((حين بلغتُ الصفحة 207 مِن نُسختي مِن رواية "نقاء"، قمتُ بفِعلِ شيءٍ لم أكُن قد فعلتُه من قبل كناقدٍ أدبي، شيءٍ كان إلي حدٍ مّا، خَرْقًا للبرتوكول الاحترافيّ، لكنْ، بدا أمرًا حتميًّا، لأنَّه، قد خُطَّ بواسِطةِ جوناثان فرانزن مِن قبل بنفسه: استخدمتُ جهاز أيفون خاصّتي كي ألتقِطَ صورةً لفِقرةٍ مُحدَّدة و نشرتُها علي تويتر)). هكذا تفتتحُ الكاتبة كيرتس ستنفلد مقالها بالغارديان عن روايةِ فرانزن الجديدة. أنْ يُصدِرَ الأميركيُّ جوناثان فرانزن رواية، لهوَ حدثٌ يستحقُّ الاهتمام، لاسيّما أنه، كاتبٌ مُقِلٌّ في الإنتاج؛ فما بين روايته الأولي وتلك الأخيرةِ حديثة الصدور الخامسةِ في الترتيب،سبعة وعشرون عامًا. يعتبره مواطنه الأميركيّ ستيفن كينج مع دونا تارت مِن أفضل الكُتابِ الأميركيّين رغم قلة الإنتاج- علي حدّ قوله: كُلما كان أقلّ، كان أفضل. رُغمَ هذا، ورغمَ عدمَ وفرة الاهتمامِ بالأدبِ الأميركيّ الحديث في بلادِ المشرق؛ فإن قُرَّاءَ العربيّةِ يعرفونه مِن خلالِ روايتِه الفائزةِ بالجائزةِ الوطنية للآداب"التصحيحات"، و الصادرةِ عن سلسلةِ الجوائز بالهيئةِ العامةِ المصريّةِ للكتاب بتوقيع المترجم المِصري عمرو خيري. في روايتَيهِ السابقتين، يُضمِّنُهما فرانزن ما يبدو أنها استطراداتٌ مٌطوَّلة، مثل تفاصيلِ الرحلةِ البحريّةِ في سفينة في التصحيحات، و كذلك في روايته "حُريّة". في "نقاء"؛ السطوُ الإلكترونيّ و كذلك صحافةُ الشبكةِ العنبكوتية يتم تناولهما بنفسِ النوعِ مِن التفصيل، لكن، بما يبدو ضروريًّا لما يكشِفه هذا الكِتاب. تتخذُ الروايةُ تقنيةً بانوراميّة. أحيانًا، هُناكَ مزيدٌ مِن الاستطراد، لكنه يقترِحُ نوعًا من الانفتاحِ، و لديهِ إصرارٌ و أسلوبٌ غريب علي اجتذابنا داخل الرواية و الاستئثار بالانتباه. كما في روايتيه:(التصحيحات، حُريّة)؛ تعرِضُ الروايةُ عالَمَها وشخصياتها بشكلٍ مثيرٍ للاهتمام للغاية، وزاخرٍ بالدوافِعِ المتعددة، دون أيّ قصدٍ أن تصفهم بجيشان الطاقةِ والحماسة. فتاةٌ شابة تخرّجت مِن الجامعة ((بِب Pip)) ، و الذي اسمها الأولُ بهيئته الكاملة- والذي هو ((نقاء-Purity))- قد وهبتها إيَّاه أمُها ذ وهي امرأةٌ ليست عاقلة تمامًا. بِب كانت ترزح تحتَ وطأةِ أعباء ديونَ الدراسةِ بالكُلّية.ذكاءٌ حاد، نقصٌ في التوجيه؛ كانت تتحمَّلُ أعباءَ أُمِّها أيضًا، التي قامتْ بتربيتها وحدها في بيتٍ صغير في سانتا كرزو ماونتاينز، وهي تعملُ الآن كموظّفةِ حسابات في مَتجَر. المشكلةُ الأساسيةُ بالنسبةِ ل((بِب)) كما تُبينُ عنها الرواية، هي أنّ أُمَّها لا تُخبِرها مَن هو والدها. وقد قطعتْ كلَّ صِلاتها بعائلتها قبل أنْ تُولَد هي. ولم تكن ((بب)) قادرة علي حمْلِ أُمها لأنْ تبوحَ بحقيقةَ ماضيها أو هويّة والدها. هي حتي لم تكن تعرف ما هو الاسم الحقيقيّ لوالدتها. هذا الإحساس بالهوية المشوَّشة يغذي ارتباكها العام. الهيكلُ الروائيُّ يتّبِعُ نفسَ نظاميَّتِهِ في كِتابيه الأخيرين: شخصيةٌ، تُوهبَ جزءًا كبيرًا مِن الصفحات وعديدًا مِن المشاهد، ثم تختفي، ويُستبدلَ بها شخصيةٌ أُخري، فقط كي تُستعادَ لاحقًا. في التصحيحات، لأنها كانت قِصةً لعائلةٍ واحدة، كُلُّ خطٍ دراميّ كان لديه رابطٌ طبيعيّ مع نظيره، والذي يظهر فيما قبل، وفيما بعد. هُنا؛ الروابطُ تتكشَّفُ علي مهلٍ، بمُساعدةِ حبكةٍ مُتقَنة. بمعنًي آخر؛ تعتمدُ الروايةُ علي القِصةِ أكثرَ مِن اعتمادِها علي الأسلوب، فيما يبدو وكأنه صِراعٌ، ما بينَ الركودِ في الأسلوبِ وكميِّةِ التفاصيلِ اللاذعة والملاحظاتِ الدقيقة، خاصَّةً فيما يمِسُّ دورَ ((بِب)) كبريئةٍ محطَّمة، تحتاجُ للإنقاذِ والخَلاص. في أغلبِ الأحيان، ثمَّةَ شيءٌ خفيٌّ بشكلٍ غريب بخصوصِ الأسلوب، حتّي أنكَ لا تُلاحِظ حينَ تنتقِلُ الحبكةُ من حَدَثٍ إلي حدَث. ((بِب)) تظهرُ في الكتاب وتختفي، قد تظهرُ أنها ليست شيئًا غير عاديّ بقدرٍ كافٍ كي تكون محورًا للسّرد. هي تشعرُ بالسوء نحو ذاتها ونحو العالم، لكن، إدراكُها غيابها عن الظهورِ ليس غنيًا بما يكفي لأنْ تكونَ الشخصيةَ الرئيسية في روايةٍ بهذا الطول. لذا، يبدو هذا في النصف الأولِ مِن الروايةِ قبل أنْ يُصبحَ ضعفُ شخصيها شيئًا جوهريًّا بالنسبةِ لسيرِ الرواية، ولاهتمامِ القاريء. وَضعُ بِب العام كشخصٍ يفتقر للفُرص للحصولِ علي عمَلٍ لا يُسعِفُه هاجِسُها برجلٍ مُتزوِّج يعيشُ مع زوجتِه في نفسِ المنزلِ في أوكلاند، مِثلَ بِب و بعض الأخرين. حينَ تلتقي بولدٍ لطيف في المقهي، والذي يبدو أنها تُعجِبه، تتركه وحدَه في غرفةِ نومها وهو في حالةٍ من الاستثارة الجِنسيّة، وتبقي بعيدة لأكثرِ مِن ساعة، بينما تملأُ هي استطلاعَ رأيٍ لصديق في الطابقِ الأسفل. يبدو عليها الذهولُ وتغضبُ حينَ تعثر علي رسالةٍ نصّية أرسلها لشابٍ آخر:((بإمكانكِ أن تحصلَ عليها هذا لو كان لديكَ ميلٌ لما هو غريب)). أندرياس وُولف، والذي ترجع أصوله إلي ألمانياالشرقية، يعيشُ في الوقت الحالي في بوليفيا لتنفيذِ مشروعه ((سن لايت)). وولف واعٍ لشهرةِ مُنافِسيه في عالم السطو الإلكترونيّ: إدوارد سنودن و جوليان أسانغ. إذا كان وولف شخص مُتلاعبا ويهتمُّ بالقوّة والشُّهرة، فإنّ توم أمبرينت، الذي يُسيُّرُ العملَ في التحقيقاتِ الصحفيّة علي موقعٍ بالشبكةِ العنبكوتية لهو نظيرُه الضِّد. شخصٌ هاديء، مُستقلٌّ وجاد. أندرياس وتوم يلقتيان لوقتٍ قصير وقت سقوطِ جدارِ برلين، لكنها فترةٌ طويلةٌ بقدرٍ كافٍ كي يتشاركا سِرًّا مّا. فيما يبدو أمرًا بعيدًا عن المصادفة، ينتهي أمرُ بِب بأن تعملَ بدايةً لصالِحِ وولف، حيثُ تقضي وقتها في بنايتِه بسانتا كروز في بوليفيا، ومِن ثَمّ لصالِحِ توم وليليا، الَّلذين يعيشانِ في دينفر. ((بِب)) كانت تعملُ في شركةٍ للطاقة. تلتقي امرأةً ألمانية لديها عرض عملٍ لأجلها. هي تنتسِبُ لمجموعةٍ تقومُ بأعمالِ الاختراقاتِ بالانترنت، و التي تُدارُ بواسطةِ مؤسسها مِن ألمانياالشرقية صاحب الكاريزما: أندرياس وُولف. تقترِحُ علي المنظّمة ضمّ ((بِب))، ويتم تعليمها البحث في الأركانِ الخبيئةِ مِن الشبكة العنكبوتية، حيثُ مِن الممكن أن تخترقَ هوية والدتها ذات الاسم المستعار. في جميعِ الأحوال، لدي ((بِب)) تأثيرُ مُفقِدٌ للاستقرارِ علي مَن حولها. ليليا، ليست علي يقينٍ مِن علاقتها مع توم، وغير مرتاحةٍ بخصوصِ مشاعره نحو ((بِب))، تُصبِح ليليا غيورة. في بوليفيا، تتراجاُ ((بب)) عن كونها مهووسةً بوولف، الذي كان يلهو بإمتاع نفسه جِنسيًّا، حيثُ يجعلُ النِّساءِ اللاتي قد احتشدن للعملِ لحسابِه، يشعرنَ بالغيرة. هناكَ لحظاتٌ إبّان منتصفِ الكتابِ يبدو فيها أن بب، قد سببت قدرًا مِن المشاكل، في النهاية ستعود إلي المنزل لأُمِّها، حيثُ ستعرِض تحركاتها بذعرٍ بالغ، ليجعلها ذلكَ روايةً عن التربية الجنسيةِ والعاطفيّة، و عن توقعاتٍ وديعةٍ لشابةٍ صغيرة، وامرأةٍ يافعةٍ تفتقِر للخبرة، في عالمِ اليوم العسير، سيكونُ هذا، بتعبيرٍ آخر: النظير المُحدَث ل "آمال عظيمة"(رواية لتشارلز دكنز)، والذي يفترِضُها اسمُ ((بِب)) وأحوالها الشخصية. في قلبِ الروايةِ رغم هذا هُناكَ جريمة، وهذه الجريمةُ والحاجةُ لأنْ تبقي طيّ الكِتمان تبدأُ في تنشيطِ السَّرد. يظهرُ للعيانِ ببطءٍ أنّ جَهل ((بب)) بهويّة والدها واسم والدتها الحقيقي يجعلها شخصًا يسهل مهاجمته بشكلٍ عظيم، خاصة مِن شخصٍ مثل أندرياس وولف، والذي تحت وطأة الضغوط، يصيرُ مصابًا بالبرانويا بشكلٍ مُتزايد. يمكن أن نعتبرها روايةُ الأسرار؛ الألاعيب، والأكاذيب. مِثلَ سابقتَيْها؛ تؤرِّخُ للعَلاقاتِ المُدمَّرة بين الأباءِ وذريِّتهم في أمريكا البيضاء، الطُرُقُ التي بها، الزمن، والإخفاقاتِ البشرية، تعملان علي تآكلِ روابطِ الزواج. لكن، يظلُّ التساؤل، وهو: لماذا أحجام روايتِه مِن حيثُ عدد الصفحات، لا تتناسبُ وقِصَر كلماتِ العناوين: نقاء، التصحيحات، حُريِّة ..، ممّا يتّهمه البعض بالاسهاب غير الضّروريّ؟ لربّما هو ما أبان عنه حين استضافتُه المذيعة الشهيرة أوبرا ونفري في برنامجها حيثُ يقول: ((أحاولُ أن أُشيِّدَ شيئًا يُشبِهُ الحُلم. ليس باستطاعتك أن تخرجَ مِن الحلم، أنت فقط تستمر. في الروايةِ، المرءُ يصنعُ حُلمًا في اليقظة. مِن الممتع أن تكتب، مِن غيرِ الممتعِ ألّا تكتب، لا أشعرُ بأني علي قيدِ الحياةِ بشكلٍ كامل إلا إذا كان لديّ بالفِعلِ مشروعٌ أكتبه، يصبِحُ الأمرُ مِثلَ الدواء، وتريد أن تعود لحالة "كِتابةِ الصفحات" فحسب، لأنك تشعر أنّ هذا يبرر وجودك)).