تعلمنا في المدارس أن النيل هو شريان الحياة.. لكن عندما زرت المشروع الجديد لقناة السويس، تأكدت أن القناة .. حياة بكل دلالتها المعنوية والرمزية والمادية، ففي هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي لا توجد فيها مسلمات، تعود للسطح مرة أخري قيمة البناء.. ليس بمعناه النظري.. بل بالمعني الذي نستشعر به أرض الواقع، فلازالت قناة السويس هي إحدي الدروس الكبري في حياة المصريين، الذين دفعوا دماء أبنائهم ثمنا لها، ففي الحفر الأول استشهد 120 ألف مصري من إجمالي مليون شاركوا في حفر القناة.. وفي القناة الجديدة استشهد 14 مصريا، في كلتا الحالتين النصر كان للإرادة المصرية، لاسيما بعد تأميم القناة علي يد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وفي هذه الحالة استطاعت السواعد المصرية أن تحفر القناة الجديدة في 12 شهراً، رغم أن المشروع في خطته الأولي كان من المفترض أن يستغرق ثلاث سنوات. فقد روي الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس للوفد الصحفي لمؤسسة أخبار اليوم، كيف أنه عندما كان يستعرض المشروع أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذكر أنه سيستغرق ثلاث سنوات، قاطعه الرئيس بقوله سنة واحدة، فرد مميش قائلا" تَنَفّذ"، وليس سَيُنَفّذ، في إشارة واضحة إلي أنه لا مناص عن تنفيذ القرار. حكي الفريق مميش عن شعوره الذي دفعه إلي قول " تنفذ"، وكيف أنه سرح بذهنه لحظتها ليضع أمام نفسه إجابة كيف سينتهي المشروع في الموعد المحدد. أحداث كثيرة دفعت المشروع بالفعل للأمام منها اصطفاف الشعب حول هذه القناة حينما ساهم في أيام معدودات في جمع نفقات المشروع عن طريق شراء شهادات الاستثمار، لكن المفاجأة الكبري التي تحدث عنها مميش بفخر شديد هي الهمة التي رآها بعينه من كل من شاركوا في حفر القناة الجديدة، لم يتقاعس أحد يوما ما. ما قاله مميش ذكره لي المخرج الشاب هيثم خليل الطالب بمعهد السينما، الذي خصص مشروع تخرجه لتوثيق هذا الحدث. إن أهم ما استرعي انتباهه هو العامل الذي نفذ المشروع بيده، وأن الروح التي لمسها للبشر الذين شقوا هذه القناة بأرواحهم وأيديهم هي جوهر الملحمة الحقيقيه للقناة الجديدة، ما قاله " مميش- وهيثم" هو ما لمسته عندما بدأ اللنش الذي يقلني مع الوفد الصحفي للمؤسسة برئاسة الكاتب الصحفي ياسر رزق رئيس مجلس إدارة المؤسسة ومجموعة من أساتذتي وزملائي من رؤساء التحرير، كان ينتابني شعور بالفخر أن أكون ممن عبروا القناتين" القديمة والجديدة" قبل الافتتاح الرسمي، وكنت أستمع إلي المرافقين، الذين رووا بسعادة شديدة كيف تم حفر القناة الجديدة بسواعد مصرية وعالمية، وكيف اختلطت الخبرات. الجديد في هذا المشروع.. إن قيادته لم تركز فقط علي اللحظة الراهنة، بل سعت إلي أن يكتسب شباب هيئة قناة السويس ما يساعدهم علي تطوير أعمالهم في المستقبل. المستقبل هو الدافع الحقيقي لهذه القناة، فلو لم نسعَ إلي هذا الشق الجديد ، لكنا سنواجه مجموعة من الأخطار في المستقبل، منها المحاولات المستميتة لإنشاء قنوات أخري من قبل دول عدة، وأي من هذه القنوات كان سيسحب البساط تدريجيا منا، يضاف لذلك أن عمق القناة الجديدة سيسمح بعبور قافلات عملاقة من الممكن أن تظهر في القريب العاجل، وكان سيسحب ذلك- أيضا- من رصيدنا- لو لم ننتبه إلي ذلك. القيمة الحقيقية لهذه القناة هو الطموح الذي انتبه للمستقبل، والقيمة كذلك أن مفهوم البناء عاد يطل علينا بقوة. أعود مرة أخري لأستشهد بمشهد في فيلم هيثم خليل رواه لي، خاص بالعامل ابن ال18 عاما الذي طلب منه نسخة من الفيلم فلديه أمل عندما يتزوج وينجب أن يكون الفيلم هو الإثبات علي عمله في مشروع قناة السويس.. إنه يعمل من الرابعة فجرا وحتي الثانية ظهرا ثم يستريح ويعاود العمل مرة أخري، ويعلق مخرج الفيلم علي حالة هذا العامل قائلا: " هو يعمل بحفار في منطقة صحراوية وحده بلا رقابة ومع ذلك لم يهمل أو يتباطأ ، إنه مشحون بفكرة معينة تلزمه بإكمال عمله الذي تنتظره الملايين". هذا " الشحن" هو الرصيد الذي يجب أن نستثمره في المستقبل، فمشروع القناة بدقته وصرامته وجديته ورؤيته هو بيان علي " المُعلِّم " يجب ان ينتقل لكافة مشاريعنا، إذا كنا نريد مستقبلاً حقيقيا لأمة تريد أن تنهض. طارق الطاهر