لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    اليوم.. «محلية النواب» تناقش طلب إحاطة بشأن إزالة 30 عقارًا بالإسماعيلية    الريال السعودي يواصل التراجع مقابل الجنيه بالبنك الأهلي اليوم الثلاثاء    بنك مصر يوقع عقد قرض طويل الأجل ب 990 مليون جنيه مع إيديتا للصناعات الغذائية لتمويل خطوط إنتاج جديدة    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم    محافظ جنوب سيناء: نسعى للنهوض بالسياحة العلاجية وشرم الشيخ تتميز بتنوعها السياحي    طهران تصدر تحذيرات مشددة للدبلوماسيين الإيرانيين في الخارج    آخر مستجدات جهود مصر لوقف الحرب في غزة والعملية العسكرية الإسرائيلية برفح الفلسطينية    مبعوث أممي يدعو إلى استئناف المحادثات بين إسرائيل وحماس    زلزال يضرب محيط مدينة نابولي جنوبي إيطاليا    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    10 لقطات لا تنسى في موسم الدوري الإنجليزي 2023-2024 (صور)    رقم تاريخي لعدد أهداف موسم 2023/24 بالدوري الإنجليزي    الحالة الثالثة.. التخوف يسيطر على الزمالك من إصابة لاعبه بالصليبي    بشير التابعي: معين الشعباني لم يكن يتوقع الهجوم الكاسح للزمالك على نهضة بركان    أول صور لحادث سقوط سيارة من أعلى معدية أبو غالب في المنوفية    بالأسماء، إصابة 18 عاملًا في انقلاب ميني باص بالشرقية    موعد عرض مسلسل دواعي السفر الحلقة 3    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    جهات لا ينطبق عليها قانون المنشآت الصحية الجديد، تعرف عليها    التأخيرات المتوقعة اليوم فى حركة قطارات السكة الحديد    موعد إجازة عيد الأضحى 2024 في مصر: توقيت وقفة عرفات وعدد أيام العطلة    تراجع سعر الفراخ البيضاء واستقرار البيض بالأسواق في منتصف الأسبوع الثلاثاء 21 مايو 2024    حمدي الميرغني يحيي ذكرى رحيل سمير غانم: كنت ومازلت وستظل أسطورة الضحك    تعليم الوادى الجديد تحصد المركز الثامن بالمسابقة البحثية للثقافة الإسلامية    بعد رحلة 9 سنوات.. ماذا قدم كلوب لفريق ليفربول؟    جامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية تنهي كافة الاستعدادات لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    ننشر بالأسماء ضحايا حادث العقار المنهار بالعياط    براتب 5000 جنيه.. وزارة العمل تعلن عن وظائف جديدة بالقاهرة    قبل طرحه في السينمات.. أبطال وقصة «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    عاجل.. مصرع شاب إثر غرقه بمياه نهر النيل بمنشأة القناطر    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: صناعة الدواء مستقرة.. وصدرنا لقاحات وبعض أدوية كورونا للخارج    وزير الصحة: مصر تستقبل 4 مواليد كل دقيقة    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    المقاومة الفلسطينية تستهدف قوات الاحتلال قرب مفترق بلدة طمون جنوب مدينة طوباس    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق شقة سكنية بالعمرانية    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    رفع لافتة كامل العدد.. الأوبرا تحتفي وتكرم الموسيقار عمار الشريعي (تفاصيل)    مصطفى أبوزيد: تدخل الدولة لتنفيذ المشروعات القومية كان حكيما    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    على باب الوزير    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضحايا يوسف إدريس .. تشيخوف وكتّاب عصره
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 08 - 2015

لم يكن أنطون تشيخوف جديدا علي الحياة الأدبية عندما ارتفعت نبرة الواقعية في الأدب، ورفع لواءها مجموعة أدباء من اليسار، ودشّنوا لترجمة الأدب الروسي المعاصر، خاصة كتابات مكسيم جوركي وأنطون تشيخوف، وكان من أوائل المترجمين الذين نقلوا أنطون تشيخوف إلي اللغة العربية، الكاتب والأديب والمترجم محمد السباعي، وذلك في عشرينيات القرن الماضي، أي بعد رحيل تشيخوف بنحو عشرين عاما، أو أكثر قليلا، وكانت صحيفة البلاغ الأسبوعية، تنشر تلك الترجمات بشكل أسبوعي، وفيما بعد قام الاديب يوسف السباعي، ابن محمد السباعي، بجمع مختارات من ترجمات والده، ونشرها في مجلد ضخم، ضم أربعة وعشرين قصة لتشيخوف، وهي من عيون ماكتب ، ولم يكن الهاجس الذي دفع السباعي الكبير إلي ترجمة تشيخوف، هاجسا اشتراكيا أو ثوريا،ولكن الذيوع الفني الذي حققه تشيخوف منذ بدايات القرن، كان عاملا أساسيا للترجمة.
كذلك كانت الثورة السوفيتية التي قامت في أكتوبر عام 1917، عاملا آخر في ترويج الأدب السوفيتي خاصة، والروسي عامة، لذلك وجدنا بضعة قصص لمكسيم جوركي واسكندر بوشكين وإيفان تورجنيف وديستوفيسكي، ضمن المجلد الذي نشره السباعي الابن، ولكنها قليلة جدا بالمقارنة بقصص تشيخوف.
وفيما بعد جاءت ترجمة أخري ممتازة، لمحمد القصاص، وهي الترجمة التي تناولتها أجيال عديدة، لأن الترجمة ماهي إلا وجهات نظر تقترب أو تبتعد من روح النص الأصلي، وكان القصاص قادرا علي نقل روح قصص تشيخوف بشكل دقيق وممتع، ولو أجرينا مقارنة بين القصص التي ترجمها السباعي، والقصص ذاتها التي ترجمها القصاص، سنلاحظ أن القصاص كان بارعا ومتفوقا بمراحل علي سلفه السباعي، وذلك في اختيار المفردات التي تناسب المواقف التي كانت تسوقها عبقريات تشيخوف في قصصه.
ومن هذا نستطيع أن ندرك أن الانحياز إلي الأدب الواقعي كان قائما بالفعل، وهذا ينفي ماكان يردده نقاد كثيرون، بأن القصة المصرية قبل الخمسينيات، كانت قصة مخملية، وتتحدث عن القصور والباشوات وملّاك الأراضي الكبار، كما أن القضايا التي كانت تشغل كتّاب ماقبل الخمسينيات، قضايا مترفة وناعمة، ولا تقترب من الواقع بأي شكل من الأشكال، ولو تأملنا الكتابات القصصية المؤلفة لمحمود طاهر لاشين وأحمد خيري سعيد ومحمد أمين حسونة وشحاتة عبيد ويحيي حقي، ثم محمود البدوي وسعد مكاوي وأمين ريان ومحمود كامل المحامي وعبدالرحمن الخميسي وغيرهم، سنلاحظ أن خيطا واقعيا يتسلل بين ثنايا القصص، هذا الخيط ربما لم يصبح ظاهرة، ولم يتحول إلي شعار إلا في خمسينيات القرن الماضي، هذا العقد الذي ظهرت فيه مجموعة كبيرة من كتاب القصة، علي رأسهم نعمان عاشور وألفريد فرج ومحمد سعد الدين وهبة وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف ادريس وبدر نشأت ويوسف الشاروني وغيرهم.
وفي البداية أصدر نعمان عاشور مجموعته القصصية الأولي "حواديت عم فرج"في أوائل عام 1954،وكتب لها مقدمة نقدية طويلة، هذه المقدمة كانت البيان الأول لأحد المبدعين الجدد في حقل الواقعية، وعمل عاشور علي تقديم بانوراما شاملة للكتابة السردية منذ محمد المويلحي، مرورا بابراهيم المصري وتوفيق الحكيم ومحمود البدوي وغيرهم، حتي الوصول إلي الكتاب الجدد، الذين سيحررون السرد من ترهله المفرط، ورغم أن نعمان عاشور ذكر كثيرين من كتّاب الماضي، إلا أنه لم يرد ذكر أي من الكتاب الجدد، هؤلاء الكتاب الذين ارتبط وعيهم الفني، بوعي اجتماعي حاد، وأسهب كثيرا في تحديد قسمات وملامح للقصة الواقعية الجديدة، دون أن يذكر مرجعيات من الضروري أن يعود إليها الكتاب الجدد، ولكن من اللافت للنظر أن نعمان عاشور، كان يكتب سلسلة دراسات ومقالات في صحيفة المساء، كتب فيها عن أهمية تشيخوف ومكسيم جوركي.
ورغم الحماس الزائد الذي أبداه نعمان عاشور في كتابة القصة القصيرة، ورغم الجائزة الأدبية المرموقة التي لعبت دورا كبيرا في تقدير الجميع له، إلا أنه ترك كتابة القصة القصيرة واتجه إلي كتابة المسرح، ويكتب صالح مرسي في مذكراته قائلا :(في السنوات الأولي من حياتي الأدبية، التقيت ذات مساء بالكاتب المسرحي نعمان عاشور..وكان نعمان رحمه الله نوعاً من البشر الذي يطلق آراءه دون تحفظ أو مجاملة ..وكان قد أصدر في ذلك الوقت، مجموعة قصصية واحدة بعنوان "عم فرج"،ثم أعطي ظهره للقصة القصيرة نهائيا، واندفع نحو المسرح، كي يضع اللبنات الأولي في تلك النهضة المسرحية التي شهدها النصف الثاني من العقد الخامس، والنصف الأول من العقد السادس، من هذا القرن أي القرن الماضي،كان قد قدم "الناس اللي تحت"و"المغماطيس"..عندما سألته ذات مساء، كنا نقف في باحة المسرح القومي أيام كان المسرح يمثّل صرحا فنيا رفيعا بحق، وكان هذا المسرح يستعد في تلك الأيام لتقديم مسرحيته "الناس اللي فوق".. سألته ليلتها ..لماذا كف عن كتابة القصة القصيرة، فإذا به يندفع في القول :"قصة قصيرة يه؟!..إزاي أكتب قصة قصيرة وفيه يوسف ادريس"،وهنا يعقّب صالح مرسي بما يشبه القاعدة أو القانون قائلا :"كان نعمان عنده حق تماما فيما يقول .. ذلك أن يوسف ادريس في القصة القصيرة بالذات كان شيئا متفردا، لا بالنسبة لجيله فقط، وإنما بالنسبة للقصة القصيرة منذ أن كانت في العالم العربي وحتي الآن".هذا الآن الذي يقصده صالح مرسي، كان بعد رحيل ادريس بسنوات قليلة، ولن أعلّق بالطبع علي هذا التدشن الأبدي ليوسف ادريس، والذي يمكن أن يختلف عليه كثيرون، وعلي سبيل المثال فالناقد فاروق عبد القادر يري أن الذي سوف يتبقي من يوسف ادريس، خمس قصص فقط، وهذا في رأيي رأي مفرط كذلك،ولا تحكمه سوي العاطفة الأدبية، وتبدو أن مشكلة التعميم هي التي تخطئ من فرط الحماس سلبا أو إيجابا.
ولو عدنا إلي أنطون تشيخوف، سنلاحظ أنه لا يوجد اسم، ارتبط تاريخيا من الكتاب العرب والمصريين، كما ارتبط به يوسف ادريس، وهذا بحكم كثرة الاستدعاءات له في الحوارات والأحاديث والاستشهادات، للدرجة التي دفعت يوسف ادريس أن المرة الوحيدة في حياته التي قام فيها بترجمة قصة، كانت قصة لأنطون تشيخوف، وهي قصة "زوجة الصيدلي"، ونشرها في مجلة "قصص للجميع" في مايو 1952،وهي ليست مدرجة في أي ببلوجرافيا من التي نشرت في السياقات التي تناولت سيرة حياته.
وفي حوار لغالي شكري معه نشر في مجلة حوار في ديسمبر عام 1965بمناسبة فوزه بجائزة المجلة، وستكون لنا العودة لتلك الجائزة، يقول في الحوار "لقد خضت مع تشيخوف بالذاتتجربة، فعلا، ذلك يعني أنك عندما تقرأ تشيخوف، فإنك تصبح شئت أم أبيتتشيخوفيا، ولهذا، فعندما حاولت الكتابة بعد قراءتي لأعماله، أحسست أن رؤيته قد فرضت نفسها عليّ، ولكن برهافة إلي حد أنني كنت الوحيد الذي لاحظ ذلك، وطالما أن الأصالة تستند علي الرؤي الأصيلة، كان عليّ أن أناضل لأحرر نفسي من السيطرة القاهرة التي فرضتها رؤيته وأفكاره علي أعمالي، لقد كانت معركة شرسة ومريرة كلفتني عاما كاملا تقريبا هو عام 1955".
وفي حديث أدلي به للمستعرب م.ب كربر شوبك، والذي كتب "الإبداع القصصي عند يوسف ادريس"،وترجمه إلي العربية الشاعر رفعت سلّام، يقول ادريس عن كثر مااستوقفه في قصص تشيخوف "المفارقات الكوميدية بتناقضاتها الظاهرية الناعمة، غير الواضحة .
ورغم أن أحاديث يوسف ادريس لا تخلو من ذكر تشيخوف علي اعتبار أنه المؤثر الأعلي في كتاباته، إلا أنه كان يحلم دوما بتجاوزه، وتقديم ما لم يقدمه، وهو يري أنه قرينه الأكثر حضورا في العالم، وكان يري أن أي كاتب قصة قصيرة في العالم، لا بد أن يكون قد تأثر بتشيخوف.
وانسحب هذا الشعور علي يوسف ادريس عندما كان في لجنة تحكيم مسابقة القصة القصيرة، التي نظمها نادي القصة عام 1956، وكانت اللجنة مكونة من يوسف السباعي، ويوسف ادريس، ومحمود تيمور، وكانت القصة التي فازت بالمركز الأول هي قصة "الطفل" للكاتب رؤوف حلمي، ونشرت القصة في مجلة "الرسالة الجديدة "في نوفمبر 1956، وجاءت كلمة المحرر تقول: "هذه القصة كانت اللجنة قد استبعدتها من الفوز بالجائزة الأولي، ثم تشكلت لجنة خاصة من الأستاذين يوسف السباعي ويوسف ادريس، واستقر رأيهما علي أن تكون هي القصة الثانية مكرر"،أما التقارير التي كتبها أعضاء اللجنة تقول، "يوسف السباعي: قصة ناعمة ذات تحليل لمشاعر الطفولة" أما يوسف ادريس فقد أعطاها 9 درجات 10، وجاء ضمن تقريره :"ولو أن الفكرة غير جدية، فقد طرقها تشيخوف، إلا أن العرض جيد جدا، والكاتب لديه استعداد طيب"،كما أن محمود تيمور أعطاها 9 درجات أيضا وقال عنها :"قصة عظيمة أثبت مؤلفها أصالة في فن القصة، لكأنها إحدي قصص تشيخوف، يجب الوثوق من أنها ممصرة".
وعندما نشرت القصة في المجلة، نشر بمصاحبتها تعليق أو نقد ليوسف الشاروني، ينفي فيه علاقة القصة رقم 145 بتشيخوف علي وجه الإطلاق، فكتب قائلا مخاطبا كاتب القصة ذاته: "أولا دعني أهنئك وأهنئ نفسي لأن الطالب الذي كان يجلس أمامي
منذ عامين في مدرسة الظاهر الثانوية ونكتشف موهبته الفنية قد نال اليوم أكبر فوز يناله ناشئ مثله، حتي أن اللجنة النهائية في مسابقة القصة وجدت أن الجائزة الأولي أقل مما تستحق قصتك فرفعتك عن مستوي المسابقة كلها وقرنت اسمك باسم تشيخوف، وهو أمر كما نعلم له مغزاه العميق بالنسبة لك ولقصتك الممتازة، ولا سيما وانت علي يقين كما أنا علي يقينانك لم تقرأ قصة تشيخوف التي يتهمونك بالسرقة منها، بل أنت لم تقرأ تشيخوف كله، وهذا لا يعيبك فأنت لا تزال في التاسعة عشرة من عمرك، وأمامك زمن طويل لتقرأ تشيخوف، وما أعظم أن يشهد لك كل من الأساتذة محمود تيمور ويوسف السباعي ويوسف ادريس بالإجماع علي امتياز قصتك، لولا أن بعض الظن إثم، ولقد كان الظن في قصتك إنما كبيرا حقا..أما قصة تشيخوف التي يتهمك الدكتور يوسف ادريس بأنك نقلت منها فكرتك، فسأرويها عليك لتعرفها، هي قصة حوذي مات ابنه وأراد أن يفضي بأحزانه إلي انسان من زبائنه ..."،ويسترسل الشاروني في سرد تفاصيل القصة المعروفة، وينفي أن هناك أي شبه بين قصة تشيخوف، وهنا يطرح
الشاروني سؤالاً يقول فيه :"هل يكفي أن تكون عينا يوسف ادريس في لون عيني محمد عبد الحليم عبدالله ؟!"،وهو يقصد أن افكرة من الممكن أن تكون متشابهة، ولكن المعالجة مختلفة، وهنا يلق الشاروني قائلا غامزا يوسف ادريس علي وجه الخصوص فيقول :"ومن الغريب أنه لم يقفش هذه القفشة الأساتذة يوسف السباعي وثروت أباظة ومحمد مندور وجاذبية صدقي الذين اشتركوا في تقدير القصة، ولقد قرأت هذه القصة قبل أن تتقدم بها إلي المسابقة ونصحتك بأن تتقدم بها، ومع أني قرأت قصة تشيخوف، إلا أنني لم أربط بين القصتين علي الإطلاق، لا كما أربط بين قصة الأم" لجوركي، و"قصة حب ليوسف ادريس، ولا شك أن في ذلك تعسفا تأباه نزاهة التحكيم "،وفي آخر المقال يقول الشاروني :"إنني أتهم اللجنة النهائية بالتسرع في استبعاد قصتك، وأطالب باستدعائك ومناقشتك لتعديل الخطأ الذي حدث ..."، ويستمر الشاروني في توضيح كافة الملابسات التي أحيطت بالقصة، لتعيد اللجنة تقريرها، ومنح رؤوف حلمي الجائزة الأولي كما كانت.
ويبدو أن الأمر بين الشاروني ويوسف ادريس بسيطا، ولكن الأمر كان أعمق من ذلك، فالذي يتابع صدور مجموعتي "أرخص ليالي" ليوسف ادريس، و"العشاق الخمسة" ليوسف الشاروني"،سيلاحظ أن الاحتفاء الذي صاحب مجموعة يوسف ادريس، كان مهولا، وهذا تبدي في مجلة روز اليوسف، هذه المجلة التي كان يعمل فيها معظم رفاق يوسف ادريس السياسيين، مثل صلاح حافظ ومحمود أمين العالم وأحمد عباس صالح الذي كتب عن المجموعة فور صدورها، ولطفي الخولي، بينما لم تجد مجموعة "العشاق الخمسة" ما يشبه أو يقترب من ذلك الاحتفاء، وكانت تخصص المجلة إعلانات علي صفحة كاملة لتعلن عن قرب صدور مجموعة "أرخص ليالي"،وهذا انفراد ليوسف ادريس، لم يضارعه فيه حينذاك سوي نجيب محفوظ.
وبالطبع فالصراع الذي كان يدور بين ادريس والشاروني، هو حول الطريقة التي كان يقرأ بها كلاهما أنطون تشيخوف، ويريد الشاروني ليوسف ادريس :"إنك لا تحتكر قراءة أنطون تشيخوف"،وفي الحقيقة كانت كلمة يوسف ادريس هي الأمضي، وهي الأكثر نفاذا، وهو الذي قلب الترابيزة منذ البداية، وأعاد تشكيل اللجنة مرة أخري بعد استبعاد الأسماء التي ذكرها الشاروني في سياق مقاله .
وإذا كان الصراع هنا، أخذ شكلا عمليا، واختصر في قصة قصيرة، ولكنه صار أوسع فيما بعد، وبالفعل احتكر يوسف ادريس بالاقتران بأنطون تشيخوف، والذي كانت أسهمه هي الأعلي في عصر الواقعية، واعتبر ادريس بأنه الامتداد الطبيعي والفني والعالمي لأنطون تشيخوف، ولم يفوّت يوسف ادريس فرصة ليتحدث فيها عن نفسهعندما يطلب منه ذلك، وكثيرا ماكان يطلب لذلكإلا وذكر أنطون تشيخوف، باعتباره الكاتب الأول في العالم، بل في التاريخ، وإذا كان له أحلام في إنجاز كتابة عظيمة، فلا بد أن يتجاوز بالمعني الفني أنطون تشيخوف.
وبالطبع ظل يوسف الشاروني يعتمد علي إبداعه فقط، دون التذرع بفريق سياسي يرسم له ذيوعه أو الدعاية له، وإن كان الشاروني لم يمتنع عن أن يكتب عن تجربته أكثر من مرة، وعندما طلب منه يحيي حقي الكتابة عن القصة القصيرة في أغسطس عام 1966، في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة "المجلة" والخاص بالقصة القصيرة، كتب الشاروني نظرات نقدية في مجموعتيه "العشاق الخمسة"و"رسالة إلي امرأة". وأعتقد أن اسم يوسف ادريس، كان يتصدر الترجمات والمؤتمرات ولجان التحكيم، وكانت كل الروقة تعمل له ألف حساب، وليس دليلنا علي ذلك مسألة إيقافه للدرجة التي حاز عليها أحد الفائزين بجائزة ما، ولكن تأمل مسيرة ادريس سنلاحظ ذلك التأثير الواسع الذي كانت تحدثه كلمات يوسف ادريس في كل المجالات.
وليس تقليلا علي وجه الإطلاق من قيمة يوسف ادريس، ولكن الانشغال الأسطوري به وبكتاباته المتنوعة من قصة قصيرة ورواية ومسرح ومقالات وكتب سياسية، عطّلت الانشغال بأي كتاب آخرين، وكان لا بد أن يمرّ عشرون عاما، لتلتفت الحركة النقدية بشكل واسع وملحوظ، بكتاب من طراز يوسف الشاروني وادوار الخراط وفاروق منيب وغيرهم.
في العدد القادم قصة زوجة الصيدلي أنطون تشيخوف
ترجمة يوسف إدريس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.