منذ نحو عشر سنين كنا - صديقي حمام وأنا - نتولي تحرير جريدة "المطرقة" الأسبوعية، التي ضربت رقما قياسيا في سعة الانتشار، اذ كانت الصحيفة الفكاهية السياسية الأولي في نوعها... والأخيرة فيما أعتقد... ومن سوء الحظ... ان الجريدة كانت إذ ذاك، معارضة للوزارة القائمة بالحكم.. فانهالت عليها بنكاتها اللاذعة وفكاهاتها القاتلة.. وسخريتها التي يضحك منها طوب الأرض.. حيت لقد دخل في روع القراء ان الذين يحررونها إنما يستوحون "كركرة" الجوزاء.. وعبير "المانتوفلي" الأصلي!.. وكان أن اتخذت الحكومة ضد الصحف اجراءات استبدادية ظالمة لم يسبق لها مثيل... وكانت "المطرقة" في "وش المدفع" فصادرت أعدادها، واعتقلت صاحبها- رحمه الله- ورئيس تحريرها ومدير حساباتها وعمال مطبعتها.. وانطلق رجالها يجدون في إثري وإثر الزميل حمام.. لتكملة «الطقم». وفي مقهي متواضع من مقاهي شارع محمد علي التقيت بحمام.. وكان يجلس في ركن قليل الضوء.. فما كاد يلمحني حتي خف لاستقبالي وقبل ان أبدأه بالتحية قال جريا علي عادته: -هات سيجارة! وتحسست جيبي.. ثم ابديت أسفي لعدم وجود سجاير معي.. وإذا به يخرج من جيبه علبة كاملة ويقول: إذن خد سيجارة. ثم اطلق إحدي ضحكاته الساخرة وقال: -ماهو ياتجيب سيجارة.. ياتاخد مني سيجارة.. عشان يبقي فيه بيننا (أخذ وعطاء)! وجسلنا نتداول في الأمر. وأخبرني ان صاحب الجريدة قد (أوصي) قبل دخوله السجن بان جريدته يجب ان تصدر بأية وسيلة.. وأنه يعتمد علينا في تنفيذ هذه الوصية!.. -لكن.. كيف نصدر الجريدة والبوليس يطاردنا؟ فقلت: -أما أنا فأعرف كيف أزوغ من البوليس... ولكن كيف نصدر الجريدة بدون «رئيس تحرير» يتحمل مسئولية ما ينشر فيها طبقا لقانون المطبوعات؟.. وبعد مناقشة، اتفقنا علي مفاتحة احد المحامين الشبان ليتولي هذه الرئاسة، ريثما يفرج عن صاحب الجريدة، وقبل المحامي الشاب واتخذنا الاجراءات المعتادة، وصدر عدد الجريدة ولم يكد يوزع في السوق حتي اعتقل رئيس التحرير الجديد ولما يبلغ (العدد الأول) من عمره! وسعينا لتعيين رئيس تحرير ثان.. فلم يكن أسعد حظا من زميله وعملنا علي تعيين ثالث.. فلحق بزميله ولما يستمتع بالرئاسة طويلا! وعندئذ اقترحت علي السيد حمام، أن نضع مانشيت في صدر الجريدة يتضمن هذه العبارة: المطرقة: معهد لتوريد مساجين بالجملة والقطاعي! وحاولنا أن نجد رئيس تحرير جديداً.. فلم نوفق.. لقد كانت رئاسة تحرير المطرقة معناها النزول في ضيافة مصلحة السجون بين طرفة عين وانتباهتها. وكان المعارضون يهتمون أشد اهتمام بالمطرقة اذ كانت الجريدة الشعبية التي يعتمدون عليها اعتمادا كبيرا في شقلبة الوزارة القائمة.. واتصلنا بأحد أقطاب المعارضين- وهو الآن صاحب دولة وهيل وهيلمان- وطلبت اليه ان يبعث الينا بأحد الفدائيين من أنصاره ليتولي رئاسة التحرير أسبوعا يتفضل بعده إلي السجن معززا مكرما. وبعث إلينا بمحام في الخامسة والثلاثين من عمره، مهول المنظر جهوري الصوت خيل إلينا حين رأيناه أنه سبع البرمبة غير منازع! واتصلت به تليفونيا- اذ كانت ادارة الجريدة محاصرة بكردون من الجند يترقبون تشريفي- وهنأنه علي الرئاسة.. فقال إنه مستعد لكل تضحية.. غير انه يريد مراجعة بروفات المقالات قبل نشرها حتي يتفادي المسئوليات. ورأيت انه علي حق.. فأمرت رئيس المطبعة ان يعرض عليه مواد الجريدة لمراجعتها. كنت في ذلك الحين، أرسل المواد الي الجريدة برسائل مختلفة لاتفادي الوقوع بين ايدي البوليس، ثم اتفاهم مع مدير المطبعة تليفونيا علي تنظيم المواد. وفي الليلة المحددة لطبع الجريدة، اتصلت بمدير المطبعة وسألته: «هل بدأتم الطبع»؟ فأجاب بالنفي وقال ان رئيس التحرير قد ابقي البروفات لديه قائلا انه سيراجعها علي مهله بعد الاستئناس بقانون العقوبات وأقوال الشراح ومراجعة الأحكام التي صدرت في قضايا النشر! ولما أفهمه العامل ان لصدور الجريدة مواعيد محددة شخط فيه قائلا: -وايه يعني ياسيدي لما يتأجل صدور الجريدة يومين ثلاثة؟ هيه الدنيا حاتطير؟! دي بتبقي قضية جناية ونؤجلها بالشهر والاتنين!! ولم يسعني إلا أن أغرق في الضحك وشر البلية ما يضحك.. واتصلت بالقطب المعارض فقال: كلام إيه ده؟.. اطبعوا الجرنال وما تسألوش فيه!! وهكذا دارت الماكينات، وصدرت المجلة ووزعت في أنحاء البلاد.. وبعد يومين ذهبت لزيارة رئيس التحرير في مكتبه الخاص الذي يزاول فيه المحاماة، فوجدته قد أغلق علي نفسه الباب، وانهمك في مراجعة البروفات.. بروفات المقالات التي طبعت ووزعت ونفدت من السوق.. واستقبلني بقوله: افتكر أنا اتأخرت شوية.. فغالبت الضحك وأنا أقول: - أبدا.. علي مهلك يا أخي.. فقال: (علي كل حال.. المقالات ما فيهاش حاجة).. فقلت: «إذن تؤذن للمطبعة بالعمل».. ثم ادرت قرص التليفون وأوهمته أني أتحدث الي مدير المطبعة وأمرته بطبع العدد.. وبعد دقائق غادرنا المكتب وكان في ميدان الملكة فريدة فلم نكد نقطع بضع خطوات حتي تصدي لنا أحد باعة الصحف يعرض علينا «المطرقة».. فاشتري نسخة وتصفحها ثم التفت إليّ قائلا في دهشة: -الله.. هو العدد لحق ينطبع ويتوزع؟! فقلت له علي الفور: -أمال يا استاذ؟.. أنسبت أننا في عصر السرعة؟! فأخذ يهز رأسه في إعجاب ويقول بصوت مسموع: -برافو!.. برافو!.. ما كنتش اظن ان عندكم هذا الاستعداد المدهش! وكنا قد تعمدنا تخفيف وطأة الحملات علي الحكومة، ابقاء علي رئيس التحرير حتي لا يلحق بزملائه في السجن.. ولكن حدث ان الاستاذ حمام، أنشأ قصيدة فكاهية ورد في مطلعها: اسم علم يطابق اسم عقيلة احد الوزراء، فتوهم رئيس التحرير ان المقصود هو التعريض بقيلة الوزير، وعبثا حاولنا إفهامه مطلع القصيد من الشعر القديم ولم نغير فيه حرفا كما ان سياق الشعر لا اثر فيه لما يتوهمه من تعريض.. لكن رئيس التحرير- الله يمسيه بالخير- كان عسير الفهم الي جانب كمية كبيرة من الرعونة.. فانطلق الي قلم المطبوعات بوزارة الداخلية ومعه نسخة من العدد، وقال لهم: -أنا معترض علي نشر هذه القصيدة ولست مسئولا عنها وطالع الموظف المختص، تلك القصيدة فلم ير فيها ما يؤاخذ كاتبها عليها فسأل رئيس التحرير: -ماذا في هذه القصيدة؟ -إزاي : دي فيها تعريض صريح بحرم فلان باشا! وازاء هذا التغيير الذي تبرع به رئيس التحرير الشملول.. تحركت اسلاك التليفون بين الداخلية والنيابة العامة ولم تمض دقائق حتي مثل رئيس التحرير امام المحقق وبعد كام سين وكام جيم سيق الي السجن رهن التحقيق.. غير مأسوف عليه! وتمكن البوليس من أن «يصطاد» الزميل «حمام».. وان يدفع به الي السجن مع زملائه السابقين!.. وفي إحدي جلسات المعارضة.. قف الاستاذ وهيب دوس بك، ومعه كتاب من كتب المطالعة.. وفيه مطلع القصيدة وموضوع التحقيق وانحي باللائمة علي «النيابة» التي تتعسف في التغير وتتصيد التهم للناس من الهواء.. فقاطعه وكيل النيابة بقوله: -مش احنا اللي بنقول كده.. ده حضرة رئيس التحرير الذي يقول ان المقصود بالقصيدة هو التعريض بحرم فلان باشا!! وبوغت الاستاذ وهيب بك ونظر الي رئيس التحرير.. والمحامي الخطير، نظرة معناها: -الله يسود وشك يا حضرة الزميل!.. ومما يذكر ان النيابة أفرجت فيما بعد، عن الاستاذ حمام، وعن جميع الذين اعتقلوا بسبب هذه القصيدة ما عدا رئيس التحرير.. الذي ظل تحت التحقيق زهاء شهرين!.. وقد حفظت القضية فيما بعد.. وخرج رئيس التحرير الشملول من مسجنه..وإذا به يسارع إلي «الأهرام» وينشر خبرا مفاده أنه قرر اعتزال الصحافة!! ولعل هذا القرار، كان الخدمة الوحيدة التي أداها حضرته للصحافة!!..