نظر في ساعته وهب واقفاً، قاصداً محطة القطار. حاول رفاقه إقناعه بتأخير السفر، حتي يستطيعوا أن يحجزوا له تذكرة إلي القاهرة، لم يصغ إليهم.كان يردد في نفسه لن انتظر ساعة واحدة في هذا المكان، لقد اختنقت. ربما لم يكن المكان بهذا السوء، لكنه شعر أنه سيقضي عليه إن لم يغادر. أسرع إلي المحطة، فوجد شباك التذاكر مزدحما، الكل يردد "الشبكة واقعة". قرر أن يسافر بدون حجز، سأل عن موعد قيام أول قطار، كان في الواحدة ظهراً، نظر في ساعته، كانت لا تزال الثانية عشرة والنصف ظهراً. تنفس بعمق محدثاً نفسه: هانت. علي الرصيف عدد غفير من المنتظرين، ساوره القلق.. هل ينتظر كل هؤلاء نفس القطار؟ تطلع في وجوه الواقفين.. مجندين.. طلاب.. عجائز.. ملتحين ذوي جلاليب بيضاء قصيرة.. بائعي السميط والجلاب.. أصوات ضحكات وصراخ الأطفال ونهر الأمهات لهم.. شيالو المحطة.. الجو خانق حار، أحس أن الشمس قد دنت من رأسه. استنقذه صوت القطار معلناً عن وصوله، ركب وبحث لنفسه عن مقعد. كانت العربة الثانية شبه فارغة من الركاب، ابتسم وجلس علي أول كرسي بعد الباب. تحرك القطار.. نظر إلي الرصيف متمتماً مع السلامة غير آسف عليك. سأل الكمسري عن التذاكر، فقال له لم أحجز، قطع تذكرة، لكن دون مقعد.. هكذا أبلغه الكمسري وهو يناوله التذكرة. الجو حار جداً تساءل الجالسون: هل المكيف مغلق؟ فأجاب الكمسري: لا ياجماعة، لما القطر يجري شويه هيشتغل كويس، وترك العربة إلي التي تليها. مرت ساعة ولم يشتغل التكييف، زادت حرارة المكان أكثر. توقف القطار وصعد ركاب جدد، فُتح باب العربة، أحس الجالسون بشيء من النسيم، سرعان ما تبدد حينما دخل حشد من الركاب. أحس كأنهم جميعاً يقصدون هذه العربة. أخذ ينظر في أوجه الباحثين عن مقاعدهم بريبة، خشية أن يكون من بينهم من يقصد مقعده. كلما نظر أحد إلي رقم الكرسي، اصفر وجهه واقتضب، وعندما يتركه إلي آخر ينفرج، استمر الحال حتي جاء رجل يرتدي عمامة وجلبابا أبيض. بدا من ملامحه أنه جاوز الستين من عمره. ابتسم وقال: مش دا الكرسي رقم واحد. ابتسم بضيق وقال: أيوه تفضل. قام يبحث عن مقعد آخر، انتظر حتي هدأت الحركة وتحرك القطار. وجد مقعدا مقابلا للمقعد الأول ولكن علي الجانب الأيسر من العربة فهرع إليه.. بائعو الجلاب والحمص يقطعون القطار ذهاباً وإياباً، ويقطعون الصمت بنداءاتهم.. أحلي من العسل يا جلاب.. تسالي.. حمص.. تسالي. الركاب معظمهم يمسك بجريدة كانوا يأملون في قراءتها، لكنها بدت لهم أكثر فائدة في التهوية. يمر بائع الشاي، شاي.. شاي يا افندية. الجو حرارته ترتفع، أصوات الركاب تتعالي، أحياناً متذمرة وأخري تتسائل عن أحد يُشغل لهم التكييف. يئس الجميع من استجابة مطلبهم، فساد الصمت، ثم توقف القطار. بدأ يشعر بسرعة دقات قلبه، صعد جموع من الناس، عاوده القلق علي مقعده، تساءل في نفسه: هي الحكاية إيه النهارده؟!. سرعان ما تفرقت الجموع علي العربات، إلا من اثنين كانا قد ركبا من دون تذاكر، ولم يجدا مقعدا خالياً فظلا واقفين. بائع الجلاب آخر العربة يصيح.. أحلي من العسل ياجلاب.. الستة بخمسة جنيه. الجو مازال حارا جداً، تهوية الجرائد لم تعد مجدية. أحضر أحد الركاب أحد عمال القطار؛ فقال: التكييف ضعيف. كلما توقف القطار ينظر إلي الصاعدين والواقفين، فيشعر برهبة فقدان مقعده. قرر أن ينشغل بمن حوله، وبدأ بالرجل الذي أخذ منه مقعده الأول. كان مع صحبة من أعمار مختلفة، لكنهم بدوا متآلفين. تارة يضحكون وأخري يأكلون ويثرثرون، كانوا يختلسون النظر إليه أيضا. قال أحدهم: - والله دا حرام اللي بيحصل فينا دا، دي مش عربية دي فرن. نظر إليه مبتسماً وقال: - عندك حق مش عارف ليه مايعملوش صيانة دورية. تجاذب معهم الحديث عن أحوال البلد ومشاكله، إلي التجارة وحالها، ثم السياسة وبرامج المرشحين للرئاسة القادمة وشخصياتهم، تباين الحديث بين الجد والسخرية التي لم تخلُ من النكتة، فنسي خوفه علي المقعد الأخير. أوشك القطار أن يصل إلي محطة مصر،أدرك أنه لولا صحبته لكان أمضي وقته مترقبا في كل محطة، مرتاباً من كل صاعد.