لا يحتار قارئ الشاعر والقاص المصري أسامة جاد قدر حيرة الكاتب نفسه ربما حين يتأمل مجموعته " صباح مناسب للقتل " الصادرة عن دار العين عام 2014. لماذا أتكلم عن " الحيرة " ؟ . قد يكون لأن جاد نفسه عبر لي عن تساؤلات تتصل بهذا المعني ، يشعر بوطأة التصنيف الصامت الذي تسلل إلي وجدانه وإحساسه بالأشياء ، إلي ذلك السؤال الذي يسأله المبدع لنفسه حين يقدر علي أكثر من نوع من الفن ( كالرسم والكتابة مثلا ) ناهيك عن أن يكون مشتملا وليس منقسما في اتجاهه لنفس الفن : الكتابة إذ يتبع مرة سره الخاص فيأتيه الشعر ومرة بلا سبب يتفجر بالقصة أو حتي بالرواية . سؤال المبدع لنفسه ولو سرا لأسئلة من نوع " هل أري نفسي شاعرا بالأساس أم روائيا أو قاصا بالأساس ؟" هو سؤال مهم وأثق في أن كل مبدع لديه إجابته السرية لكن علي العكس من كثيرين أري أنه لا بد له من إجابته بينه وبين نفسه ولو لم يكن ذلك سيؤثر علي مشروع كتابته أو اتجاهه لأشكال فنية وسردية مختلفة . لا أتحدث عن الإطار والشكل لكن عن أهمية معرفتك وإحساسك بهويتك الإبداعية الراسخة، وفي عنونة أحد أقسام المجموعة هنا بعنوان فرعي (عقب عنوانها) هو " فضاء سردي " ما يومئ إلي رغبة اختراع توصيفات جديدة للإفلات مما أشرت إليه .. من الحيرة. ليس من محض الصدفة ولا عفويتها اتجاه أسامة جاد في الإهداء إلي العديدين من بينهم يوسف إدريس ويحي الطاهر عبد الله ومحمد مستجاب ، فبدون ذلك الإهداء ستهتدي بنفسك إلي الطاهر عبد الله أوقاتا في الأقاصيص شديدة القصر الواقفة علي حافة الشعر هنا ، كنت أري التكرار في مفتتح فقرات بما يذكرني بالكاتب الراحل ولعلي كنت ألمح مقاومة أسامة جاد للشعر في غير مرة في المجموعة لكن نكهة الشعر تسربت بفتنتها الآسرة و الفن الكبير الذي قدمته الأسماء القصصية الكبيرة المذكورة سالفا يؤكد : ما تشعر به جميلا هو الجمال .الفن يسع كل الأشياء وأشكال و طرق التعبير فقط ضع يدك علي مكمن العمق في روحك وأرواح الأشياء واتركها تشع . في المجموعة قصص مدهشة كون الحكاء أو السارد فيها طائرا أو كائنا غير عاقل مثل قصة " رأينا أرض ميلادنا " وثمة قصص كدت أري مشهدها الموصوف مثال " يوم أن نفضت يديها من العجين " و" المرأة التي تكره الشرفات " وهناك قصص كتبها جاد تطرح فكرة التعرف الطفولي الأول إلي حقيقة الموت مثل قصتي " أضأنا كلوبات الجاز " و " لم تعد تستدعي الشمس إلي جلستها كل صباح " وبعض القصص مروية باسترجاع الذات الساردة لذكريات الطفولة. الأصعب هنا الأسلوب . كيف تكتب كطفل وأنت لم تعد كذلك ؟. نجح أسامة جاد فالطفل هو كاتب " كان الراديو قديما " والشاعر هو كاتب " بلل " و " دفء " و " ذراع خفية " وربما الشاعر- القاص هو كاتب " يوم أن نفضت يديها من العجين " وغيرها من قصص المجموعة لكن في بعض القصص دافئة الوصف لمفردات يومية ريفية كان القص يفاجئنا بجمل بالفصحي علي لسان شخصية أو أكثر ولم أر هذا مناسبا أو مقنعا فنيا رغم امتلاك الكاتب لقدرة استخدام العامية بل بمفردات ريفية بحتة في قصص أخري هنا ( قد تحتاج لهوامش لو كان القارئ غير مصري)، لذا كان التوظيف غير الموفق للفصحي الحوارية أحيانا يناقض الهدف السردي في وصف أجواء الريف وحياته .عندي أمثلة : " كانت رائحة شر في الهواء المذعور " و " ينتظر القطار " ، كما أن بعض النهايات لم أكن أشعر بها فنيا كنهايات . إجمالا أحببت رائحة هذه الكتابة ، هدوءها ، نبرها الذي يمسك بيدك وأذن روحك ليقحمك بنعومة في أروقة ذكريات صاحبها و ريفه المصري غير المختلّق . لم أشعر بغربة لغياب الأسماء عن أغلب الشخوص المشار إليها .. لعل تعمد إغفال الأسماء خدم الهدف القصصي هنا وترك الزمن ، عبر تيار الوعي وغيره يَبرز مهيمنا ، شجيا و مروعا في تلك المفارقة الأبدية ما بين قسوته وتحولاته الجبرية و بين تذكرنا له ولأنفسنا فيه بذلك الحنان الاسترجاعي المحتوم.