إشغال طريق الزمن: (أوائل التسعينات) كان دكانه بجوار دكاننا تعلوه اللافته المألوفة... (محل عطارة أبو ضيف) وبجوارها وبخط صغير (1000 صنف).. برغم أنه لا يوجد فيه حتي عشر هذا الرقم. كان يبدو كخزانة عملاقة من الخشب في حائط شارعنا وأمامه منضدة قديمة لا تغري سرقتها بينما عم "أبو ضيف" بظهره المنحني ووجهه النحيل وجسده الضئيل يجاهد كل يوم ليحرك المنضدة ليفتح محله ويخرج أدواته ويضعها عليها ويسعي في طلب رزقه. كنا كذلك منذ سنوات وسنوات لا يعكر صفونا شئ منذ كنت في السادسة من عمري وأنا أراه في نفس المكان وأشاهد الفتيان الحسان والنساء اللواتي يقضين نصف اليوم في حديث طويل أمام دكانه.. كأنما جئن للكلام لا للشراء! كان جدي قد بلغ من العمر أوجه فهو في الخامسة والستين اشتعل رأسه شيباً.. ووجهه ذو الملامح المصرية الأصلية ينبئ عن رجل مكافح بدأ بعربة يدفعها بيده ومجموعة من الأكواب ليصل إلي دكاننا الحالي الضخم في تلك الأيام الصعبة كانت كل لمسة من يده لمسة فنان خبير رغم أميته فيضع تلك هنا وهذه هناك ويقول دائماً: (أن مظهر الشئ هو نصف قيمته). كانت كل أيامنا تمر كذلك علي نفس المنوال بيع وشراء وخناقة ضخمة في قهوة "أبو سريع المجاورة" ومعاكسة لبعض الفتيات من اللواتي يخرجن من مدرسة التجارة المجاورة. وهكذا كل أيام شارع صدقي الشعبي إلي أن جاء ذلك اليوم.. فجأة وجدنا سيارة كنت أعرفها تمام المعرفة إذ أنها دائماًِ تطارد الشباب سيارة زرقاء اللون تحمل ستة من الشرطة مدججين بالسلاح كأنهم في موقعة حربية بينما يجلس علي الكرسي الأمامي ضابط شاب يأمر وينهي ويقابل عربة كارو محملة بالفاكهة ويأمر بإبعادها وإلقاء صاحبها الرجل المسكين في سيارة الشرطة بينما يرمقه الضابط بازدراء وبغطرسة ويتقدم الضابط نحو جدي... وجدي يخبر هذه النوعية من البشر ويخبر كيفية التعامل معهم. وأذكر تلك المناقشة الكبيرة التي دارت منذ شهور عندما عين ذلك الضابط في شارعنا وحاول أفراد الأمن إلقاء حاجتنا في الشارع لتعدينا علي حد قوله علي الشارع العمومي. لكن جدي لم يرهبه! ودار النقاش طويلاً فقد كان ذلك الضابط يعرف قيمة جدي في الشارع وقوة أتباعه وتأثيره علي محيطيه وسطوته بين أشياعه فتركنا وهو لم ينل مراده. وها هو الآن يمر بنا مر الكرام وهو يشير إلي جدي بطرف يديه وأسنانه تكظم من الغيظ. إلا أن عينيه وقعتا علي عم "أبو ضيف" الضعيف وإذا به ينفش ريشه ويهبط ليأمر عم أبو ضيف المسكين بالابتعاد عن الشارع وعم "إبو ضيف" يقف ناظراً إليه في بلاهة.... فدكانه لا يمكن أن يصل إلي الشارع فدكانه ضيق لدرجة أن ضباط الشرطة لا يعيرونه أي اهتمام. إلا أن الضابط لم يصبر علي عم "أبو ضيف" إذ أسرعت يداه وقدماه تركلانه حتي سقط علي الأرض ثم أمر جنوده الذين أسرعوا كالذئاب فنهشوا الدكان الآمن وفرشوا بمحتوياته الطريق... ثم ابتعدوا مسرعين. وإقتربت بمنديلي من عم "أبو ضيف"... أمسح عنه الدم المسال من طرف شفته....فلم أنس كمية البلح الوفيرة التي كان يعطيني إياها كلما رآني.وناديته بصوتي الخائف.. وكررت ندائي عدة مرات... لكن عم أبو ضيف... علي غير عادته.. لم يرد علي ! فنجان قهوة سادة (منمنمات) خطوة صغيرة كانت خطوة صغيرة في الطريق تذكرت وحدتي وهزيمتي ووجهها الأسمر الذي كان. أغنية ثوب أسود في أبيض مزركش والرجل علي يسارها وبوق قديم للغاية تأتي منه أغنية لفتاة أجنبية مشهورة. كانت الأغنية تقول:- تبا للرجال.. تبا للرجال. أحنت المرأة رأسها. نرجسية ابتسامة واسعة متفائلة وقد تدلت خصلة من شعره الأسود علي جبينه فمنحته منظراً يليق بوسامته الفائقة.... نظر في ساعته خيل إليه وجهها (من كانت تهبه كل الحب)... غابت الابتسامة عن وجهه. تابلوه اللوحة في المتحف متألقة رسامون موهوبون يتأملونها... ويعجبون بها.. كانت الأحجية تقول:- ارسموها. (كل شئ يبدو سهلاً.. لكن هي صعبة المنال) اللوحة حازت أعلي المبيعات اعتقد الجميع أنها الأروع جاء الفنان وصفقوا له أحس ساعتها بالحنين إلي لوحته التي مسوا بكارتها. سبعيني في السبعينيات كان كل شئ حلواً:- انتصار كبير وألوان مبهجة... وأفلام لناهد شريف.. وعبد الحليم يغني:- لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت! وأنا وحدي كنت السبعيني الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين. حرب دبابة.. تطلق قذيفة.. الصحراء واسعة.. النيران في كل مكان... جرح في مكان ما... وأنات طفل يبكي والده في مكان آخر. ذبح ينحرونهم مثل الإبل... والبحر ممتد.. كيف لإنسان أن يفعل ما فعلوه؟! تحدق بنا عيون الشر.. والشفرة محدودبة ومسنونة بشكل الزمن يتلو كل رجل فيهم صلاته... تظهر في أعينهم وأعين أهاليهم كلمة (لا). شيخ من خلفه المروج الكثيرة يعتلي ربوة ويحملق في محدثه أكل الزمان عليه وشرب شعر لحيته أبيض يرتدي ملابس رمادية... عيناه ضيقتان ومن خلفه كان المذياع يذيع بصوت عبد الباسط "وللآخرة خير لك من الأولي". الساقي ذو العين الواحدة قنينة خمر... والساقي بعين واحدة والأخري عليها عصابة سوداء وفتاة بسيجار طويل تحتسي ما في القنينة برشفة واحدة... ثم تجثو عند ركبة الساقي ذي العين الواحدة....وتتلو صلاة وثنية.. ثم ترفع بيدها العصابة وتقبله في اشتهاء. فرحة أعطته البنت نصف الجنيه... فأعطاها "غزل البنات" فرحت البنت نظرت في الكيس بعد أن التهمت ما فيه فوجدت ورقة من فئة المائتي جنيه بتقليد جيد.... أعطتها لأبيها.. فقال لها:- آه لو كانت حقيقية وابتسم في وجهها. البرئ كل يوم... يصحو من نومه... خائفاً... مرتعداً... من أنه سيكون يوم الإعدام في صلاته يردد:- يارب.. يارب... أنا برئ طلعت الشمس وسقط ضوء منها فوق مكان سجوده. قصيدة أكمل القصيدة... نظر في مرآتها... فوجد نفسه، فخرج سعيداً، يمرجح قدماً، تسبق الأخري، كعادة أيام الطفولة شاكيرا مؤخرتها في وجه الجميع تقلد شاكيرا حتي أن لها نفس الاسم وإن كان اسم شهرة اختارت النقطة الصحيحة في زماننا هذا.. لتر كل منها الهدف في ملعب الحياة! المسافر في دروب الناس مثل الطيور يطير.. لكن في قفص مثل الطيور يغني... لكن لأليف وحيد مثله وأيضا مثل الطيور.. مات دون أن يحس أحد البشر. قتل أجثو علي ركبتي أحدق في عينه... لماذا تقتلني؟! أنا مثلك... إنسان نظر في عيني بدوره... وقال في برود:- أنا لم أعد إنساناً. الشاب لحيته مهذبة... عيناه ضيقتان... يمسك باقة من الورود الحمراء... يلقيها أسفل قدميه.. ويطؤها بحذائه.... لم يجد من تستحقها! قافلة الشهداء هو ميدان التحرير... الألعاب النارية في السماء الشهداء بالمئات يروون الميدان بدمائهم العلم ذو الثلاثة ألوان.. يرفرف أعلي من كل الرؤوس.. رؤوس البشر.. وأنصاف الآلهة من الزعماء. صرخ أحدهم من طرف الميدان... صرخة سمعها الجميع وتيقنوا معناها. طوبي لمن ذهب.. وأهلا بمن جاء! فنجان قهوة سادة اعتاد في الأيام الآحاد... الخروج من عمله مبكراً والذهاب إلي مقهي مجاور في أطراف الميدان ليحتسي فنجان قهوته بدون سكر. كان الجميع يتحدث الثورة فشلت الثورة نجحت 50٪ مازالت الثورة مستمرة باستمرار الحياة. أعجبته العبارة الأخيرة... فأحس بمذاق لقهوته. بجوار الرصيف كانت كعادتها تبسط كامل جسمها الواهن بجوار الرصيف جسد مسجي لا حول له ولا قوة أنهكه وأذله الروماتيزم اللعين. وقفت أنظر لها وهي تتلقي العملات قليلة القيمة والسيارات تمر علي بعد سنتيمترات قليلة منها. ثم نزلت من الرصيف وعبرت الشارع نحو مبتغاي وكان الوقت صحواً.. والساعة تدق الحادية عشرة والمارة هنا وهناك يتدافعون... بينما شهدت عن بعد.. ذلك الصبي الصغير. وهو يأتي إليها بكوب الشاي الأسود الكامل السواد ويضعه بجانبها علي الأرض ثم يبتعد مسرعاً ولم أرها وهي تعتدل نصف اعتداله لتحتضنه بيدها وتصبه في جوفها... هي هكذا دائماً ممددة بجانب الرصيف كأنما فارقت الحياة ثم شاهدت تلك الغادة الحسناء تعبر الشارع بخصرها النحيل وشعرها الأصفر يتطاير حولها وآلاف التعليقات تغمرها. والسيارات الفارهة تتهادي حولها ثم تتوقف لتعبر الغادة الحسناء وهي تبتسم ابتسامة واسعة تخلب القلوب. أدرت رأسي نحو مبتغاي وابتعدت قدماي بسرعة وأنا أتخيل في داخلي هذه الفتاة المترفة.. المنعمة وهي ترقد هناك. بجوار الرصيف!