من الملاحظ جدا أن كل شخص عائد من السفر يظل لأيام يحكي عن تفاصيل رحلته.. ماذا رأي؟ ماذا حدث؟ من قابل؟ وكيف تم؟ و.. و.. عشرات التفاصيل التي يحلو له الحديث عنها لفترة قد تختلف من حيث الطول حسب طبيعة الشخص نفسه. أي طفل صغير ذهب في رحلة مع مدرسته لن يكف لفترة عن حكي ما حدث معه. وسيعود علي فترات زمنية متباعدة لتذكر تفصيلة صغيرة ما ليحكي عنها بعد ذلك باستفاضة. فكرة الانتقال من مكان إلي آخر تعد من أكثر الأفكار الثرية في الأدب.. وأنا هنا لا أتحدث عن أدب الرحلة.. بالمعني الحرفي.. الذي يمكن تلخيصه بشكل بسيط.. في أن العمل الأدبي يكون قائما في الأساس حول الرحلة ذاتها ورصد كل ما حدث فيها .. وقد نشط في الأساس علي أيدي المستكشفين والجغرافيين. أحيانا أخري كثيرة في الواقع تستخدم فكرة الانتقال أو الرحلة داخل العمل الأدبي كوسيلة للوصول إلي الهدف.. ولا تكون الرحلة نفسها هي محور الحدث... فمثلا نجد رحلة قامت بغرض البحث عن كنز في جزيرة (جزيرة الكنز) للكاتب الاسكتلندي (روبرت لويس ستيفنسون ).. أيضاً نجد رحلة قامت في رواية أخري بغرض الوصول إلي مكان جديد وتحقيق كشف علمي مثل (رحلة الي مركز الأرض) للكاتب الفرنسي (جول فيرن).. في أعمال أخري تحولت فيما بعد إلي أفلام سينمائيه ناجحة نجد رحلة قامت من أجل تحقيق رقم قياسي مثل (سبع سنوات في التبت ) للكاتب (هانيرش هارر) المجري الأصل. في الواقع الأمثله كثيرة علي هذا النمط من الأعمال.. التي تتخذ دائما سمة واحدة وهي مجموعة من الأشخاص يتوحد هدفهم وتختلف دوافعهم.. يجدون أنفسهم فجأة وسط كم من التحديات والمخاطر.. فيواجهون داخل حيز مكاني واحد، وفي الغالب ضيق الموت والمرض فتتلاشي علي مدي الأحداث خلافتهم وأحقادهم ويغلبهم الضعف الأنساني تجاه الحياة نفسها. هذا الأمر يختلف تماما أيضا عن فكرة الرحلة بغرض اكتشاف الذات.. لا أتحدث أيضا عن (ساحر الصحراء) ل (باولو كويلهو) أو الكثير من أعماله التي تناقش فكرة البحث عن الذات.. حيث بطل الرواية غالبا يدرك من هو جيدا، ولكنه لا يعلم أبدا ماذا يريد؟ ما هو هدفه في الحياة؟ فيخوض رحلة مكانيه أو زمانية يكتشف من خلالها ذاته ومن حوله. أما النمط الأدبي الآخر الذي تتخله فكرة الرحلة.. فهو الرحلة التي تقوم بغرض البحث عن الهوية.. وهنا أنا أتحدث بالتحديد عن (باتريك موديانو) روائي نوبل هذا العام .. فكرة البحث عن الهوية كانت دائما هي المسيطرة علي أدب موديانو .. دائما البطل يبحث عن جذوره.. يبحث عن هويته.. أو يبحث عن شخص مفقود.. فكرة البحث دائما تسيطر علي أعماله .. كما أن له أسلوب بسيط وسهل ومشوق يجعل عدم تعاطفك مع البطل مهما بلغت ذنوبه مستحيلة.. فكيف ممكن أن لا تتعاطف مع شخص لا يعرف أصلا من هو؟ من يكون ومن أين جاء .. فنجد في روايته (شارع الحوانيت المعتمة) البطل فاقد الذاكرة يستعين بأشخاص آخرين للوصول إلي هويته.. فيخوض رحلة طويل عبر مجموعة من المدن والعواصم ليعرف فقط (من هو؟) خلالها يصطدم بالعديد من المواقف، ويتعرض للكثير من الحوادث بهدف فقط أن يعلم (هويته).. كيف يكون شعور شخص لا يعرف حتي اسمه.. ولا يمتلك أوراقا تثبت هويته.. شخص بلا حقوق. أمر أشبه بالبحث داخل صندوق مغلق.. بحث بلا نتائج مقدما.. شخص لا يعرف من هو من المستحيل أن يعرف ماذا يريد .. هذه هي الخلاصة.. إعرف نفسك لتعرف حدودك علي الأقل. وليس حتي لتحدد أهدافك. هذه الأيام نعاني من حالة مستعصية من انعدام الهوية ولكن للأسف بدون أن نصاب بفقدان الذاكرة.. فنجد من يتنكر لهويته ووطنه ولغته .. يعيش أغلبنا في شارع طويل من الحوانيت المظلمة التي صنعنها بأنفسنا لأنفسنا.