حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقدمات لا بد منها لفناء مؤجل:
خطوات فوق تخوم الموت والحياة
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 07 - 2015

تمثل المجموعة القصصية الصادرة عن دار العين " مقدمات لابد منها لفناء مؤجل" للقصاص الأردني هشام البستاني ساحة منازلة فكرية ووجدانية مع الذات والوجود ، معارك يخلقها القصاص مع ذاته وأفكاره تجاه الحياة، الحياة التي يراها علي هذا النحو بعد أن يفجر مشاهدها الواقعية ويعيد ترتيبها فنيا علي نحو خاص ، يخلق قصا في حالة اشتباك برزخية مع الموجودات ليدعو قارئه لحالة من التأمل العميق.
حالات فكرية وعاطفية تنتاب الفرد فلا تختبئ بل تظهر صارخة تارة، وتكني وتومئ تارة أخري ؛ لتنقل مجموعة من المشاعر المركبة الموضوعة في إهاب مبتكر من التخييل الباحث عن الإدهاش وربما الغرابة، فهو قص يباغت أذهان البلهاء، الخانعين للمتوقع والمعتاد .
حين انتهيت من قراءة المجموعة تهيأت لي غرفة زجاجية مستطيلة والقصاص بداخلها ، وحدث أنني جلست لأراقب ظلاله و ذواته وكائناته الداخلية وهي تتصادم وتتداخل ، تنفذ إحداها في الأخري، أو تفارق ذاتها لتنفذ في أشباح الآخرين المهمشين ، تعبر أحيانا كشعاع مارق يلتقط ومضة جوهر الوجود البشري، أو تريق دماء الذات التي تقص وتنثر قلقها وكشوفاتها علي هذا الوجود.
لا يُشعر هشام البستاني متلقيه أن العلاقة بين مجموعته وبينه علاقة حبل سري فلا مسافة، بل علاقة التصاق مباشر، تعلق حد الالتحام ، امتزاج علي نحو خاص سيأتي تفصيله.
فهناك تواطؤ بلا شك من القصاص مع ذاته وإبداعه بتقنياته لدفعنا نحو متاهة لا ينكرها، بل يصرح بها منذ ثاني عتبات المجموعة حين يكتب علي الغلاف "متاهة قصصية"، كما أن الإهداء للكون وليس إلي الله بالتصور الموروث الذي نعهده حيث يقول:" أما الإهداء فللكون وحده، لروعته، ولصبره الطويل علي ما نرتكبه بحقه من جرائم." ص5 .
كما يقول أيضا: " فهذه الأرض إرث لهذا الجنس الوسخ من الآلهة الوضيعة . إله عبد لإله عبد" ص15 .
عاشق التخوم:
هناك إذن قصاص يناوئ العالم، يوجه عينيه نحو واقعه غير المنصف، ومقولاته الموروثة الراسخة، فيدفع بإبداعه للمدي وكأنه يقول: المجد للاستثنائي. حيث يصبح الجمال فنا بقدر ما يناوئ الواقع في نقطة تماس شديدة التوتر ثم لا يلبث ان يفارقها ، يتحرر منها ويذهب لعالم مخيلته التي يبدو فيما رأيت أنها ترسخ فكرة أن النص يصبح فنا حين يقتنص الهارب والخاطف، الحقيقي الذي لا يمر إلا كومضة نادرة بحياة الإنسان، يقتنص من الواقع علي سبيل المثال قيمة الحرية المنبوذة من مجتمعاتنا العربية وهي ملتصقة بحائط تقضم أظافرها هشة خائفة، يلتقط هشاشتها في هذا الواقع القمعي والأمني ليصنع لها عالما من مخيلته حين يجسد افتراس الضعيف وتكسير عظامه في أول قصص المجموعة ، يصبو القصاص للحرية في صولاتها مع الذات داخليا، أو في عوالمها الواقعية، فيصورها وهي ذبيحة للقوي القمعية الغاشمة والسلطات بكل أشكالها.
ففي قصة " قبل النهاية بلحظة واحدة " يقول علي لسان الشاب النحيل الغاضب من قتل رجال الأمن لابن الجيران في إحدي التظاهرات الذي تضخم حين حمل البندقية : " لا أعرف أحدا منهم ولا هم عرفوني ، لكنهم ضربوني بقضبان الحديد كأني مغتصب أختهم , أختهم حرية . أختي حرية، أخت الحرية." ص18 . تلك الحرية التي تتكرر علي لسان الشاب في لحظة قبل نهايته وكأنها أنفاسه الأخيرة التي يتمني أن يلتقطها من دون أن تسعفه، تتردد وكأنها كل أمنياته قبل موته.
في هذه القصة هناك ملمح تقني يتكرر في معظم قصص المجموعة ، هناك أصوات متعددة تقوم بسرد القصة، هذه التقنية التي تعد أكثر شيوعا في الرواية لأسباب فنية متعددة: منها اتساع رقعتها وأفقيتها، براح أزمنتها وتنوع أماكنها، تعدد عوالمها وشخوصها، فهي صوت للعالم بأكمله وليس فردا وحيدا، لكن القصاص في مجموعته يوظف تعدد الأصوات بحنكة وتكثيف لا يخل بفنية القصة القصيرة ، ففي القصة السابقة هناك ثلاثة أصوات وثلاثة مشاهد مختلفة تحكي ذات الحدث في " قبل النهاية بلحظة واحدة".
في قصته "تلك النقاط التي تشتعل وتخبو" هناك صوتان يتحاوران ، لكنهما صوتان غير اعتياديين ، في كل صوت منهما علي حدة أصوات متعددة ومختلفة الحيوات لبشر أو جمادات تأنسن ، فالقصة تحكي عن لقاء بين "أنتَ" و"أنت" لقاء في محطة قطار ، لكن يخلق القصاص لهذا اللقاء صوراً متعددة وحكايات مختلفة؛ ليصنع هذا التنوع الافتراضي، هذا اللهو مع الكائن الذي هو الإنسان الذي رغم وحدة نوعه وأصله وتشابه مشاعره الجوهرية يبقي متعدداً ولانهائيّ الاختلاف، كما أنه يتجاوز بشريته ليحوله أحيانا لكيان آخر، هذا هو فعل المخيلة البشرية المبدعة، فعل الفن الذي يجمع ما قد يبدو لكثيرين شتاتا، فيأتي الفنان الذي يشير إلي وحدة هذا الوجود رغم تعدده ودورانه في محيط متسع من تعدد الأشكال في الكيان الواحد أو في وحدة الوجود.
هنا أتساءل لماذا يلجأ القصاص إذن لتلك التقنية التي تتعدد فيها الأصوات؟ أتصور لحساسية ورهافة ما يريد أن يجسده ويعبر عنه، ولتأرجحه بين صور الحقيقة المتعددة، ليقبض علي المتعدد في الواحد في النموذج الأول، الموت من منظورات متباينة، وفي النموذج الثاني علي الواحد في المتعدد لقطة الحب الوامضة بين كثير من الثنائيات.
الشغف باللحظات البينية :
للحظات الهاربة سريعا في ظني ألق خاص يستهوي القصاص، لحظات يبدو فيها الكشف أكثر وضوحا ، تمر الحياة بها وهي في جلوتها، حقيقتها أو جوهرها، نري العالم أكثر نصوعا ربما. تلك اللحظات البرزخية تخاتل القصاص دائما، ففي قصة " حافة النوم .. حافة التوتر" هناك لحظات مابين الحلم والحقيقة، وفي " قبل النهاية بلحظة واحدة" شريط سينمائي خاطف يمر سريعا مابين الحياة وهبوط الموت، في "المتاهة اللولبية" لحظة مابين الشعور بالاتصال حبا مع آخر أو الانفصال الشعوري عنه.
يمارس القصاص أيضا شغفه بارتياد كل التقنيات السردية والتجريب فيها "في التقنية الواحدة" وبها "في التقنيات مجتمعة " في النوع الأدبي الذي يراه الأقرب إلي ذائقته واختياره وقناعاته كما صرح مرارا، في زمن يسعي فيه الجميع للرواية حيث هي الأكثر رواجا وانتشارا لما تقدمه من عوالم سهلة منبسطة خالية من التكثيف أو التعقيد. و لإيمانه كما قرأت له في دراسة بعنوان " لماذا نكتب القصة القصيرة في زمن الرواية؟ " بأن القصة القصيرة فن خالص تتجدد حياتها وتزدهر بتطورها الفني عبر تطوير وتحديث تقنياتها، لذا نراه ساردا يؤمن "بعبر النوعية" فيوظف تقنيات الفنون كلها في ثنايا هيكلة إبداعه القصصي ليدفع بالمياه متجددة في هذا النوع الذي ينتصر له.
استوقفني ملمح فني في القصة السابقة حين أصاب القصاص تقنيتي المكان والزمان بالشلل النسبي، فهو غير معني بملابسات وزمان الحدث ومحيطه، في البداية لأنه متكرر مع الكثير من البشر بين الرجال والنساء، ثانيا لأن البؤرة التي يريد تركيز الانتباه عليها هو التقاطه للوهج الذي يشتعل بين اثنين امرأة ورجل، يومض شغف ما، ثم ما يلبث أن يخبو، ويتكرر هذا في متاهة لولبية، هنا يُحيد القصاص الزمان تماما ويتعامل مع عنصر المكان رمزيا حين يهيئ لقاءهما في محطة قطار تلك التي يروح ويجيء فيها كل شيء ، يقص بقصدية التعبير عن لحظة تشتعل ثم تمرق سريعا، إذ هي شاغله الأهم، لذا فهو يلهو بوعا ئي الحدث ويشل فاعليتهما نسبيا.
هنا أتساءل كيف يمكن للمبدع أن يلتقط هذا الخاطف والذاهب سريعا من الأحداث والمشاعر العادية التي تحدث في كل آن ، ألق لا يحدث إلا في جزء من الثانية فيوقفه ويستنطق تفاصيله الهاربة ويحوله إلي أدب يوصًّفه ويلتقط ما به من مغايرة فارقة، ما تفجر فيه، ويستكنه دلالاته وتأثيره علي الإنسان؟ انتقل إلي سؤال أعقد كيف ينتقل القاص لوصف هذا التخومي والبيني المرتبط بفردية الإنسان ثم إطلاقه ليعبر عن المتعدد المتكرر بأشكال مختلفة في الحياة البشرية ، ما التقنيات التي يتطلبها تحقيق هذا الهدف الفني الفكري؟
بالاستقراء النقدي تتعدد هذه التقنيات عند مؤلف " مقدمات لابد منها لفناء مؤجل" وتتسم بالتراكب والتعقيد لتعبر عن هذه اللقطات الحرجة والحيوية التي يمر بها الإنسان، يلتقطها ليكثف نحوها الضوء ويضعها في بؤرة السرد، يقبض عليها حالة حيويتها، فيدركها متلقية لأنها مراوغة سريعة التشكل والانسحاب.
حزمة من التقنيات الفنية المتراكبة في مجموعة مقدمات لابد منها لفناء مؤجل:
التناص :
يوظف القاص التناص بكل أشكاله، التناص مع فن السينما بتقنياتها المختلفة: المشهدية، التقطيع أو فن المونتاج، الاستعانة بأسماء أعلام مخرجي السينما مثل فيلليني في قصة "الحشر" أو أسماء شخصيات بعض الأفلام، أو اسم أحد العلماء في قصة "المدينة التي في صدري" "شرودنخر" ، التناص مع النصوص الإبداعية بكل أنواعها، مع الفنون التشكيلية والاستعانة ببعض الرسوم النحتية والتشكيلية في صفحات مفردة تصاحب السرد، مع المسرح وأعلامه، مع استحضار الشخصيات التاريخية من فلاسفة ومتصوفة في كل الموروث العربي والعالمي، كما أنه أحيانا ما يضع الهوامش لتيسير الدلالة علي القارئ.
الكتابة فعل تناص لا ينتهي لكن المؤلف في مجموعته يصنع التناص لمجرد الإشارة فقط أحيانا؛ لتستدعي ذاكرة متلقيه هذا الطقس الخاص الذي يشير له المبدع ويسقطه علي نصه، وكثيرا ما يوظف تناصاته للسخرية من كثير من الأقوال التاريخية المأثورة مثلما فعل في قصة "عذابات الحلاج"، أحيانا لاستدعاء مشهد ذي دلالة في ذهن القراء ليخدم نصه بشكل ما ويضيف له ثقلا من الذاكرة الثقافية.
ربما استعير فعل قارئة الفنجان التي وردت بإحدي قصص المجموعة لأتحول لقارئة أذهان، في ظني أن القاص هشام البستاني قد تساءل بينه وبين ذاته كثيرا كيف أخلق عالما لا يشبه العالم الذي نعيشه "الواقع " أو ما نطلق عليه واقعا، عالما خاصا لكنه لا يجافي الواقع تماما، يعلو فوقه ليستبطنه، يكثف لحظاته الفارقة في حياة المهمشين، أو الحائرين، يعري فجواته وشروره ، يقتنص مكامنه العميقة، في لحظات كشفه، في فرحه وغضبه؟ منطق فني يجعله يعود في الزمن يحفر في ذاكرة سنواته ويهدم ادعاءاتها، أو يرمم ثغراته، أو يسخر منها، فيستحضر بعض شخصياته يستنطقهم ويعيد لهم أصواتهم، أو يحدث ذواته المتعددة المتحولة الأشكال من بشر إلي جمادات أو أسماك أو أعضاء بشرية، أو يشتبك مع الآخرين الذين هم من صنع القاص في حالة انفصالهم.
فربما يخلق الرجل الأزرق البارد ويجعله رمزا لمعني آخر أو كناية عن تصور مخالف لهذا العالم والقوي المتحكمة بجوهره ، في "قبل النهاية بلحظة واحدة" ربما نراه إلهاً من خلق الكاتب لكن يتضمن ظلالا من فن السينما.
تبدو محصلة خامات القصة القصيرة في المجموعة " كولاج " قد تهيأ بطريقة اشتباكية من فنون مختلفة، لكل فقرة نسيج فني وخامة لها خصوصيتها، تتبدي البراعة من الكاتب في كيفية توليف هذه الأنسجة المتباينة وجعلها سبيكة متسقة، لكن قد يتطلب هذا التوجه الإبداعي قارئا صبورا علي العمل يشارك في فعل الإبداع، فلا يتوقع أن دلالة النص قد تقدم إليه دون بذل جهد، بل والتحلي بقدر لا بأس به من الثقافة التي تمكنه من تأويل كثير من الكنايات والرموز والتناصات بهذا العمل. وأتصور أن هذا القارئ في عالمنا نخبوي إلي حد كبير.
التقنية متعددة المستويات :
يكتب هشام البستاني القصة القصيرة بروح الرواية ودمائها ، يرسم شخصية قصصه بسمات الشخوص الملحمية، قصص المجموعة مكتملة تصنع ذاتاً ملحمية تحمل مأساتها الممتدة عبر الأزمان والأماكن. فالذات في كل هذه القصص رغم اختلافها وتكونها من شخوص إلا أنها ذات واحدة مأزومة، ربما بدا الوعي مأساتها الحقيقية.
الذات في المجموعة القصصية أيضا ذات منشقة عن نفسها ، تمتلك وجوهاً متعددة فالقصاص يتعامل مع الذات في القص كأنها وجود آخر يفصله عن المكون الأم ويحاوره، يسخر منه، في قصة " في انتظار 0,01 جزء من الثانية" يقول : " أتركني في كرسي الحديقة وأذهب لأتمشي قليلا . لا شيء يحدث لا شيء البتة. أنا والمنتظر نشبه بعضنا بعضا ، أدور حوله وأتأمله.."51 .
في »يحدث بعد منتصف الليل بقليل" تتكرر هذه الذوات لكن بنزعة إلي العنف و رغبة في النهاية التي تقترن بالديدان السائلة من وجهه في نهاية هذه القصة، وعند اكتمال صدع المرآة يقول: " في تلك اللحظة اكتمل صدع في إحدي قطع المرآة المشظاة التي سبق له أن لكمها وظهر وجه آخر "
الوجوه في هذه القصة لا تنتهي وفي كل مرة من الصدوعات يتوالد وجه آخر.
في " زمن الرمل الآتي لا محالة" يقول : "شخص آخر معي . أذلك أنا أيضا ؟ يكون أنا ؟ لا أدري ؟ " 59 .
حالة من الضياع أو السوداوية المنسدلة علي هذه الذات التي يصبح من العبث معها التساؤل لماذا تبدو هكذا؟ ما كل هذه الطبقات من الكآبة والضياع؟ ربما علينا فقط أن ننظر حولنا ونحن نعيش هذه التحولات العربية شديدة العبثية، وما كنا نأمله من الحريات بعد ثورات عدة مرت بالبلاد لندرك أن الفنان مهما كان بينه وبين المحاكاة والانعكاس من قطيعة إلا أنه لا يغادر الوجود إلا بمسافة امتصاص رحيق جوهره، ثم صياغته علي نحو ابتكاري.
يعد العمل مجموعة قصصية يقول عنها مبدعها أنها متاهة قصصية وهي بالفعل هكذا ، القصص منفصلة ، لكنها متصلة ، مكونة من مدخل وعشر قصص وتتضمن كل قصة مجموعة من العنوانات الفرعية تحت عنوان أم رئيس.
كما تبدو عنوانات القصص كأنها حكاية للحدث، حكي وصفي، فالقصص لا تعنون باسم، أو مضاف ومضاف إليه، لكنها تتكون من جملة مكتملة وأتصور أن لجوء القاص لذلك لعدم كفاية المفردة، أو الاثنتين معا لتلتقط تلك المنطقة البينية البرزخية التي غالبا ما يريد التركيز عليها.
الصدمة (آلية للشحذ):
في مستهل قصة " يحدث بعد منتصف الليل بقليل " هناك سيجارة بين أصابعه تتحرك بها الديدان، في الجزء الثاني مباشرة هناك لفظ بذئ بغرض السب، وتتكرر هذه الصدمات في القص كثيرا ولا أتصور أن القصاص يوظف هذه الأساليب الصادمة بقصد التحلل الأخلاقي، أو قصد المغايرة فقط ، أو مسايرة فئة جديدة من المتلقين الذين تتداول بينهم هذه المفردات، لكنه نوعا من شحذ الانتباه والاستحواذ علي مشاعر متلقيه كما في مشهد سينمائي يظل انطباعك الأول عنه مقيما ومستقرا بنفسك، فكأنك تستحوذ علي متلقيك ثم تبدأ بجذبه بالمغاير الصادم فنيا علي نحو غريب، ولذا يظل يراكم بصماته بداخلك بعدما صنع من صدمة أولي.
يستنفر انتباه متلقيه كما تصدمنا الحياة كثيرا بما يفوق تخيلاتنا وتوقعاتنا، يقدم الفن بدوره الطليعي انتفاضة تنشط اليقظة ربما نري الوجود علي نحو آخر، نغادر ملله، بل نكوره لنلقيه في بحيرة راكدة طالما سئمنا من موجاتها المدجنة لنمحوهما معا من جغرافيا الوجود المقيد.
التكرار والوجود الدائري:
هذه المتاهة القصصية تحمل جينات الوحدة وهي رغم انفصالها متصلة كمجموعة كاملة ، كما أن كل قصة تتضمن أصواتا متعددة ، أو ذاتا واحدة منقسمة وتمتلك أقنعة مختلفة، تطلّب هذا أن يلجأ القاص لتكرار بعض الجمل والمفردات مثل أن يكرر قوله " لا أعرف" بصيغة ثابتة، وتتكرر في كل فقرات قصة "يحدث بعد منتصف الليل بقليل".
أو التكرار المتحرك الصياغة في القصة نفسها لجملة "عشرات الرؤوس الصغيرة المتماثلة من الديدان التي تحدق فيه دون أن تتغير ملامحها". ص25 .
تبدو هذه الجملة بتنويعاتها وكأنها قفل في قصيدة ، تفتح آفاقا لأبعاد معقدة في الذات ومركبة، محبطة المشاعر، يدور بها العالم لتقع في نفس الفخاخ مرات ومرات.
تكرار دقات الساعة " تك تك تك .." وكأنها فعل وعي بالزمن و تشظي الذات الضائعة بداخله وربما أيضا فعل مقاومة غير معلنة.
مستويات لغة المجموعة:
تتبدي في المجموعة مستويات متعددة من اللغة تجمعها مظلة شعرية فضفاضة التنوع والابتكار، يتقصد فيها المبدع الخروج عن كل ما هو تقليدي ومعلب ومستهلك في السرد الكلاسيكي، لذا بدت شعرية سرد هذه المجموعة متسقة مع شعرية اللغة في مجموعته السابقة " أري المعني" ، ففي قصصه " مدار الرؤية" و"عذابات الحلاج" و"مهرجان الألوان الملونة" و" قبل النهاية بلحظة واحدة" تتبدي الكثافة الشاعرية والتقاطه للمجاز المتباعد الاطراف والعلاقات، كأن يقول في مستهل مدار الرؤيا:" شيء ما بيننا. لا ، إنه ليس الكاميرا المعلقة في زاوية الجدار، تمتصنا بعينها وتبثنا علي شاشة بعيدة " 145، أتصور أن القصاص يتحري البحث عن جدة العلاقات وغرابتها، وهو ما يؤسس لتعامل خاص مع وظيفة المجاز ومذاق مختلف للشاعرية ورغبة في تحديث عناصرها الافتراضية ، هناك ملمح آخر يضاف لطبيعة شاعرية هذه القصص الواقعة بين الديوان والمجموعة القصصية، يتمثل في توظيف الكاتب للغة الحقيقة، و تقنية الكناية التي تقترب من المجاز في علاقاتها الإيحائية والرمزية من خلال الصورة المتخيلة، مثل أن يقول في نفس القصة :" أمد أصابعي في المسافة التي تفصلني عنك ... تمر بشكل عادي لكنها لا تصلك ، لا تلمسك، كأنك دائما أبعد قليلا من مكان الصورة التي يرسمها دماغي. كأنك خلف ستارة من الماء." 145 .
في المجموعة بعض الدوال المهيمنة علي النصوص ، دوال تظهر أحيانا بلفظها أو تظهر كثيرا بظلالها المختلفة علي مجمل المجموعة، وفعلها علي السرد بقصصه المتعددة منها دال "الدائرة" التي تظلل قصص" المتاهة اللولبية، اكتمال الدائرة، عذابات الحلاج". أيضا هناك دال "السخرية" التي يصوبها القصاص علي كل الأقوال المأثورة لأعلام التاريخ في الحضارة الإسلامية في" أطروحة في العشق والتصبب" أو "عذابات الحلاج" . دال "المدينة" التي يصبو إليها المبدع ولا يجدها، يبحث في صدره أو فوق الرقع الجغرافية الشاسعة، لعل الذات المأزومة تلك تجد مدينة حقيقية لا تمحو ذاكرة تاريخها وتغسل ذاتها من شرور سلطاتها في " المدينة التي داخل صدري" ، والمدينة التي علي الشاطئ".
الموت دال وعنصر جوهري في كل قصص المجموعة تقريبا، الموت قمعا أو انتحارا أو كآبة، أو الموت المعنوي، أو الموت بفعل الزمان ، يبرز هذا الموت والفناء الذي لا يبدو فناءً بل يدور في الكيان الوجودي الدائري الذي أشرت إليه سابقا كيانا ثقيلا وضبابيا في أدب يمارس فعل المقاومة علي طريقته، المقاومة علي شاكلة لم تعتدها الكتابة التقليدية، مقاومة لإعادة الوعي وتنشيطه، لتوجيه الصفعات المشحونة بطاقة الفن الحقيقي علي الوعي الراكد، المستسلم للواقع المعتم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.