عامان علي الرحيل. ولم تتكشف بعد أسرار قصيدة محمود درويش. ذهبت نجومية الشاعر، وبقيت نصوصه تزداد يوما بعد يوم ألقا وحضورا. كثيرون أرادوا بعد الرحيل الشاعر أن تدجين " الشاعر"، جره إلي أرضيتهم.. ولكنه في حياته كان يهرب دائما، من صورته لدي الجماهير والنقاد ، وبعد موته هربت قصيدته من محاولات " التطويق" .. لم تنجح محاولات " إسرائيل" في تحويله من رمز للمقاومة إلي " داعية " سلام، ولم تنجح محاولات منتقديه في تصويره شاعر " سلطة" ..ولم تنجح محاولات السلطة الفلسطينية في تطويقه وكأنه جزء منها..هكذا لم تتحول كل المشروعات التي أعلنت لتكريمه بعد الرحيل إلي واقع ملموس.. لم يتحول بيته إلي متحف ..ولا تزال العديد من أعماله أسيرة المجلات والجرائد لم تجمع في كتب. هكذا هربت قصيدة درويش من كل محاولات التدجين ... فصاحب " جدارية" كان يدرك أنّ قوته الحقيقية "لغوية" بالأساس. وكان مسكوناً بهاجس التعبير عن ذاته " في محيطها وجغرافيتها المحددين" من دون أن ينتبه إلي تقاطع تلك الذات مع وجدان الجماعة. هكذا تقاطعت تجربته الشخصية مع قصة شعب كامل اقتُلع من المكان والزمان، فوجد القراء أنفسهم في صوته الشديد الخصوصيّة. في وقت مبكّر، وتحديداً عندما أطلق صرخته علي النقاد " أنقذونا من هذا الحب القاسي"، انتبه إلي أنه "لا يمكن أن يظلّ كل شعرنا وأدبنا وموسيقانا وفننا التشكيلي محصوراً في علاقة الأنا والآخر علي هذا المستوي الصراعي. يعني أن يكون الإنسان الفلسطيني لديه حياة إنسانية... وأحزانه الشخصية التي ليست شرطاً أن تكون ناجمة عن قضايا كبري" . وهكذا كتب عن الحب، والموت ..وأسئلة الوجود الكبري... باختصار أنقذ درويش قصيدته من " التعب الجمالي" الذي يمكن أن يصيبها تحت وطأة الراهن الفلسطيني. نحتفي هنا بدرويش من خلال نشر بعض المقالات شبة المجهولة تقريبا.. يكتب فيها عن شخصيات معظمها من مصر .. عن هيكل والسادات أو حكاية الكاتب والأمير ، عن صلاح جاهين وأمل دنقل ، نجيب محفوظ وأم كلثوم..ومقال نادر عن لاعب الكرة الأرجنتيني مارادونا .. كل هذا بينما يعلمنا درويش كيف نصنع قهوتنا ..لأن من يجيد صناعة القهوة يمكنه أن يحرر وطنه!