"لقد قررت الائتناس بالحكاية والشعر، في وجه الأبد الغامض، ليس بالحكايات المتناثرة، وإنما بالسعي الدؤوب للخلق". يسعي الراوي في "حكايات الحسن والحزن"، الرواية الأولي لأحمد شوقي علي والصادرة عن دار الآداب، إلي الخلق عبر "الحكايات والأحلام"، ويفرض علي نفسه مسارا مُلزما : أن يخلق "جنية الأحلام". هكذا يراوغ النص الروائي للإيهام بمركزية الكلمة/ اللغة/ الحكاية، حيث يتخلق العالم من رحم الحكايات، وحيث الكلمات هي ضمان الحضور الكامل للعالم. تبتعث الرواية وتجمع صورا عديدة من الحكايات الشعبية، وقصص الأنبياء، وتعيد صياغة أساطير الخلق والسقوط (والطوفان كما في مجموعته القصصية الأولي: القطط أيضا ترسم الصور). ينطلق "غريب"،العفريت، الراوي، في حكاياته عن أرض الجوافة، التي هجرها أهلها. يحكي قصة "كامل"، المولود ألثغ في حرف الكاف، والذي ينطق اسمه "خامل" بدلا من "كامل"، يعمل في شركة الأسمنت، يدبر له عمه عبد الصمد، الطامع في الإرث، مكيدة ويلفق له سرقة العهدة، ليخرج خامل بعدها من القرية، ويستقر في أرض الجوافة، بمرور الوقت تتحسن أحواله، يبني بيتا ويأتي بأمه مسعدة وأخوته ليعيشوا معه. وتتوالي الحكايات عن رئيسة زوجة خامل، ومسعدة أمه، وأخته سيدة وزوجها، وأخوه سالم وأسرته. غريب، الذي تحول عفريتا ذات صباح علي غير إرادته، يحكي الحكايات، الحزينة، والتي بدأها من "درب العبث"، أملا في أن يخلق جنية أحلام تؤنس وحدته، بعد أن هجر الناس أرض الجوافة، واختفت تلك الحورية هي الأخري، يوم صار عفريتا، بينما يجلس القط فتحي ليستمع إلي حكايات غريب العفريت، الذي يحاوره ويقول له: " أنت لست إلا صوتا منسيا من أصواتي يافتحي!"، ويؤكد أنه لن يخلق جنية الأحلام بل "ستلدها السماء الحزينة". يبرز النص الحكايات الصغري petits recits، بتعبير ليوتار، في مواجهة الحكايات الكبري، عبر مراوغة سردية، حيث يبدأ النص محاطا بهالة أسطورية، لكنه لايتشكل وفق أقانيم الأسطورة، أو ما تطرحه من إمكانيات تكشف عن قدرتها علي صياغة إحساس وإدراك جماعة بشرية ما، أو تشكيلها للخيال الجمعي. تحتفي الرواية بعالم الحياة اليومية، وتنوعها وتعقيدها. يسرد غريب العفريت سلسلة من الحكايات عن البيت الذي بناه خامل، وربات الحسن والحزن( مسعدة و رئيسة وسيدة وإكرام) العامرة حيواتهم بالحب والكره والحسد والغيرة والخوف، والحزن.
وكما تتهدم، في أعمال فنية كثيرة، الفواصل بين الواقعي والأسطوري، إبرازا للجانب الخيالي أو الأسطوري للوجود الإنساني، وكشفا للجوانب المجهولة والمضمرة له، تمتزج الأسطورة بالواقع في حكايات الحسن والحزن، لكنه تواشج في إتجاه معاكس، يسعي إلي أنسنة الأسطورة ( أو تحطيم هالتها)، والتأكيد علي عادية الأسطوري والغرائبي، وهو ما يتجلي في اختيار الراوي، حيث العفريت يروي حكايات عادية وحزينة عن الإنس (خامل وأسرته)، خلافا للمألوف، حيث الرواة، كما اعتدنا في أعمال كثيرة، أناس يحكون حكايات غرائبية عن عامرة بالجن والعفاريت. تتواري خلف هذا القلب لطبيعة الراوي، وعلاقته بما يرويه، السمات البارزة للباروديا، أو المحاكاة الساخرة. يسهب الراوي العفريت في ذكر بعض التفاصيل شديدة العادية ومفارقات الحياة اليومية: نزول خامل إلي السوق ومساعدة نسيبه رضوان في سلخ الذبيحة " وما إن باع رضوان أول كيلو لحم، حتي هبطت عليه السماء بشرطة التموين، وقبض عليه وخامل وتم اقتيادهما إلي قسم الشرطة". " كما أن امتلاكهم بيتا في أرض الجوافة سيمنحهم وصل نور باسم الحاجة مسعدة أو خامل.." العراك بين خامل ورئيسة حين انتقلت إلي الغرفة "البحري" العلوية. تدفعنا تلك التفاصيل إلي تذكر صورة العفريت في الأفلام الكوميدية، حين تطمر التفاصيل المشتركة لحياتنا الإجتماعية (والصفات الإنسانية) الشخصية الغرائبية، والتي يفترض كونها ذات طبيعة متعالية. تبدأ الرواية بهذا التنويه: " جميع النصوص الواردة بخط مائل، لم تصدر عن خيال غريب الإبداعي، وإنما هي نصوص لكتاب عظام، رأي في ذكرها زينة لحكاياته. ولما كان ذكر أسماء هؤلاء المبدعين- جميعهم- عصيا علي العفريت، وكان ذلك بسبب النسيان - قاتله الله، فإنه قد قرر إسقاطها...". يسم الكاتب الفعلي راويه بالنسيان، وهو ما يجعلنا نتساءل عن قدرة خيال غريب الإبداعي علي نسج الحكايات، لكننا مع التقدم في قراءة النص نجد أنفسنا أمام راو محترف، يجيد النقلات السردية والتعمية والتقديم والتأخير وتوظيف التكرار، كما سنبين لاحقا.
النص مقسم إلي فصول، والفصول مقسمة إلي وحدات أصغر. يؤثر هذا التوزيع السردي علي إيقاع قراءة الرواية، فالفصول تماثل المقطوعات الشعرية فيما يتعلق بإبدائها قدرا معينا من الاتساق. تضيف عناوين الفصول ومقدمتها مستويات للمعني والتضمين والإلماح: " واستمع الآن إلي الحكاية، لكن انتبه، وافصل الحَب عن التبن!"، "ذاكرة ربات الحسن والحزن"، "قل لنا يا لهب الحاضر، ماذا سنقول؟"، " وأما الآن فحانات العالم فاترة". يمتزج السرد بالحوار في مواضع كثيرة بالرواية، كما يفعل ساراماجو في رواياته، وهو ماقد يضفي علي السرد صفة الشفاهية، وكأن الراوي يحكي القصة في عفوية متجاهلا صقل التكوين السردي، ليخلق النص بذلك علاقة جدلية بين تناسق السرد وعفويته. يتسم السرد بنوع من التكرار، لا علي مستوي الجمل والعبارات فحسب، وإنما ينتمي للمستوي الكلي للنص (وما يتعلق بالبداية والنهاية). يتبدي ذلك في حكاية غريب عن الخطبة بين سالم وإكرام، وما فعله خامل لكي يدفع المعلم هيكل إلي الموافقة علي تزويج ابنته لسالم. يكرر الراوي الحكاية، لكنها في المرة الثانية تأتي بتفاصيل مختلفة ونهاية مغايرة بعض الشئ: "أتدرون شيئا؟..آه آسف للمقاطعة، لكن ما فات قد يكون قصة جيدة قد ترضي شغف محب للحكي... اعذروني إن شققت عليكم، سأحكي الحكاية مرة أخري، مع وعد بالإيجاز قدر الإمكان..". كما يكرر الراوي حكاية سالم ونسيبه مرزوق وعراكهم مع العطايفة لتحرشهم بهند أخت زوجة سالم، لكن غريب يقوم بتغيير راوي هذه الحكاية ليغير من وقعها: " وقد خبأت لك جزءا في الحكاية حتي نبكي سويا عليه. ليست رواية سالم بلسانه مدعاة للبكاء.... اسمع الحكاية من باقية، حين سألها يحيي زوج ابنتها، ماذا جري يا خالة؟". يوظف النص التكرار بوصفه سمة مميزة للنصوص الدينية والصوفية والتراثية، والأهم أن التكرار يدمغ غريب العفريت بصفات الراوي "الغير موثوق به"، بتعبير ديفيد لودج، والذي يكشف استخدامه عن الفجوة التي تفصل بين "الواقع" وما يتوهمه الإنسان، أو عن الكيفية التي يشوه بها الإنسان "الواقع" أو يخفيه. في نهاية الرواية يحكي غريب للقط فتحي (روح خامل) عن عمه الذي تذكره به رائحة الحطب المشتعل . الصفات التي يوردها عن عمه تشير بشكل خفي إلي خامل " تفوح منه رائحة النوم كوردة ياسمين في فصل الربيع"، لنتسائل عن هوية غريب "الإنسان" قبل تحوله، وهو ما يخلق حيرة الإحساس بالحقيقة من الزيف، وتعزز طبيعة الراوي من هذا الشعور. يتميز السرد بتركيبات أسلوبية متناظرة وأصوات متماثلة، وهو ما يخلق شعرية السرد في الرواية. وتتعدد الأصوات البشرية في الرواية، رغم واحدية الراوي، بتنوع اللهجات والإيقاعات والقدرات.
يتم تغريب الأحداث المألوفة بواسطة الإبطاء والإطالة والقطع، فإرجاء الأحداث أو تطويلها تدفعنا إلي أن نوليها انتباهنا، "فنكف عن إدراك المشاهد والحركات المألوفة إدراكا آليا وبذلك نسقط عنها الألفة"، كما وضح شكلوفسكي. تنفرد الحبكة وحدها بالخاصية "الأدبية"، لأن "الحكاية" تصير مجرد مادة خام تنتظر يد الكاتب البارع الذي ينظمها. فالحبكة في هذه الحالة هي كل الوسائل المستخدمة للتدخل في مجري القص وإبطائه ( الاستطرادات، الأوصاف المسهبة، الحيل الطباعية، التقديم،..). تتيح اللغة الشعرية الانفتاح علي مكنونات اللاوعي وعالم الأحلام، وتخلق مواقف جديدة للذات. يسبر الخيال الشعري للرواية أغوار الميثولوجيا التي تمتح منها حياتنا اليومية، والرؤي الغيبية والميتافيزيقية التي تشكل نظرة شخصيات الرواية إلي العالم، وفي الوقت نفسه تفكك الرواية الأسطورة بردها إلي عناصرها الأولية، أو بعدم التوقف عند الغرائبي من أحداثها. فتحول غريب إلي عفريت يشبه تحول جريجور سامسا إلي حشرة في مسخ كافكا، تحول يطالعنا منذ البداية، لا ندري أسبابه، لكنه كاشف عما يعتمل في ذواتنا الإنسانية من خوف، وحزن.