مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    حي شرق بمحافظة الإسكندرية يحث المواطنين على بدء إجراءات التصالح    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم السبت 4 مايو 2024 في البورصة والأسواق    الاحتلال الإسرائيلي يقصف ويحاصر ويجرف بمحيط منزل في دير الغصون بالضفة الغربية    حسين هريدى: الهدف الإسرائيلى من حرب غزة السيطرة على الحدود المصرية الفلسطينية    تعرف على حكم مباراة الأهلي والجونة فى الدوري الممتاز    "أفشة يقترب من الرحيل".. سيد عبد الحفيظ يكشف مفاجأة عن مصير نجم الأهلي    «توخوا الحذر».. بيان عاجل من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم وموعد عودة الأمطار في مصر    التموين تتحفظ على 2 طن أسماك فاسدة    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    شيرين عبد الوهاب تبكي أثناء غناء «كدة يا قلبي» بحفل الكويت    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. السبت 4 مايو 2024    هيثم نبيل يكشف علاقته بالمخرج محمد سامي: أصدقاء منذ الطفولة    المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: أفلام المسافة صفر مهمتها حفظ حكاية غزة    المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الإذاعى أحمد أبو السعود    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    مصرع 37 شخصاً جراء الفيضانات في البرازيل    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    "ارتفع 140جنيه".. سعر الذهب بختام تعاملات الأمس    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    الخطيب يهنئ «سيدات سلة الأهلي» ببطولة الكأس    ملف يلا كورة.. اكتمال مجموعة مصر في باريس.. غيابات القطبين.. وتأزم موقف شيكابالا    سيدات سلة الأهلي| فريدة وائل: حققنا كأس مصر عن جدارة    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    أمن القليوبية يضبط «القط» قاتل فتاة شبرا الخيمة    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    السودان وتشاد.. كيف عكرت الحرب صفو العلاقات بين الخرطوم ونجامينا؟ قراءة    تصريح دخول وأبشر .. تحذير من السعودية قبل موسم الحج 2024 | تفاصيل    سيول وفيضانات تغمر ولاية أمريكية، ومسؤولون: الوضع "مهدد للحياة" (فيديو)    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزمن المفقود
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 10 - 2015


تعتصرها.. واصلت:
- هو مش بيحب البنات.. لكن ربنا جازاه وقال له طب خد !
- إزاي ؟
- خلّف بنتين من مرتة الجديدة !! وضحكت لأول مرة بصوت طفولي ساخر.
- تحبي تعيشي معاه أحسن وانتي بنت زي ما انتي ؟ .. فكرت طويلاً ثم قالت:
- لأ.. أحب أعيش مع أمي.. لكن.. هو مش بيدينا اللي نعيش منه، وأخويا الكبير بيشتغل ويصرف علينا.. عشان كدا أنا عاوزة أبقي زيه.. لأن أمي بتقول إنه لازم يتجوز.. طيب مين حيصرف علينا ؟
وضع حسن "بالتة" الألوان "وفرش" الرسم جانباً وهو يشعر بأنه مسئول عنها علي نحو ما. فكر: كيف؟.. اهتدي إلي أن يشتري منها العروسة الثانية. عرض عليها ذلك. فوجئ بها تقول غاضبة.
- مش عاوزة أبيعها !
- ليه ؟
صمتت مطرقة. أدرك أنه جرح كبرياءها بعرضه شراء العروسة فور علمه باحتياجها للمال، طيَّب خاطرها قائلاً أنه لا يقصد، وطلب منها أن تقول له رأيها فيما يرسم.
3
انتقل في اليوم التالي إلي منطقة بعيدة. كان قد اكتشف قيام المحافظ بالأمر بهدم مجموعة البيوت القديمة الرابضة في بطن الجبل منذ عشرات السنين، غير مبال بأنه يدمر تراثاً معمارياً يتكامل مع التراث الفرعوني بحس شعبي، وكان مصدر الإلهام دائماً طوال سبعين عاما للفنانين والزائرين من كل مكان. كانت حجة المحافظ أن هذه البيوت تهدد سلامة المنطقة الأثرية وتشجع محاولات الاستيلاء علي الآثار عبر السراديب التي يقوم الأهالي بحفرها من داخل منازلهم للتنقيب بحثاً عن المقابر التي لم تكتشف بعد، فيما يعرف الأثريون جيداً أن هذه المنطقة قد تم مسحها أثرياً منذ زمن بعيد وأنها لا تبشر بأي كشوف جديدة، وعلم الأهالي أن المقصود من الهدم هو إخلاء المنطقة لإقامة مشروعات سياحية جديدة. اتجه حسن وعدد من زملائه الفنانين لتسجيل ما يمكنهم من ملامح هذه البيوت النادرة قبل إزالتها، حتي تكون الرسوم نوعاً من التوثيق لها.
استغرقه الرسم في هذا النجع عدة أيام، ونسي في غماره أمر مريم، حتي فوجئ بها أتية من بعيد، مع اقترابها استعد لاستقبالها باشتياق حقيقي، كانت تجري وهي تتلفت باحثة عنه، وعندما رأته وقفت علي بعد خطوات منه صامتة وكأنها "مخاصماه".. وسلم بأن من حقها ذلك لعدم وفائه بما وعدها به. قام واعتذر لها موضحاً ما دعاه إلي المجئ هنا. لم تكن تحمل أي عروسة. أخبرته معاتِبةً أنها ظلت تبحث عنه طوال الأيام الماضية في كل النجوع، وخافت أن يكون قد سافر، لولا أنها قابلت بعض زملائه الفنانين وعلمت منهم بمكانه.. احتضنها مطيِّباً خاطرها، فانفرجت أساريرها وعادت إلي طبيعتها.. ثم قالت فجأة:
- عاوزاك تقوم معايا يا عمو.
- علي فين ؟
- علي البيت.
- ليه ؟
- عازماك عندنا. أنا قلت لأمي فقالت أهلاً وسهلاً.
- لكن إيه المناسبة ؟
- عاوزاك تشوف بيتنا وأمي وأخواتي وتشرب شاي عندنا. أنا قلت لهم انني عازماك.
- امتي ؟
- دلوقتي.. أمي منتظراك.. وحاخلّيك تطلع فوق السطوح عشان تشوف البلد كلها من فوق وترسم هناك لو انت عايز !
شدت يده تستحثه علي الذهاب. استسلم لها وجمع أدواته، وتبعها في دهشة. توقفت في الطريق فجأة وهي تقول: إستنَّي يا عمو.
وقف ينتظرها مترقباً. دست يدها في جيبها وأخرجت حجراً صغيراً ناعماً يلمع في ضوء الشمس بألوان بين البنفسجي والأزرق، قدمته إليه باسمة، سألها عنه قالت:
- جايباهولك.
- منين ؟
- لقيته علي الأرض.. قلت أشيلهولك.. ينفع تعمله خاتم.
قبَّل راسها في حنان ومضي معها صاعداً هابطاً في دروب الهضبة، مارَّيْن بفتحات مقابر مهجورة سطا عليها اللصوص في أزمنة مجهولة، من بعيد تطل واجهة معبد الدير البحري التي تحمل اسم حتشبسوت، وعبر الممرات والدروب الضيقة يري مظاهر فقر مؤلمة لأناس نسيهم الزمن ووجوه أطفال تغطيها أسراب الذباب، عليهم ملابس ملهلهلة لم يعد لها لون، بعض الحمير والماعز والكلاب تسرح هنا وهناك بغير صاحب، وأمام كل بيت من البيوت القزمية يقام مهد طيني مرتفع للأطفال الرضع يوضعون فيه ليلاً في قيظ الصيف خوفاً عليهم من الحر والعقارب.
4
أمام البيت استقبلته أسرة مريم كضيف رفيع المستوي.. الأم في الأربعين، والأختان، كبراهما في السادسة عشرة والأخري تصغرها بقليل، رحَّبن به في حفاوة وقُدْنه إلي "المندرة" التي بُنيت أسفل جدرانها مصاطب طينية فُرشت بالحصير والكليم. بدت مريم تائهة في الزحمة لكنها تضحك بسعادة وهي لا تعرف ماذا تقول في مثل هذه المناسبات.
وجاءت إحدي الأختين بعلبة عصير مثلج، كأغلي تحية يمكنهم تقديمها إلي ضيف عزيز، وتقاطرت نسوة وفتيات وأطفال الجيران يراقبن هذا الحدث المثير. أنقذت مريم الموقف بذكاء وهي تشد حسن من يده نحو السلم الطيني قائلة
- احنا حنطلع فوق علي السطوح عشان ترسم هناك.
سمعت إحداهن من فوق سطح البيت المقابل تسأل:
- هو مين دا يا مريم ؟
قالت وهي فخورة مزهَّوة:
- صاحبي.. وحيرسمني.
فجأة دبت في المنزل حالة من الهرج والفزع، وانصرف الجيران في لهوجة، وصعدت الأختان تنبهان مريم إلي أن أباهن في الطريق وقد بلغه خبر دخول غريب إلي المنزل في غيابه، والأم تولول بصوت خفيض وكأن كارثة قد حلت بهن.. لم يفهم حسن جيداً ماذا هناك وماذا عليه أن يفعل وأي خطأ اقترفوه.. قالت أختها الكبري:
- انزلي قبل ما يطلع يموَّتك ؟
وقفت مريم ممسكة بيد حسن في استماتة وهي تقول:
- مش نازلة.. إحنا هنا في بيتنا مش في بيته !
قالت الأخت: وإن طلع حتقوليله إيه ؟
- حاقوله.. عمو حسن صاحبي.. وأنا اللي عزمته.
وقف حسن متوجِّساً، يترقب ما يأتي به المجهول، ومن خلفه بانوراما تضم بقايا حضارة مندثرة، تطل آثارها علي الوادي عبر فُوهات المقابر التي نُهبت منها جثامين صانعيها، فبدت كعيون أصحابها وهي تراقب ما آل إليه مصير أحفادهم !
لم يبق في الشقة مكان للوقوف أو ممر للسير.. كل الحجرات والصالة والممرات، حتي المنور الذي تطل عليه فوق الدور الأرضي من العمارة.. تكتظ باللوحات والإطارات الخالية بكل المقاسات، يقف وسطها مرتبكاً يحاول ترتيبها في مجموعات زمنية.. يريد تنحية لوحات كل عقد من السنين في جانب، ليكون سيناريو العرض وفق تسلسل زمني، يحسب الأيام المتبقية علي افتتاح المعرض الاستعادي.. هناك أعمال قديمة بحاجة إلي ترميم.. والكثير يحتاج إلي إطارات جديدة تليق بمعرض تاريخي يضم رحلة خمسين عاماً من الفن.. المشكلة تكمن في مرحلة الستينيات.. ما بقي منها لديه أقل بكثير من المراحل التالية، مع أهميتها الشديدة كتربة إبداعية حملت خمائر شخصيته الفنية علي امتداد مسيرته علي تنوع أساليبها.
اتجه تلقائياً إلي لوحة "الأب والابن" حيث نقلها لتبقي وحيدة في شرفة المرسم.. وقف يتأملها، تمتزج بداخله مشاعر الحزن والغضب.. التحدي والفشل.. العجز والندم.. كان يأمل أن تكون هي "اللوحة المفتاح" لعالمه الفني الممتد.. كأقدم لوحة لديه اليوم طوال تاريخه، وكجزء من حلم بعالم إنساني جديد ظل يلازمه طول هذا العمر، وومضة من عصر ارتبط بذكريات شبابه، وبقيم نبيلة وطموح للمستقبل.. لكن.. ها هي ترقد أمامه كبقايا مشوهة ومطموسة، بعد أن كان يحسب أنها ستكون أيقونة معرضه، وارهاصة قوية لمسيرته الفنية التالية، كانت واحدة من لوحات مشروعه المفقود للتخرج في كلية الفنون الجميلة أواسط الستينيات الذي استحق عنه تقدير الامتياز، وكان أولي خطواته علي طريق التحقق.. ومن الذي فعل بها ذلك التشويه أو الإعدام؟.. إنه هو.. وبيده!
حتي شهور قليلة مضت لم تكن هذه اللوحة تخطر علي باله، شأنها شأن بقية شقيقاتها في مشروع التخرج الذي اختفي من الكلية بعد تخرجه وأنشغاله بحياته العملية، فلم يذهب لاسترداد اللوحات، وبعد سنوات طويلة ذهب للسؤال عنها، فلم يجد لأي منها أثراً، ولا حتي دليلاً يسير علي ضوئه للبحث عنها، كانت أطياف لوحاته تتزاحم بخاطره كلما بدأ في رسم مشروع جديد، وهو يتأمل أجواء أي مكان في الريف وأي واحة في الصحراء، مما يتشابه مع مشروعه القديم، مع اختلاف الطابع والتفاصيل المعمارية وطبيعة النماذج البشرية بين مرحلة وأخري، كان قد تفرغ لتنفيذ المشروع ثلاثة أشهر مقيماً في قريته، فاستوحي عالمها السحري بين الواقع وما فوق الواقع، مبرزاً كفاح الانسان وصموده كأشجار تواجه الريح، وعبرت اللوحات عن انحيازه للفلاحين والفقراء وهم يقابلون الشقاء بالعطاء ثم لا يحصدون غير الخبز الجاف، بالرغم من كل مشروعات التنمية والعدالة في ذلك العصر، وكانت لوحة الأب والابن بمبالغات نسبها التشريحية وفطرية ملامسها الطينية وتقشف ألوانها الترابية تعبيراً عن واقع خشن وحلم بالمستقبل في آن، وهي تضم الفلاح الكادح وابنه الصغير جالسين (علي سكة سفر) وسط خلاء عريض، ينظران نحو البعيد المجهول في حالة انتظار أزلي عاشه المصري آلاف السنين.
ما الذي ذكره بهذه اللوحة إذن بعد أن فقدها نصف قرن، ثم جعله يحلم بأن تكون أيقونة المعرض؟.. وكيف أمكنه العثور عليها أساساً؟..
2
كانت البداية اتصالا تليفونيا تلقاه الفنان عاصم الرمالي من رقم مجهول يسأله فيه رجل عن لوحة الأب والابن، وهل يعلم أين مكانها؟.. كان قد نسيها تماماً، فعصر ذهنه محاولاً التذكر دون جدوي، أخبره الرجل بتاريخ إنتاجها المسجل تحت التوقيع، فربط ذلك علي الفور بتاريخ مشروع التخرج، وتدفقت بخاطره في الحال ملامح اللوحة، وسأل الرجل في لهفة: أين هي؟.. فأخبره بأنه يحتفظ بها في بيته في أسيوط، قائلاً إنه وجدها ضمن مقتنيات بيت والده الراحل، ولم يكن يعرف شيئاً عن الفنان الذي رسمها، حتي بحث عنه علي الإنترنت فعرف أنه فنان مشهور ذو تاريخ طويل وإنجازات بارزة، فسأل عنه حتي استدل علي رقم هاتفه.. استولت الفرحة علي قلب عاصم، لكنه تمهل في إعلان لهفته حتي يري صورة اللوحة، فطلب من المتحدث الذي عرفه بنفسه باسم عمران إرسال الصورة إليه عبر "الإيميل"، وأرسل إليه عنوانه علي الهاتف المحمول، وانتظر حتي وصلت إليه الصورة بعد ساعة.
كانت لحظة اللقاء الأول بينه وبين صورة اللوحة جياشة بالمشاعر، كلحظة عثوره علي ابن له وقد حسبه رحل عن الدنيا.. تدفق علي الفور نبع الذكريات أثناء قيامه برسم المشروع في القرية، وتدافعت صور الأشخاص والأماكن والأحداث، وجعله هذا الطوفان العاطفي يتغاضي عما لاحظه في اللوحة من خروم وبقع وتجريحات هنا وهناك وقتامة في الألوان التي طمست بفعل الزمن أو بفعل طبقة الورنيش الردئ التي دهنت بها فزادتها قتامة.
اتصل بعمران علي الفور وأبلغه بأن اللوحة تخصه بالفعل، وسأله عما يفكر فيه بشأنها، كان يبدو من لهجة الرجل ومفردات حديثه أنه تاجر بالأرياف، وربما كان يتاجر في أنتيكات البيوت القديمة لعائلات أعيان الصعيد، وربما كانت اللوحة قد وصلت إلي إحداها قديماً من خلال بائع روبابيكا أو ما شابه.. أجاب عمران:
- أوامرك يا باشا.. ليس لي أي طلبات.. فهي حقك وأنا خدامك!
شكره عاصم بحرارة وسأله عن كيفية الحصول علي اللوحة، فأجابه بأنه سيحملها إليه في القاهرة مع زيارته القادمة وسيبلغه بموعدها حين يقرر السفر.
مرت الأيام والأسابيع ولم يسمع خبراً عن مجئ عمران باللوحة، حاول عاصم الاتصال به علي رغم الهاتف الذي حدثه من خلاله قبل ذلك مراراً فلم يتلق جواباً، في البداية فسر الأمر علي أن الرجل يحاول التلاعب به، ثم فكر أنه ربما لا توجد اللوحة عنده وأنه وسيط بين آخرين وبينه وأن الأمر ذهب في سكة المساومات، وأخيراً انتهي إلي أنها مجرد لعبة عبثية لن تنتهي إلي شئ، فقرر أن يصرف النظر عن اللوحة بما يكتنفها من غموض، وحسْبُه أن يتأمل صورتها علي "الفيس بوك أو الموبايل" ويستعيد من خلالها ذكريات الزمن الجميل.
3
فوجئ عاصم باتصال جديد من "عمران" يعتذر عن تأخره في الاتصال به لسفره خارج البلاد في الفترة الماضية، سأله عاصم بلهجة حاسمة:
- من فضلك يا حاج عمران، أريدك أن تخبرني بصراحة: هل لك مطالب خاصة؟
استنكر الرجل أن يكون هذا تفكير عاصم، وأكد له أنه (ابن ناس) ويعرف الأصول، ويكفيه شرفاً أن يتعرف علي فنان عالمي مثله، وحدد له موعداً للحضور بعد يومين، فأملاه عاصم عنوانه مفصلاً علي أن يتصل به فور وصوله إلي القاهرة..
كان هذان اليومان أطول 48 ساعة في حياة عاصم، فقد أخذته الظنون والهواجس إلي أنه قد يتعرض لعملية ابتزاز، أو إلي عدم حضور عمران في موعده، ومن ثم يدخل به في دوامة لا يعرف نهايتها. لكنه تلقي مكالمة منه في الموعد المتفق عليه يخبره بأنه علي قمة الشارع الذي يقيم فيه ومعه اللوحة.
قفز عاصم من الفرحة، مع شعور بالذنب لما خامره من سوء ظن بالرجل، ووقف في شرفة المرسم في انتظاره، حتي رأي سيارة أجرة تقف أمام العمارة وينزل منها رجل خمسيني أسمر يميل إلي البدانة بشعر أشيب علي جانبي جبهته، وأخرج من الكنبة الخلفية لوحة كبيرة مغلَّفة بالورق، أسرع عاصم بالنزول لمساعدته عند الباب، وبعد السلام والتحية أصر عمران علي أن يحمل اللوحة إلي المرسم، وهناك نزع عاصم الغلاف عنها بحرص حتي كشف عنها ووضعها أمامه يتأملها في استغراق شديد متابعاً في ذات الوقت ثرثرة عمران المستمرة وهو يحكي كيف أصر علي إحضارها إليه، رافضاً بيعها لعدد من أصحاب قاعات الفن الشهيرة بالزمالك الذين عرضوا عليه ثمناً للوحة بلغ ثلاثين ألف جنيه.. أصبح عاصم مشتتاً بين تأمل اللوحة وما أصابها من تشويه في أماكن عدة، وخاصة طمس ألوانها بلون نحاسي بسبب دهانها الخاطئ بطبقة من ورنيش الأرضيات علي ما يبدو، وبين حديث الرجل الذي أثار هواجسه بشأن نواياه في استغلال الموقف.. فها هي البداية غير مبشرة بخير، برغم عودته إلي التأكيد أنه رفض بيعها بهذا المبلغ لأن صاحبها أولي بها، وأن المال ليس كل شئ.
أعاد عاصم تقديم الشكر والامتنان إليه، ومع رشفات الشاي كان عمران يتأمل اللوحات المعلقة والمتناثرة في كل مكان قائلاً:
- ما شاء الله.. كل هذه اللوحات من أعمالك؟.. كان معي حق عندما قلت إن ما نُشر عنك علي الانترنت قليل من كثير.
بينما كان يجول بخاطر عاصم أن هذه مقدمات لها عواقب غير مطمئنة، وأراد أن يقول له: وبعدين؟.. هات من الآخر !
وبالفعل.. سرعان ما بدأت المساومة، ليقف عمران عند عشرين ألفاً رافضاً أن يتزحزح عن المبلغ، مما دفع عاصم إلي القول:
- إذا كنت مصراً علي ذلك فإنني أنصحك ببيعها إلي الناس الذين عرضوا عليك ثلاثين ألفاً.. لأنني لا أملك وأقسم لك غير ألفين.
وبعد مساومات مضنية وعقيمة وجد عمران مخرجاً، فاقترح أن يبادل لوحة الأب والأبن بإحدي اللوحات المعلقة بالمرسم.. كان الطلب قاسياً لكن الخوف من فقد اللوحة للمرة الثانية كان أقسي، فلم يجد عاصم أمامه إلا الإذعان.
قام عمران وراح يتأمل اللوحات المعلقة، ثم يقلب في اللوحات المركونة علي الجدران كتاجر روبابكيا يقلب في البضاعة، وأخيراً وقع اختياره علي لوحة استوحاها عاصم من بيوت البر الغربي بالأقصر ولها مكانة خاصة في نفسه، وعندما عبر عن ذلك لعمران ازداد إصراراً علي الحصول عليها، يدفعه إلي ذلك علي الأغلب حسه كتاجر، لأن فرصة بيعها أكبر، بالرغم من قسمه بالأيمان المغلظة بأنه سيحتفظ بها في بيته كذكري عزيزة له ولن يفرط فيها مادام حيا !
ورضخ عاصم في النهاية، وبدأ يجهز اللوحة ليسلمها لعمران، فإذا به يسأله:
- وحق أخويَّ الجالسين الآن بالمقهي في انتظاري؟.. إنهما شريكان لي في الميراث، ولا تعنيهما اللوحة الجديدة، كل ما يعنيهما.. وحرك إصبعي السبابة والابهام بمعني الأوراق المالية.
وبدأ عملية مساومة جديدة، وكان علي عاصم أن يقبل الخسارة طالما قبل بدخول اللعبة منذ البداية، وانتهت المساومة بأن يدفع ألفين من الجنيهات لأجل الشقيقين المنتظرين علي المقهي، وإلا انتهت الصفقة إلي الفشل وخسر لوحته القديمة العائدة بعد نصف قرن !
4
بدأت الرحلة الأصعب.. وهي ترميم اللوحة، والمشكلة ليست في التجريحات والبقع والخروم وتساقط الألوان عن بعض الأماكن، فكل هذه أمور اعتادها عاصم في ترميم لوحات سابقة، إنما المشكلة في كيفية إزالة طبقة الورنيش التي تكسو اللوحة بلون نحاسي متسخ شديد القبح، استشار عدداً من زملائه ذوي الخبرة في الترميم، واشتري المادة المذيبة للورنيش التي نصحوا بها مؤكدين أنها لم تؤثر علي الألوان الأصلية.
ظل أياماً كثيرة متهيباً من بدء العملية، يسيطر عليه الخوف من فشلها فتضيع اللوحة بين يديه، لذلك بدأ التجربة في ركن من الخلفية، وشعر بالارتياح للنتيجة السريعة، حتي بدأت طبقة الورنيش تذوب تدريجياً مع قيامه بمسِّها مساً خفيفاً بقطعة من القطن ، واستعان بسكين الألوان ليزيح الطبقة البنية جانباً فتكشف عن اللون الأصلي للوحة، شجعه ذلك علي التوسع في عمليتي المس والإزاحة، حتي دخل إلي المناطق المركزية التي تمتلئ بتفاصيل الرسم الدقيقة، وأصبحت هناك تجمعات من المادة الكيماوية المتجلطة من الورنيش تستوجب كشطها بعيداً عن سطح القماش.. وهنا كانت الكارثة..
لقد تجمدت هذه التجمعات المتجلطة والتصقت بلزوجتها بسطح اللوحة، وكلما حاول إزاحتها وكشطها مستعينا بمزيد من المادة المذيبة ازداد طمسها لمناطق مجاورة، فكأنما يقوم بعملية تجريف للوحة، حتي أخذت تتحول إلي وجه قبيح ملئ بالتسلخات المرعبة والبؤر الصديدية.. أصابه الهلع من سرعة جفاف المادة المذيبة وشدة تماسك التجلطات الكيماوية، تاركة بجانبها مناطق مسلوخة من السطح الأساسي القديم لنسيخ اللوحة، فراح يضاعف من كمية المادة المذيبة، فإذا بها توسع مساحة المناطق المشوهة أكثر مما تساعد علي إزاحة التجلطات اللزجة عنها.. جن جنونه، وأخذ يلهث في محاولة مسعورة لمحاصرة مناطق التسلخات علي سطح اللوحة حتي لا تنتشر وتتكاثر كمرض جلدي خبيث، أخذ في جنونه يستخدم أصابعه لانتزاع الكتل المتجلطة اللزجة لتلتصق بها مهددة بتآكل جلدها، فاضطر إلي استخدام سائل "التنر" وهو الوحيد القادر علي إزالتها، لكنه أذابها ولم يُزلها فازداد الأمر سوءاً، وأصبح حائراً بين إنقاذ اللوحة أو إنقاذ أصابعه، وأخيراً نجح سائل "التربنتينا" في تنظيف أصابعه ويديه من المادة اللزجة.. وانتقل إلي اللوحة محاولاً أن يفعل شيئاً لإنقاذها، بينما يتصاعد بداخله شعور بغضب شديد، لا يعرف مصدره أو إلي أي شئ يوجهه، وفي حمأة غضبه خطر له أن يدفع بالمادة المذيبة علي اللوحة كلها فيطمسها، أو أن ينهال عليها بالسكين تمزيقاً.. لكنه استطاع أن يتمالك أعصابه، فتوقف عن أي فعل.
استلقي علي أحد المقاعد مغمض العينين وهو يحمل كل شقاء الدنيا فوق صدره.. بينما يتمتم وهو يدق المسند بقبضته بكل ما سيطر عليه من غضب: غبي!.. غبي!
5
ظل عدة أيام يتجنب رؤية اللوحة، أو حتي دخول الشرفة التي نقلها إليها، وكأن هناك جثة لحبيب اغتالته يده؛ لم تكن الضحية هي اللوحة بذاتها، بل كانت تاريخاً بأكمله، ماضياً جميلاً كان يحتفظ به لا يسمح بتشويهه حتي وهو يعلم بأنه لم يَخْلُ من تشوهات.. لقد أراد أن يزيل طبقة الورنيش النحاسية المؤكسدة باعتبارها العازل بين نقاء الماضي وبين عتامة الحاضر، ولم يدرك أن تلك الطبقة كانت هي منتجا مركبا للخمسين عاما التي مرت علي الماضي فجعلت منه خبيئة، والتصقت بجلده حتي توحد معها وأصبح من المستحيل محوها، فكان الصواب هو الإبقاء عليها كما هي، وهذا هو ما حاولت طبقة الورنيش أن تفعله للحفاظ علي الماضي، إلا أنها كانت من خامة رديئة أفسدت الماضي والحاضر وما بينهما، ولم يكن علاجها هو الإزالة.. ثمة شئ آخر كان ينبغي فعله بدلاً من ذلك لا يعرف ما هو.. والآن.. هل ضاعت اللوحة ضياعها الثاني والنهائي هذه المرة ؟!
6
أزف الوقت لإقامة المعرض، ووجد عاصم أن مأساة اللوحة عطلت برنامجه لإنهاء الترتيبات المطلوبة قبل الافتتاح، وعليه أن يتخذ القرار بإزاحة الموضوع برمته من رأسه حتي يستأنف العمل...
وقف أمام اللوحة المغتالة علي يديه، وهو ممزق بمشاعر الجاني والضحية معاً، واتخذ القرار الصعب باستبعادها من العرض.. وأثناء التجول ببصره فوق سطحها لمعت بين مناطقها المشوهة أجزاء سليمة وواضحة التفاصيل لوجهيْ الأب والابن وأجزاء من الأيدي والملابس الريفية، وكان الأكثر لمعاناً هو عيون الشخصين المسددة بقوة نحو الأمام إلي ما لا نهاية؛ برقت في ذهنه فكرة؛ إن اللوحة الآن لم تعد بنت الماضي أو الحاضر، إنما هي بنت روحه النفاذة عبر العيون الأربعة، الشاخصة نحو المجهول تريد أن تفُضَّ بكارته.. تلك اللحظة الملهمة دائماً بصيرورة الحياة نحو التقدم.
توهجت الفكرة علي الفور في جميع قدرات البصر والبصيرة التي يملكها عاصم، وهو يحمل اللوحة وينطلق بها نحو حامل الرسم، مقرِّراً أن يكسو المناطق المشوهة بقطع من الشاش أو النسيج الشفاف، يرش عليها ببخاخة الألوان درجات مموهة بكل الأطياف، كغشاء رقيق يبزغ بين ثناياه وجها الأب والابن، عيونهما إلي الأمام بقوة البصر والبصيرة، يخترقان بها غشاء الزمن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.