في حملة تموينية بشرق الإسكندرية    تفاصيل عيد الأضحى 2024 ومناسك الحج: الموعد والإجازات    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    حجز استئناف أحمد عز على إلزامه بدفع 23 ألف جنيه إسترليني لتوأم زينة    تطورات حالة والد مصطفى قمر الصحية بعد إجرائه جراحة    بعد طائرة الرئيس الإيراني.. هل تحققت جميع تنبؤات العرافة اللبنانية ليلى عبد اللطيف؟‬    إيرادات "السرب" تتخطى 30 مليون جنيه في شباك التذاكر    6 نصائح لمواجهة الطقس الحار.. تعرف عليها    الوفد الروسي بجامعة أسيوط يزور معهد جنوب مصر للأورام لدعم أطفال السرطان    الليجا الإسبانية: مباريات الجولة الأخيرة لن تقام في توقيت واحد    استبدال إيدرسون في قائمة البرازيل لكوبا أمريكا 2024.. وإضافة 3 لاعبين    مدرب الزمالك يغادر إلى إنجلترا بعد التتويج بالكونفيدرالية    مصطفي محمد ينتظر عقوبة قوية من الاتحاد الفرنسي الفترة المقبلة| اعرف السبب    وزير الري: 1695 كارثة طبيعية بأفريقيا نتج عنها وفاة 732 ألف إنسان    البنك الأهلي المصري يتلقى 2.6 مليار دولار من مؤسسات دولية لتمويل الاستدامة    المؤشر الرئيسي للبورصة يتراجع مع نهاية تعاملات اليوم الاثنين    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأجيل محاكمة رجل أعمال لاتهامه بالشروع في قتل طليقته ونجله في التجمع الخامس    العثور على طفل حديث الولادة بالعاشر من رمضان    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    سوزوكي تسجل هذه القيمة.. أسعار السيارات الجديدة 2024 في مصر    العمل: ندوة للتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية ودور الوزارة فى مواجهتها بسوهاج    "النواب" يوافق على منحة لقومي حقوق الإنسان ب 1.2 مليون جنيه    الحياة على كوكب المريخ، ندوة علمية في مكتبة المستقبل غدا    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد    افتتاح دورة إعداد الدعاة والقيادات الدينية لتناول القضايا السكانية والصحية بمطروح    «صحة الشرقية» تناقش الإجراءات النهائية لاعتماد مستشفى الصدر ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    «السرب» الأول في قائمة إيرادات الأفلام.. حقق 622 ألف جنيه خلال 24 ساعة    مسرح التجوال يقدم عرض «السمسمية» في العريش والوادي الجديد    نائب جامعة أسيوط التكنولوجية يستعرض برامج الجامعة أمام تعليم النواب    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    في طلب إحاطة.. برلماني يحذر من تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    شكرى: الاحتياجات ‬الإنسانية ‬للأشقاء ‬الفلسطينيين ‬فى غزة ‬على رأس أولويات مصر    وزيرة الهجرة: نتابع تطورات أوضاع الطلاب المصريين فى قرغيزستان    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    باحثة سياسية: مصر تلعب دورا تاريخيا تجاه القضية الفلسطينية    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    ماذا يتناول مرضى ضغط الدم المرتفع من أطعمة خلال الموجة الحارة؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    إعلام إيراني: فرق الإنقاذ تقترب من الوصول إلى موقع تحطم طائرة الرئيس الإيراني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجغرافيا الكاذبة
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 12 - 2015

في أفلام الخيال العلمي تبدو فكرة العوالم الموازية جذابة ، حيث يكتشف البطل عادة أن له نظيرا يعيش في ظروف مشابهة نوعا ما ، لكن سياق الأحداث يكون مختلفا . بتصرف بسيط يمكن اقتباس فكرة العالم الموازي لتطبيقه علي مسارات نجيب محفوظ . فماالذي يمكن أن يحدث إذا فر ثلاثة من أبطاله من بين صفحات رواياته في محاولة للتواصل مع ما يظنون أنه واقعهم ؟! فرضية بنكهة الفانتازيا ، غير انها تفجر مفاجآت عديدة علي أرض الواقع.
طرق عديدة تؤدي إلي بين القصرين ، اختار منها ما كان يسلكه عند رجوعه من المدرسة الابتدائية ، سار خطوات بمحازاة مسجد الحسين ، في عالم تغيرت معالمه ، وأصبح البشر يتسمون بهيئات غريبة ، نظروا إليه علي أنه هو الغريب ، بدت في عيونهم علامات الاندهاش من ملبسه الآتي من زمن بعيد ، غير أن كمال عبد الجواد كان قد اعتاد علي معاملته كغريب حتي في زمنه ، لم يرهق نفسه بالتفكير في أسباب التغير الذي طرأ علي المنطقة ولا حتي بحث عن تبريرات لعودته المفاجئة بعد سنوات لا تحمل منها ذاكرته أية تفاصيل . انعطف يسارا إلي شارع خان جعفر . ربما يكون قد أمضي زمنا وهو يعاني من فقدان الذاكرة ، هكذا فكر للحظة قبل أن يطرد الأمر كله من تفكيره ، قرر التركيز علي هدفه : مشاهدة ما آل إليه حال منزل السيد أحمد عبد الجواد ، مضي مع الشارع في مسار إجباري إلي اليمين ثم انعطف إلي الشمال ليدلف من بوابة بيت القاضي . توقف لثوان وهو يفكر : هل يقطع المسافة الباقية في دقيقتين ليصل إلي مراده . نظر جهة اليسار وتملكه الحنين فقرر المضي في طريق طفولته : " بدلا من أن يمضي إلي البيت مخترقا النحاسين . عبر الميدان إلي درب قرمز علي وحشته وإثارته لمخاوفه ليتفادي من المرور بدكان أبيه . كان يرتعد فرقا من أبيه ولا يتصور أنه يخاف العفريت لو طلع له أكثر منه إذا زعق به غاضبا " . مضي كمال وفق السيناريو الذي رسمه له نجيب محفوظ عندما كتب أول أجزاء الثلاثية عام 1956 ، مر بالقبو الذي لا يزال يحافظ علي عتمته حتي في ساعات الظهيرة ، لم يعد يشعر بالخوف من عفريت مفترض لكن فزعه من أبيه لا يزال يسيطر عليه أحيانا بالرغم من رحيله . المسار الذي اختاره يجلب الكثير من أجواء الماضي رغم فقره مقارنة بشارع المعز المتخم بآثاره ، الأول يحمل تاريخه الشخصي بينما الثاني يحيل إلي تاريخ عام . الشخصي يكسب ، هكذا فكر وهو ينعطف يسارا ، تصاعدت أنفاسه ، فبعد ثوان سيصل إلي شرنقته الأولي . تسارعت خطواته حتي وصل إلي سبيل محمد علي الذي كان معروفا في الرواية بسبيل بين القصرين . لكن المفاجأة التي كانت تنتظره كادت تصرعه . لقد اختفي البيت !!
بين القصرين
من حق كمال عبد الجواد أن ينزعج ، فقد خرج من بين صفحات الرواية إلي عالم واقعي مواز . والمسار الذي اخترقه قبل قليل يجعل الخيال يطابق الواقع . إنها الجغرافيا التي قد يري البعض أن أي مؤلف لا يستطيع الفكاك من أسرها ، لكن هذه الرؤية التي تبدو شبه يقينية تفقد طابع المسلمات في عالم محفوظ . فقد رسم أماكن بين القصرين كما يحلو له وليس وفق ما يقتضيه الواقع ، في صدر الرواية يبدو الوصف حاسما : " كانت المشربية تقع أمام سبيل بين القصرين ، ويلتقي تحتها شارعا النحاسين الذي ينحدر إلي الجنوب ، وبين القصرين الذي يصعد إلي الشمال ، فبدا الطريق إلي يسارها ضيقا ملتويا متلفعا بظلمة تكثف في أعاليه حيث تطل نوافذ البيوت النائمة " . في صفحات أخري توجد إشارات عابرة تدعم الوصف نفسه ، لكن الغريب أن بيت سي السيد لا يمكن أن
يكون في المكان الذي حددته الرواية بأي حال من الأحوال . فأمام السبيل تتراص عدة مبان يبلغ عمرها قرونا منها قبة المنصور قلاوون ومجموعة الناصر قلاوون وجامع برقوق ! كان أول من لفت انتباهي للمفارقة هو الأديب الراحل جمال الغيطاني ، فرغم اهتمامي بخصوصية المكان أي مكان إلا أن ثقتي بنجيب محفوظ جعلتني أتعامل مع عالمه المكاني باعتباره توثيقا لأماكن حقيقية ، يغير فيها حسب خياله الإبداعي لكن دون أن يهدم أسسها ، قبل سنوات طويلة قرأت سطورا كتبها الغيطاني : " لقد حدد نجيب محفوظ مكان البيت الذي ستدور فيه معظم احداث الثلاثية, حدد مكانه في مواجهة سبيل بين القصرين, والسبيل موجود بالفعل لكن في مواجهته يقوم مسجد برقوق الضخم, أي أن المنزل في الرواية يحتل مكان المسجد, ويقوم في مكان لاتوجد به اي بيوت مسكونة, كما انه يصف مآذن برقوق وقلاوون من خلال عيني أمينة, وحتي يمكن لها أن تري المئذنتين فلابد أن يكون موقع البيت علي الناحية الأخري" . علي مدار سنوات لاحقة كنت أمر بالمكان نفسه بعد أن أعدت قراءة الرواية وفقا لرؤية الغيطاني التي جعلتني أفيق ، لم يكن محفوظ يوثق جغرافيا المكان بل إنه تلاعب به وبنا ، فالبيت مرة يمين شارع المعز يطيح بالمساجد المملوكية ، ومرة علي يساره يحتل موقع السبيل . كثيرون منا قرأوا الرواية واجتذبتهم الأحداث دون أن ينتبهوا للوصف ، وعديدون لا يزالون يعتقدون أن المكان في روايته كان راسخا ليكون محطة لإطلاق صاروخه الإبداعي ، ذلك الخيال الجامح الذي يعيد صياغة البشر والأحداث حسبما يحلو له . غير أن الواقع كان علي العكس من ذلك ، فالمبدع قام بتفكيك كل شيء حتي الثوابت المكانية وأعاد تركيبها كحكاء يخلق عالمه ، ويفرض خياله حتي علي ما هو ثابت . لقد أصابنا ذلك بدوار ونحن قريبون من الواقع والخيال ، فما الذي يمكن أن يحدث لشخصيات رواياته إذا تمكنت وفق إحدي حيل الخيال العلمي أن تفر من بين السطور لتنتقل إلي عالمنا الموازي ؟!
أمر واقع
حاليا لا يعرف كثيرون مكان بين القصرين ، ولو خطر لكمال عبد الجواد أن يستعين بأحدهم فستزيد حيرته ، فالمنطقة غابت بعد أن تراجع اسمها قبل أن يتواري نهائيا لصالح شارع المعز ، رغم علمي بالمكان قررت أن أخوض التجربة . سألت شابا يقف في أحد المحال الملاصقة للسبيل : أين بين القصرين ؟ رد بلا تردد متسلحا بعادة مصرية أصيلة : ليس هنا .. إنه في الخلف . امتداد ذراعه علي اتساعه ينم عن المسافة الشاسعة التي تفصلنا عن مكانه الوهمي ! أعلق بأنه يقصد قصر الشوق بينما ينصب سؤالي علي بين القصرين . فيجيب بثقة : لا . أنا أقصد بين القصرين ، أشكره وأتجه إلي قبة المنصور قلاوون ، أكرر سؤالي علي موظف الأمن الشاب التابع لوزارة الآثار فيفاجؤني بأنه يعرف الإجابة الصحيحة . ابتسم وأعود إلي عالم نجيب محفوظ .
ياسين .. العابث أبدا !
يترك ياسين عبد الجواد بين القصرين خلفه ويمضي.عايش قبل لحظات صدمة مشابهة إثر اكتشافه عدم وجود البيت الكبير . قد يجد في سكره المزمن ما يحميه من جنون متوقع . يفكر وهو يمضي تجاه بيت القاضي : اللافتة المثبتة أمام المسجد تؤكد أنه مبني منذ قرون ، فأين طاردت الخادمة ؟ وأين سطح البيت الذي راودت فيه مريم حبيبة فهمي عن نفسها ؟ أكان كل هذا وهما ؟! فضيحتا السطح كان لهما تأثير كبير علي حياته ، فالأولي تسببت في طلاقه لابنة صديق أبيه ، والثانية انتهت بزواج كان ثمنه الرحيل نهائيا من بين القصرين إلي قصر الشوق ، فهل يمكن أن ينتج الوهم حقائق صارخة كهذه ؟!
" تراءت لعينيه عطفة قصر الشوق فخفق قلبه بقوة حتي كاد يصم أذنيه ، ثم لاحت علي رأس منعطفها الأيمن سلال البرتقال والتفاح منضدة علي الطوار أمام دكان الفاكهة فعض شفتيه في خزي (...) مال يمينا إلي عطفة مسدودة ثم اتجه إلي أول باب في جانبها الأيسر . هو البيت القديم بلا أدني شك ". هكذا وصف محفوظ مسار ياسين إلي بيت أمه بعد سنوات من الانقطاع عنها ، غير أن ياسين في زيارته التي نفترضها الآن قطع العطفة التي أصبحت شارعا دون أن يعثر علي البيت ، فقد تغيرت معالم الشارع لكنه أسعد حظا من أماكن محفوظية أخري ، فهناك لافتات عديدة تنتشر علي جدرانه وتحمل اسمه .
قصر الشوق
الغريب أن الوصف السابق لشارع قصر الشوق ورد في رواية بين القصرين ، أما في الرواية التي حملت اسمه فلم يشغل محفوظ نفسه بتفاصيل المكان . الأحداث كانت أكثر حضورا حتي أنها فرضت اسم الشارع علي الرواية ، رغم أن الكثير من أحداثها يدور في بيت السيد أحمد عبد الجواد وعوامات امبابة . يبدو بيت قصرالشوق الذي سكنه ياسين كما لو كان مصابا بلعنة . إنه بيت الفضائح بدءا من ممارسات أمه التي كانت سببا في شعوره المزمن بالخزي ، ثم انتقل إليه هو ليكمل المسيرة ، في طابقه الثالث استقبل أم مريم مرات قبل أن يتزوج ابنتها ، ثم قاد إليه زنوبة العوادة في مغامرة ماجنة رغم أنه يعلم بوجود زوجته فيه. وتنتهي المغامرة بطلاق جديد . وإليه يسير السيد أحمد عبد الجواد متعقبا زنوبة التي أحبها فيفاجأ بها ماضية إلي بيت ابنه ! وأخيرا كانت الفضيحة الأكبر وهي زواج ياسين من زنوبة التي جعلت العار يلحق بعائلته .
عالم خصب لا يوجد في الشارع الحالي ما يدل عليه ، إنه شارع عادي يحمل سمات المسوخ ، فلا هو قديم ولا حديث ، يقع علي الحافة بين الزمنين فيبدو هجينا بلا ملامح ، في أماكن أخري كان التقاط الصور عاديا ، أما هنا فكان مثارا للدهشة ، سكانه يتعجبون من هؤلاء العابرين الذين يشغلون أنفسهم بالتقاط صور لعالم بلا هوية ، بعد نظرة عابرة يمضي كل منهم وربما يقول أحدهم لنفسه : " عالم دماغها فاضية " !!
حميدة
انسابت بين المارة الذين شعرت أنهم من عالم آخر ، بصعوبة تستطيع حميدة أن تحرك جسدها حسبما تريد ،تستسلم للزحام رغم أنه يعرضها لبعض الانتهاكات التي لم تعتدها من قبل , لم يكن أمامها فرصة لتصرف بديل ، كما أنها لا تعرف معني أن يتسلح شخص بسخرية ظاهرة ليفعل في خفاء الزحام ما يشاء ، رغم أنها في عالم الرواية لم تكن ساذجة إلا أن مؤلفها لم يطلعها علي أشياء كهذه ، لأن التحرش لم يكن قد تم اختراعه وقت خلق شخصيتها! كانت تمضي من شارع الأزهر باتجاه الموسكي وعندما انعطفت يمينا لتدخل الشارع الفرعي خف الزحام نسبيا فوجدتها فرصة لتحكم ربط ملاءة اللف القديمة الباهتة التي ترتديها فوق فستان من الدمور حول جسدها . إنها حركة طالما أتقنتها لتشغل الناظرين برشاقتها عن فقر ثيابها . رأت في العيون نهما يمتزج بالدهشة فشعرت بالارتباك ، أفلتت من قدمها فردة الشبشب الذي رق نعله
فكادت تسقط . لولا أن يدين امتدتا إليها قبل أن يعانق جسدها الأرض . خلال رحلتها من الأسفل للأعلي تمنت أن يكون عباس الحلو هو صاحب اليدين اللتين أنقذتاها من السقوط ، كثيرا ما تتبعها في رحلة العصاري مع رفيقاتها ، قبل أن تقرر هل تصده كعادتها وتعنفه علي اقترابه منها لهذا الحد في محيط الزقاق كانت قد تطلعت في وجه المنقذ فتبينت أنه غريب عنها . شكرته وهي تبتعد مع شعور بالأسف . للمرة الأولي تشعر باحتياج للحلو . إنه ينتمي لعالمها الذي طالما شعرت تجاهه بالحنق ، لكنها الآن تتمني أن تسترجعه أو يستعيدها لينقذها من وحشة الغربة . تنفست بعمق وهي تنعطف يسارا لتدخل في فلك الزقاق ، لكن ما إن وقعت عينها علي الزقاق من الداخل حتي أطلقت صرخة !
زقاق المدق
" تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة ، وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري ، أي قاهرة أعني ؟ الفاطمية ؟ المماليك ؟ السلاطين ؟ علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار ، كيف لا و طريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلي الصنادقية ، تلك العطفة التاريخية ، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك ، هذا إلي قدم باد ، وتهدم وتخلل ، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع كرور الزمن عطارة اليوم والغد ..! " . بهذه السطور افتتح محفوظ روايته ، تحدث في المقطع السابق عن ماض غابر كعادتنا جميعا حينما نستقوي بزمن علي زمن ، فحتي وقت كتابة الرواية الذي أصبح بدوره ماضيا الآن لم يكن الزقاق شيئا يذكر ، ربما يكون أبناؤه قد حاولوا صناعة تاريخ مزدهر له ليستعينوا علي قضاء أيامهم بالأوهام !
الزقاق ضيق محاصر بثلاثة جدران بحيث يبدو وكأنه واقع في مصيدة لاقتناص شخصيات روائية وحبسها في محيطه بالغ الضيق ، مخرج الهروب الوحيد منه هو فتحته الضيقة التي تطل علي شارع الصنادقية ، زيارته حاليا تصيب العمود الفقري لمخيلتنا بكسر مضاعف ! فالعالم الذي رسمه نجيب محفوظ في الرواية أصبح أكثر ضيقا ، كما أنه يختلف حتي عن الواقع عند كتابته ، علي يمين المدخل يقبع المقهي . شديد الفقر بشكل لا ينم عن أنه كان يمت للشهرة بأي صلة قبل كتابة الرواية ، تقتحم نظراتي من بداخله عسي أن أعثر علي أي امتداد لإحدي شخصياته ، كثيرا ما تمنيت أن أري الشيخ درويش ، إنه صاحب العبارة التي فجرت بداخلي " عبوة " من الضحك عندما قرأتها أول مرة ، أنهي الرجل حياته الوظيفية بجملة قالها لمديره : " أنا رسول الله إليك بكادر جديد " !! في المواجهة يتصدر محل العطارة المشهد دون أن يستوقف العيون التي سرعان ما تعود إلي الجهة المقابلة للمقهي ، المنزل رقم 4 يقف متراخيا لا يقوي علي صد هجمات الزمن ، الشباك الذي تخيل المؤلف أنه مشربية حميدة اختفي عن الأنظار بواسطة قطعة قماش بالية تظلل جزءا من مدخل يعتبر امتدادا للمقهي ، أما البيت كله فأصبح مرفوعا من خدمة البشر بعد أن تحول إلي مجرد .. مخزن !! " البيت مفيهوش حد .. ده مخزن " . صوت شاب يسوق المعلومة بأداء روتيني ، طريقته تشير إلي أنه كررها مرارا لكل من تتطلع عيونه إلي المنزل في محاولة لاقتفاء أثر خيال محفوظ . إنه أحد أحفاد صاحب المقهي الأصلي ، يجلس علي كرسي بالخارج ليتابع أحوال مقهاه خلال غفوة اقتنصها والده عصر يوم جمعة . لا يبدو أنه يفعل شيئا خاصة مع العدد القليل من الرواد الذين يجلسون بالداخل ، تجمع بينهم رقة الحال بعد أن فشل المكان في اقتناص الزوار الاستثنائيين الذين يكون مرورهم عابرا . لا يعلم الشاب محمد عبد الجليل عن عالم أديب نوبل إلا ما رآه في الأفلام ، مشاعره تجاهه تبدو محايدة علي خلاف تلك الخاصة بوالده وجده ، فالاثنان لا يحبانه حسبما أكد . أتفهم سبب مشاعرهما لأن الرواية جعلت من الجد الأكبر مسخا ، فهو شاذ وعميل للإنجليز وتاجر مخدرات . في ظل ظروف كهذه يبدو وجود صورة لنجيب محفوظ علي جدار المقهي خارجا عن السياق ، لا يعرف محمد ملابسات تعليقها لكنه يراها من سنوات . بعد يومين يؤكد والده عبد الجليل عبده يوسف عبر اتصال هاتفي أن والده تشاجر مع محفوظ عقب صدور الرواية ، ويضيف : " جدي لم يكن عميلا للإنجليز ولا تاجر مخدرات ، لقد مات وعمره 128 عاما ولو كان غير طبيعي لما امتد به العمر هكذا " . لا يملك عبد الجليل منطقا للدفاع ، فيلجأ إلي مبررات واهية رغم أن النفي وحده كاف للرد علي خيال روائي اعتاد تحطيم الواقع . من جديد اتساءل عن الصورة التي تحتل جدار المقهي الأيمن ، هل هي محاولة للاستفادة من شهرة أضفاها علي المكان ؟ يرد بأن الأديب جمال الغيطاني هو من أقنعهم بتعليقها : " جاءنا بها وعليها توقيع نجيب محفوظ من الخلف .. قال إن هناك كثيرين يزورون الزقاق للتعرف علي عالم محفوظ .. ولا يصح ألا يضم المكان صورة له " . يصمت قليلا قبل أن يتساءل بأسي : " كيف يمكن أن يصل اي إنسان إلي المكان ولا توجد أي لافتة تدل عليه ؟ أين وزارة السياحة ؟ لم لا تكلف نفسها وضع لافتة لا تتجاوز تكلفتها 15 جنيها " . يبدو الرجل محقا فمدخل الزقاق لا يكاد يكون ظاهرا من الشارع الخارجي ، يحده محلان للعب الأطفال فيخفيان معالمه ، حتي من تتسلل نظراته بين الألعاب المتراصة لن يدرك أنه ينظر إلي الزقاق الأشهر بالمنطقة . أستعيد عبارة كتبها الغيطاني قبل سنوات وأكد فيها أن القاهرة مدينة بلا ذاكرة ! كان يتجول بشارع ريفولي في باريس عندما شاهد لافتة مثبتتة علي بيت قديم ، تشير إلي أن توليستوي أقام به فترة من يوم كذا ليوم كذا ! فعاد ليكتب أن القاهرة مليئة بأماكن الذاكرة لكنها لا تجد من يدونها ، وقتها أطلق دعوة لإحياء المزارات الأدبية ، وخاصة أماكن نجيب محفوظ ، لم تكن الفكرة مكلفة ، كل ما تتطلبه هو وضع لافتات تشير إلي أماكن وردت في الروايات ، ليتمكن السائحون من رؤيتها . رحل الغيطاني وظلت فكرته مجرد اقتراح وليد لم يجد من ينفذه !
اخرج من ذكرياتي وأعود إلي عبد الجليل ، أسأله عن الأماكن التي ضمها محفوظ إلي الزقاق دون أن توجد فيه ، فيرد : " الوكالة وصالون الحلاقة لم يكونا موجودين .. أما محل البسبوسة والعطارة والقهوة فكانت موجودة " . ويشير إلي أن أباه ولد في البيت المقابل للمقهي ، وكان يطل عليه من شباك بالطابق الأول . ليس في حاجة إلي أن يؤكد أن الشخصيات التي وردت في الرواية وهمية ، والأحداث متخيلة ، وأن حميدة مجرد بنت من بنات أفكار المؤلف الذي ابتكر شخصيات ، وأعاد صياغة أخري واقعية بشكل يرضيه كمبدع ويتيح له فضاء أوسع يحلق فيه بخياله .
رغم مرور عقود طويلة علي كتابة رواياته إلا أن أماكن نجيب محفوظ لم تندثر ، لسبب بسيط هو أنها لم تكن موجودة علي أرض الواقع من الأساس . لقد تعامل المبدع مع الواقع كإطار شكلي ، مثل طفل يلعب بالمكعبات ويعيد تشكيل قطعها ليخلق كيانات مختلفة ، واقعية علي مستوي الحيز الذي تشغله ، لكنها في النهاية تظل مجرد لعبة يتحكم خياله بها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.