صدر كتابي الأول في القاهرة بعد أن وافقتُ الناشر علي دفع مبلغ من المال أعتقد أنه غطي تكلفة الطباعة كاملة وربما قسماً من إيجار الشقة التي يستخدمها مقراً لداره أيضاً، وكنت أنتظر أن يقوم هو بالمراجعة والتصحيح ثم التوزيع والترويج. لم يحدث. بقيت النسخ في المقر حتي عام 2006 فيما أذكر، بعد سبعة أعوام كاملة من صدور الكتاب. وظللت أكتشف أخطاء مطبعية ولغوية في النص علي مر السنين. كنت كل بضع سنين أزور الناشر فيعطيني بعض النسخ مجاناً فآخذها وأذهب. ولماذا لا أتعامل مع المطبعة مباشرة؟ كان أمراً محزناً وكان ضمن أسباب توقفي عن الكتابة الأدبية ست سنوات أو أكثر، حيث شعرت أن النشر لا يعني شيئاً وأن القائمين عليه مثلهم مثل القائمين علي الكتابة والقراءة غير معنيين بشيء. وفي ظني أن هذا التقليد يجب أن يتوقف ليس فقط لأنه يحبط ويهين الكاتب ولكن أيضاً لأنه يصيب عملية تداول الكتب التي يقوم عليها أي نشاط أدبي في بؤبؤ عينها بالفعل، ومثله مثل مطابع الدولة يشجع علي تكديس الورق وقطع الأشجار: إذا كنت لا تستطيع أن تغطي تكلفة الطباعة أو لا تملك رؤية لترويج ما وافقت علي نشره فأنت لست ناشراً بأي معني، الأمر يبدو واضحاً. وعلي كل حال لا أظن أحداً يستفيد كثيراً من الإنفاق علي أعماله الأدبية وإن كان النشر - أي نشر - يساهم في الحفاظ عليها وتأطيرها. تعاملت بعد 2005 مع دور نشر مصرية ولبنانية معتبرة لم تطلب مني مساهمات مالية - وأنا ما كنت لأعيد الكرة - وانطباعي مع وضع خطورة التعميم في الاعتبار أن هناك تقاليد مهنية أفضل كثيراً في لبنان. أهم شيء أن الناشر اللبناني في تصوري يقيّم العمل بعد قراءته وإن كان لا يعرف الكاتب شخصياً، وهو ما يكاد ينعدم في مصر حيث الناشرون لا يقرأون المخطوطات المقدمة إليهم إجمالاً ويكون قرارهم بناء علي اعتبارات شخصية بحتة، أو بناء علي حسابات تجارية مجردة من أي متعة أو معرفة أو فهم. لا أعرف إن كان العراق مازال يقرأ، لكن القول إن مصر تكتب ولبنان تنشر له أساس من الصحة بالقياس علي خبرتي الشخصية (وإن كانت لبنان هي الأخري تكتب بالطبع). فحتي أكبر دور النشر الخاصة في مصر مصابة بكل الأمراض البيروقراطية من سوء إدارة وتكدس وعشوائية وبطء وارتباك، الأمر الذي لم ألمسه أبداً في لبنان. ولا أقول إن التوزيع في مصر فعال لكن مشكلة النشر من بيروت أن النسخ لا تتوفر بكثرة في القاهرة وعادة ما تكون أسعارها مرتفعة بالمقارنة مع الكتب المنشورة هنا، الأمر الذي يحد مجال حركتها نوعاً ما... ربما. ما أريد أن أقوله بشكل عام هو أن هناك كُتاباً في غاية الأهمية والقوة يفضّلون طرح أعمالهم كملفات رقمية مجانية علي الإنترنت علي التعامل مع دور النشر العربية كافة، وقد تكون هذه نوازع فردية لكني أتصور أنها مؤشر علي حقيقة ما. لا شك أن الأزمة أعمق وأكثر اتساعاً من النشر أو الأدب أو أي نشاط ذهني من شأنه أن يساهم في تحريك الثقافة والمجتمع. والحقيقة أنني لا أعرف ما هي الأزمة بالضبط ولا لماذا يجب أن تكون هناك أزمة، لكن يبدو لي أن المطروح في العالم العربي ليس الكفاءة ولا الحرية ولا الإبداع بقدر ما هو الارتزاق والقمع والخرافة، الأمر الذي يجعل إنتاج الأدب أسهل بكثير من استهلاكه ويحول دون نمو أسواق. هذه حقيقة لا ينفيها ما طرأ علي المشهد الأدبي من جوائز وحفلات توقيع ومساعي للترجمة في السنين الأخيرة. من الممكن والمريح تخيل نشر يكون منطلقه مناهضة هذا الواقع عوضاً عن التكيف معه ولكنه وبالضرورة، سواء في مصر أو في لبنان، سيكون نشراً هامشياً. وفي غيابه أو حضوره في ما وراء الهامش، الواحد يتعامل مع من يستريح معهم إلي حين وكفي الله المؤمنين شر القتال. شاعر وروائي مصري