فوجئ المصريون في يناير عام 1952 بالقاهرة تحترق والنيران تلتهم كل ما يقابلها، لا فرق بين مبني تاريخي أو آخر، وتضررت العديد من المكاتب والمسارح ودور السينما، وفي نهاية الأمر وبعد أن أشارت أصابع الاتهام إلي القصر من ناحية، والإخوان والإنجليز من ناحية أخري، قيد الحادث ضد مجهول بعد أن طُمِست الأدلة، وها هو جزء من الفجالة يحترق والمؤشرات تقول إننا نسير في الاتجاه ذاته، ولهذا ذهبنا نبحث عن إجابات لتساؤلات، بعضها يتعلق بالحادث والبعض الآخر يغوص في تاريخ تلك المنطقة الثقافية المهمة. نيران مشتعلة وأدخنة تتصاعد في سماء القاهرة لما يقرب من أسبوع، وتحديدا بالعقار رقم 6 من شارع كامل صدقي أو الفجالة، المؤدي من وإلي رمسيس، والذي يعد المركز الأول لتجارة الكتب والأوراق الكتابية بمصر، سيطرت علي الأجواء حالة من الذهول من هول الحريق، وسط تكهنات البعض بأنه حادث مدبر، رغم ما تناقلته وسائل الإعلام عن أن السبب وكعادة الحرائق في مصر ماس كهربائي، وهو ما نفاه الحاج أشرف حمدي، صاحب المكتبة العالمية المتضررة في الحادث، مؤكدا أن رئيس النيابة أنكر ذلك تماما عندما سأله، فما زالت التحقيقات جارية، وتعجب حمدي: "كيف يكون كذلك والكهرباء مفصولة؟! لقد كنا في أجازة عيد، كما أن النار خرجت من السلم وليست من عين كهربية، وأين ال18 عاملاً الذين يخصون صاحب العقار ويبيتون في الدور الأخير منه، فجميعهم لم يحضر منهم أحد!". كان الحاج أشرف يستعد للموسم الدراسي الجديد بأربعة ملايين جنيه وضعها كبضاعة داخل المكتبة، ولكن في السابعة إلا الربع من صباح يوم الاثنين التالي لعيد الفطر، استيقظ علي خبر الحريق، فجاء مسرعا، ووجه الاتهام بشكل صريح إلي صاحب العقار أحمد القوصي، الذي سبق وحصل أصحاب المكتبات علي حكم ضده يقضي بعدم خروجهم من العقار، ومع علمهم بمحاولته استخراج قرارات إزالة ذهبوا للاستعانة باستشاري لمعرفة مشكلات العقار وحلها، وتم ذلك بالفعل في منتصف رمضان واتفقوا علي بدء العمل فيه بعد العيد بأسبوع. وجوه يجمع بين ملامحها الحزن، إما إحساسا بالأسي تجاه غيرهم، أو آخرون لشعورهم بالضياع والحسرة، أمام عقار الفجالة المحترق يقف "محمد" العامل بإحدي المكتبات التي اندثرت تحت الأنقاض، يفكر في مصيره الذي بدا ضبابيا بعدما فقد مصدر رزقه، لا يعرف بعد أكثر من 25 عاما قضاها في هذا المكان وتلك المهنة ماذا يمكن أن يفعل؟ وهل سيمكنه العمل بغيرها أم لا؟ وكم من محمد آخر يعيش نفس المأساة! إلي جانبه تجلس أم مينا وأسرتها، الذين استيقظوا من نومهم صباحا ووجدوا الحريق مشتعلا، حاولوا الخروج ولكن النار كانت متناثرة علي باب الشقة نتيجة مادة مشعلة للنيران تم سكبها عليها، أسرعوا لإحضار المياه فلم يجدوها، رغم أنها في المعتاد لا تنقطع خلال هذه الأوقات، مما أدي لتأزم الأمر، وأحيطوا بالداخل حتي جاءت قوات الحماية المدنية وأخرجتهم من النوافذ، ومن حينها أصبحوا بلا مأوي يسكنون مدخل العقار المقابل. بالفجالة، فمنذ 3 سنوات اشتعل واحد في أحد العقارات ولكن تمت السيطرة عليه، وإن كانت الحرائق تدمر مباني، فالبشر يدمرون التاريخ والحضارة، وهو ما حدث مع منطقة الفجالة، التي كانت تسمي قديما بمنطقة "ما بين الكنائس"، والآن يطلق عليها الأهالي "ما بين السيراميك" بعدما أصبحت مركزاً لمحال وشركات السيراميك والأدوات الصحية بكل مستلزماتها، وتتشعب تلك المحال والمخازن الخاصة بها حتي في الشوارع الجانبية. تضم الفجالة ثمانية من أشهر وأكبر الكنائس مثل العذراء، الأدفنست، الأرمن، المعمدانية، الأجريج، الروح، كما أنها المنطقة الأشهر في ضم طوائف المسيحية المختلفة، بجانب عدد كبير من المسلمين، ورغم ذلك لم تشهد يوما أي حوادث أو فتن طائفية، بل يضرب بها المثل في التسامح والتعايش بين المسلمين والمسيحيين، واليهود قديما. كان الإخشيد هم أول من قاموا بتعمير الفجالة وزراعتها علي شكل بستان كبير، وفي العصر الفاطمي تحولت إلي ملهي، ولكي لا يراهم الناس أثناء ترددهم علي أماكن اللهو أقاموا الأنفاق والسراديب تحت الأرض من الأزهر إلي الفجالة، ولذلك انتشرت الخمارات بشكل كبير في المنطقة علي مر العصور. يحكي عم بكار، المسئول عن موقف الفجالة، قائلا: "في الماضي كانت الفجالة تعج بالحياة، وكانت تملؤها المقاهي ومحلات البقالة وحتي الخمارات، إلي أن بدأ التحول للصناعة وبيع السيراميك والأدوات المكتبية، فباع الكثيرون محلاتهم وغير الآخرون نشاط تجارتهم". جاء هذا المسمي للمنطقة من كونها في الأصل سوقا خصصت لبيع الخضراوات، فالفجالة هم بائعو الفجل، إلي أن تغير اسم الشارع عام 1950 ليصبح كامل صدقي، ولكنه مازال يتم تداوله بالاسم القديم ، وفي القاهرة المملوكية شهدت أرض الفجالة نموا لنشاط نسخ وبيع الكتب الأدبية والسير الشعبية والأزجال المصرية، موازيا لنشاط شارع الأزهر في نسخ وبيع كتب التراث وعلوم الدين، فكما تخصصت منطقة الأزهر في الكتب الدينية الإسلامية مع بعض الكتب الأخري، اختصت الفجالة بكتب الأدب والفن والفلسفة، مع كتب الديانات والطوائف غير الإسلامية. بدخول المطابع بداية من الحملة الفرنسية وانتشارها في عهد الأسرة العلوية، تحولت الأرض إلي شارع حفر لنفسه تاريخا جديدا، حتي جاء الانفتاح بنشاط الكتب المدرسية وشرح وتلخيص المناهج، كنشاط جديد منافس لإصدار ونشر الكتب الفكرية والأدبية، وسريعا لاقت هذه التجارة رواجا انزوي معه نشاط نشر الكتاب، ومع بداية الثمانينيات تحولت المنطقة كلها من منطقة علمية إلي تجارية، وفقد الشارع كثير من العادات التي كانت تمارس فيه، فتدريجيا ألغيت الملتقيات الثقافية التي كانت تعقد به، وقلت دور النشر إلي أن انتهت تماما، وأصبحت الكتب مجرد سلعة تُباع فقط، إلي أن أضحت محلات بيع الكتب تجاور محلات بيع السيراميك والأدوات الصحية. أصبحت معظم المكتبات لبيع الكتب المدرسية الخارجية والأدوات المدرسية وألعاب الأطفال، ولكن بقيت ثلاثة منها كسابق عهدها، مقتصرة فقط علي الكتب والتراث كما كانت تفعل قديما، مبتعدة تماما عن ثورة السيراميك والأدوات المدرسية، أولها "مكتبة مصر" التي أسسها سعيد جودة السحار عام 1932، حيث عمل بالترجمة بعد تخرجه لمدة عام، وعندما وجد أن المكتبات تسرق عمله ومجهوده اشتري المكتبة التي كانت تختص ببيع الطباشير وأسنان الأقلام، وحولها لنشاط الكتب، أما الثانية فهي دار غريب، التي تنشر للشاعر فاروق جويدة، إلي جانب دار البستاني التي حاولت من قبل بيع الأدوات المدرسية بجوار الأعمال الأدبية، لكنهم وجدوا أن الأمر تحول لما يشبه السوق، فمن يريد شراء قلم يأتي ليقلب في الصفحات والكتب، ولذلك لم يتأقلموا معها واكتفوا فقط ببيع كتب الأطفال مع الكتب الأدبية. تنتظر الفجالة - بقيمتها التي فقدت الكثير منها - الصعب الذي يحتاج إلي إرادة من الناس والدولة معا لتعود تلك المنطقة إلي سابق عهدها، كملتقي للكتب والمنتديات الثقافية، فإذا ما هبت الرياح ذات مرة عكسية وأخذت ألسنة اللهب والنيران إلي أماكن أكثر حساسية بها بعض المواد البترولية وأخري من الأحبار وغيرها من المواد سريعة الاشتعال، لأحدثت حريقا لا مثيل له يفتك بالمنطقة ويصبح من المستحيل استعادتها، ولكن الأمل مازال موجوداً والفجالة تنتظر من ينتشلها كغيرها من المناطق الثقافية التي تحولت إلي ما هو اسوأ من بيع السيراميك، فأصبحت مرتعا للمدمنين والخارجين علي القانون الذين حلوا محل الأدباء والشعراء والمغنيين، بل واضطر الكثير من سكان هذه المناطق ومن لديه القدرة علي أن يفر بأبنائه بعدما كانوا يتباهون بأنهم من سكانها، وتنتظر أيضا من يخمد الحريق داخل النفوس ويهدئ من روعها بأن يكشف السبب الحقيقي وراء هذا الحادث، وإذا كانت هناك جريمة فليقدم الفاعل إلي المحاكمة وينال جزاءه.