كان يوماً مرهقاً بالنسبة لي... كلفني الأستاذ محمد فهيم المدير بمهمة مراجعة أسماء المواليد الواردة اليوم، واستيفاء البيانات وتسجيلها وإرسالها إلي القاهرة، قائلاً بصوته الرخيم: - يا أستاذ وليد!! استلم مكان الأستاذ شوقي بالإضافة لشغلك بدءاً من النهارده، لأنه مش جي علي ما يبدو.. العمل لم يكن شاقاً بقدر ما كان رتيباً أكثر من أي يوم مضي. في الحقيقة يزداد الأمر رتابة كل يوم عما سبقه. بذلت جهداً كبيراً لإقناع شوقي زميلي أن يعدل عن مسألة الاستقالة فلم أنجح، ربما لأنني أنا نفسي لم أكن مقتنعاً من داخلي بما أقول. بالكاد اهتدي أن يحصل علي إجازة بدون مرتب فنفذ بلا توان. وتركني أقوم بأعماله التي أشبعته مللاً من قبلي، حتي يتم تعيين موظف جديد وللل.. و .... تقريباً في منتصف الظهيرة، عندما بدأت الشمس تصب قيظها الحارق علي الأنام علي امتداد البصر، وعلي مشارف السكة الزراعية فينمل يلي شجرة الصفصاف القديمة، انشق الغبار عن جندي انجليزي يعتلي صهوة جواده الضخم الممتلئ. انتصبت في مواجهته كعود قطن تُرِك وحيداً في الخلاء، لا ألوي علي شيء. صهل الجواد وارتفع بقائمتيه الأماميتين زافراً سيلاً من اللهب في الفراغ، وحط ثانية علي الأرض عندما سحب الجندي مسدسه اللامع من جنبه وصوبه نحوي بحركة سريعة، لم أتداركها إلا عندما دوي صوت كالرعد ذهب في الفضاء متمدداً فأيقظ الطيور من قيلولتها حتي فرت هاربة في كل اتجاه، وهبت البهائم من ثباتها واقفة تترقب مذعورة. ثم تجمع الصوت في كتلة واحدة واستقر تماماً في منتصف رأسي.. انحدرت نقطة عرق ضخمة من أعلي جبهتي فغطت وجهي حتي شعرت بملوحتها عندما تقلص لساني متقززاً. جاهدت حتي فتحت عينيّ، ونظرت بجانبي فوجدت شيئاً أشبه بإنسان يتمدد تماماً بجوار قدمي اليسري، ملت أتبينه وسط الغبار الكثيف؛ إنه محمد افندي.. هو ببدلته الرمادية وطربوشه الأحمر القاني ونظارته.. لكن ليس هناك أي أثر للدم علي وجهه. شعرت بعدم القدرة علي التنفس، واقشعر بدني من نظرته المحدقة في لا شيء. تراجعت مذعوراً فزلت قدمي واختل توازني.. وجدتني مسنداً إلي حائط طري كأنه مُبطن بصوف ساخن، وإذا بي وسط أضواء باهرة تنبعث من مكان ما، تتخللها نقاط معتمة تتكاثر وتتوالد حتي لف الظلام المكان، عدا كتلة مربعة ظلت مضيئة، هرولت نحوها رغم ثُقل قدميّ، لم تكن كوة في جدار، بل شيء أشبه بهذا، تفتح علي عالم غريب امتزجت فيه الوجوه واختلطت، وتبدلت.. وجوه من أزمنة سحيقة، وأخري قريبة، تظهر ثم تختفي كأنها تمر أمامي عبر غبار كثيف معتم. أطلقت يدي أمامي أتقي بها المجهول فيما وراء الغبار، أو لعلي أعثر علي أحد ممن مروا أمامي الآن، أو أتلمس طريقاً للخروج، فاصطضدمت بكتلة لحم مرتفعة علي قوائم أربع، دققت فإذا بها جواد أشهب بدا كأنه ينتظر الخيال، لم أتوان لحظة، فحركت ساقي حركة بهلوانية سريعة وقفزت في الفضاء قاصداً الرسو علي ظهر الجواد، وإذا بي أحط علي سرج ناعم طري، غاص بي إلي أسفل كما يغوص الشمع في برميل العسل.. غير أن العسل انقلب فجأة إلي كمية هائلة من الأسلاك الناعمة حجبت عن عينيّ الرؤية، وشعرت بها تتسلل إلي داخل فمي... - انت ما يحلاش ليك النوم غير علي ضهري يا فارس عصرك؟! وها هو الأرق يطاردني ككل ليلة.. - هي الساعة كام دالوقت؟ - أنا عارفة؟! اسأل نفسك.. انا مش نمت وسايباك بتتفرج علي الزفت المسلسل؟!! آااه.. محمد أفندي والضابط الانجليزي، قصة العام، وكل عام .. لا يملون عرضها، وليس هناك أمل في حمل نفسي علي متابعة غيرها.. كان بودي النوم لسنة قادمة، لكن ما باليد حيلة: لابد من شيء تفعله في هذا الخواء الذي يلف المكان، لابد من حركة حتي لا تتعفن كقطعة اللحم المنسية في مصيدة الفئران. حتي "دعاء" الكامنة تحتك الآن لن يمكنها استبقاؤك، أو العثور علي بقاياك. نهضت رغم الإعياء الشديد وتدحرجت، ثم انزلقت إلي أرض الحجرة، وسرت ببطء في ظلام دامس، مثقلاً برأس بات أضخم مني ومن دعاء ومن الحجرة والبيت بأكمله، مُتقلقِل لا يريد أن يستقر ويتركني أهتدي إلي الباب المفضي إلي الصالة، فبات الوصول إلي الحمام وإفراغ مثانتي المتضخمة مهمة تماثل أعتي المهمات الحربية التي تتطلب أقصي حشد للقوي والتركيز علي الهدف. لم أمل البحث بدافع من الضغط المستمر للمياه المعتقة التي بدأت تُحدث - علي ما يبدو ذ تشققات طولية في الجدار الداخلي لخزاني البولي، فاستضمت مرة بخزانة الملابس، ومرة بالكوميدينو، ومرة أخري بخزانة الملابس، ثم بالسرير.. وأخيراً عثرت علي مقبض الباب، فتحته بحركة عصبية، وهرولت إلي الباب المقابل، ودلفت إلي الداخل وسط ضوء خافت، فوجدتني أمام سريرين ينام عليهما طفليّ. تذكرت وأنا أستدير عائداً أن باب الحمام علي اليمين عند الخروج من حجرة نومي.. أنهيت المهمة مستشعراً النصر مع آخر قطرة.. بقي الآن العثور علي رغبة ما زالت باقية علي قيد الحياة وسط الجدران النائمة، يمكنها التهام الوقت المتبقي من هذا الليل الطويل؛ فوصال دعاء بات لحناً رتيباً لم يعد يطرح إلا الملل، والخروج إلي الخلاء في تلك الساعة المتأخرة عمل خطير ينذر بحرب شنعاء من القيل والقال، حتي التليفزيون لم يعد يجدي في مثل تلك الحالة.. وجدتني فجأة أقف عارياً في منتصف الصالة، أرتشف القهوة الداكنة بينا أفكر في عمل جديد بعد تقديم استقالتي لمدير قسم المواليد والوفيات.