حنونة بقلب فسيح.. رقيقة بوجه صبوح.. باسمة في كل وقت.. سمحة النفس والفكر.. معطاءة للجميع في صمت.. نموذج أمثل للأمهات دون أن تهنأ بالأمومة.. ففردت جناحَيْ حنانها وعطائها علي تلاميذها طوال نصف القرن الماضي.. أغدقت عليهم من فيض فنها وعلمها وتجاربها وسماحتها، حتي صار كثيرون منهم أساتذة يزاملونها بكلية التربية الفنية بالزمالك، ويواصلون الدور والدرب حتي أصبح بعضهم عمداء للكلية، وظلوا أوفياء لأمهم الروحية... غير أن مخزونها الأمومي وفرط دافعية العطاء بداخلها كانا أغزر من أن يقتصرا علي أجيال الدارسين في الكلية، فامتد العطاء إلي مئات آخرين من الأطفال، أقامت من أجلهم ورش عمل لتنمية مواهبهم في النحت والخزف. بمتحف مختار ومتحف الفن الحديث وقرية شبرامنت وحديقة منزلها ومرسمها بطريق الحرانية قرب هرم سقارة الذي وهبته لوزارة الثقافة وهي تعيش فيه، ليكون متحفاً لأعمالها وأعمال زوجها الفنان الراحل زكريا الخناني، بعد أن احتضنت -علي كِبَر- موهوبته في النحت وتشكيل الزجاج المصهور، بنفس تواضعها وإيثارها، هو المهندس ذو الطبيعة والمسيرة العسكرية الذي عشق الفن علي يديها وشرب من منابعها حتي ارتوي، وصار إسما لامعاً في مجال الإبداع، وباتا صنوين، إسمه قرين باسمها لايفترقان -في المعارض الفنية- مثلمها لم يفترقاً في العلاقة الإنسانية.. إلا بالموت.. عن عايدة عبدالكريم التي فارقتنا في شهر مايو 2015 أتحدث.. ولدت في إبريل 1926 مواكبة لميلاد أبناء الجيل الذي أسس نهضة فنية خصبة في مصر.. جيل الأربعينيات والخمسينيات، مثل الفنانات تحية حليم وإنجي أفلاطون وجاذبية سري وزينب عبدالحميد، ومن قبلهن عفت ناجي ، وقد دخلن في منافسة إبداعية حامية مع زملائهن الرجال من نفس الجيل مثل: عبدالهادي الجزار وحامد ندا وماهر رائف وحامد عويس ويوسف سيدة وسعد الخادم وراتب صديق ورمسيس يونان وكامل التلمساني وفؤاد كامل.. ذلك الجيل الذهبي الذي استغرقه حلم الثورة والتغيير مع حلم الولوج إلي عالم العصر الحديث بلغته الفنية المغايرة. غير أن عايدة تميزت عنهم جميعاً بتخصصها في مجال النحت والخزف فترة دراستها بالمعهد العالي لمعلمات الفنون الجميلة (1942-1947)، إثر عودتها إلي مصر من بعثة إلي انجلترا عام 1949، ثم استكمالها للدراسة بمدرسة الكور كوران بواشنطن 1954، ثم بالجامعة الكاثوليكية بنفس المدينة 1955، قبل أن تحصل علي دبلوم الدراسات العليا للنحت من أكاديمية الفنون الجميلة بالمجر 1970. هي -إذن- أول نحاتة في تاريخ النحت الحديث في مصر بعد مختار، وأول من استكمل دور الفنان الرائد سعيد الصدر في مجال النحت الخزفي الذي لم يستمر فيه طويلاً حيث تفرغ للإبداع في الآنية الخزفية، لتواصل هي المشوار حتي النهاية باحثة عن أشكال وخامات عدة للنحت، بين الطين المحروق والحديد والزجاج المصهور، محققة -عبر هذا التنوع- شخصية واحدة ومتفردة، تنهل من معين البيئة والطبيعة علي ضفاف النيل والحياة الشعبية، ومن معين التراث الحضاري المصري بطبقاته المتتالية، ومن انجازات مدارس الفن الأوروبي والعالمي قديماً وحديثاً. ان المعركة التي كان يخوضها فنانو جيلها لم تكن من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ومواجهة للإبداع الفني الآخذ بأساليب الحداثة في غياب الذائفة الجمالية التي تتلقي ذلك الإبداع، حتي بات الفنان أسيراً لعزلته عن جمهور يتفاعل معه، إلا من شريحة ضيقة علي هامش الفئات الميسورة تكون ذوقها علي فنون المستشرقين وإبداعات جيل الرواد وتلاميذه النمطيين في الثلاثينيات، الذي انغرزت أقدامهم في أرض رخوة من تقليد الطبيعة ومحاكاة أساليب الرواد الأول وسدنة الدراسة الأكاديمية المحنطة ممن ثار عليهم جيل الجماعات الفنية في الأربعينيات، بدءاً من "الفن والحرية".. تلك الجماعات التي أخذ بعض فرسانها بحلم الثورة علي القديم والتقليدي إلي نوع من الإيمان الرسولي بالحداثة علي الطريقة الأوروبية، وأصبحت لمدارسها الحداثية الثورية قداسة لديهم، مثل السريالية والتجريدية والتكعيبية (جماعة الفن والحرية)، وتحولت قناعات بعضهم الآخر إلي الغوص في غرائبية الموروث الشعبي والسحري واستحضاره في تجليات معاصرة تعبر عن الغيبوبة والاستلاب لسلطان الموروث (جماعة الفن المعاصر)، واختار تيار ثالث المزاوجة بين الحداثة والثورة علي خلفية، اجتماعية، باستحلاب فرسانها لأساليب فنية من نهر المدارس الغربية، يعالجون بها موضوعات عن العمال والفلاحين والكادحين من أجل العيش، أو عن إنماط مصرية شعبية تهفو إلي التقدم (جماعة الفن الحديث).. لكن هذه القناعات جميعاً بكل توجهاتها وتطبيقاتها انتهت إلي نوع من الأستعلاء علي الواقع بجذوره وطبقاته الحضارية، وإلي نوع من القطيعة مع ثقافة مجتمعية بشقيها الرسمي والشعبي. لعل ذلك كان ضمن ما دعا عايدة عبدالكريم للالتحاق بجماعة أخري مختلفة، وهي جماعة المفكر الرائد حامد سعيد في الخمسينيات، حيث تطلع إلي تغيير المعادلة الصعبة التي استقطبت أبناء ذلك الجيل، معادلة الثورة والحداثة، فجعل قطبيها: الطبيعة والتراث الحضاري الإنساني، وجعل محصلتها الهوية المصرية، التي تتبلور كنتيجة للبحث التأملي في الجوهر أكثر من الشكل، وصولا إلي "كُنه الشكل"، باستكناه الجوهر، وتجليه في إسقاطات روحية مطلقة أكثر من كونها رؤي بصرية عابرة.. ربما جاءت تأملات حامد سعيد صوفية الطابع- عبر محاضراته الأسبوعية المنتظمة لمريديه بمركز الفن والحياة بسراي المانسترلي بالروضة، ثم بيت السناري بالسيدة زينب، وسبيل أم عباس بحي ابن طولون بالقلعة، بدعم من د.ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك، وأخيراً بمنزله الذي بناه المعماري حسن فتحي بالطين بحي المرج، مع الوجبات النباتية المتقشفة في حضن الطبيعة الريفية (التي تقدمها زوجته الفنانة إحسان خليل)، ربما جاء كل ذلك متوافقا مع الطبيعة السلامية لعايدة عبدالكريم، المتأملة للطبيعة، والنائية عن الصراع المذهبي وعن حدة التعبير ومغالاته في اتجاه الحداثة، فأخذتها فلسفة الجماعة إلي رؤية تحليلية للأشكال في الطبيعة، بحثاً عن جوهرها ومحتواها الروحي أكثر من البحث عن انقلابات جذرية لتلك الأشكال ، عبر أساليب غربية وغريبة تنتمي إلي التطور الثقافي للمجتمعات التي نشأت فيها، قبل أن تنتقل إلينا مع موجات ثقافية وافدة ضمن أصداء الحرب العالمية الثانية، حتي ولو ارتبطت بالثورة علي نظمها الاستعمارية والنازية والفاشية ومشعلي الحروب وتجار السلاح فيها.. هذا ما نستشعره في تجاربها في الخمسينيات والستينيات التي قامت علي تحليل أشكال النباتات والطيور والحيوانات في علاقتها بالإنسان عبر سياق تكاملي يوميء إلي الإنسجام والتكامل بين الكائنات في الكون، مصدرة للإنسان في حالة من التسامي والسلام والترابط والمحبة، فيما تقدس قيم الأمومة والعطاء، إلي الحد الذي تجعل فيه الوليد متماهياً مع الأم كما لو كائنا في رحمها لايزال. لقد تفتح عقل وقلب عايدة لامتصاص هذه الرؤي، حتي أفرزتها في أعمال نحتية تستقي مادتها الخارجية من مفردات الواقع، فيما تستقي مادتها الداخلية من ذلك التماهي الصوفي بين المادة والروح، وجعل من كافة المخلوقات أسرة يتعايش أعضاؤها في سلام كجسد واحد، كما رشحت علي شخصيتها حالة الزهد والتأمل والتسامي التي عاش فيها حامد سعيد، حتي جعلت منها امتداداً لجوهر فكره، شأنها شأن الكثير من مريديه من الفنانين الأوفياء مثل: خميس شحاتة، أنور عبدالمولي عبدالغني الشال، محمود عفيفي، راتب صديق وزوجته النحاتة عايدة شحاتة، يحيي أبوحمدة.. وآخرين كُثْر غيرهم، إلي جانب زوجته وتلميذته الفنانة إحسان خليل. لكن عايدة عبدالكريم كانت تتميز بينهم جميعاً بطبيعتها المالية للتأمل، والصمت، ولمداومة الإنجاز العملي تطبيقاً لمباديء حامد سعيد علي أرض الواقع بغير رغبة في الكلام، وقد وجدت في تقنية النحت بالزجاج المصهور مجالاً غنياً بالإلهام لتحقيق فلسفتها في تشفيف المادة وإضفاء الروحانية عليها، وفي تحقيق التوحد النوراني بين عناصرها ومفرداتها الجزئية، فضلاً عما يحققه ذلك من تواصل مع الفن المصري القديم الذي برع في تشكيل الزجاج المصهور. كما كرست جهودها لدورها التعليمي بكلية التربية الفنية، لا من أجل صناعة فنانين جدد فحسب، بل -أساساً- من أجل أن يعملوا كمدرسين بمراحل التعليم المختلفة، لإشاعة الثقافة الفنية والتذوق الجمالي بين الأجيال الجديدة في مدارسهم، ما يؤدي إلي خلق أرضية ثقافية عريضة تساعد في المستقبل علي تقبل المجتمع لإبداعات الفنانين، مما يعمل علي تجاوز العزلة بينه وبينهم. لم يقتصر دورها علي العملية التعليمية، بل امتد إلي العملية البحثية، حيث قامت بالإشراف العلمي علي عشرات الرسائل الأكاديمية في شتي الموضوعات ومجالات التخصص، سيمَّا مايرتبط منها بالتفاعل مع فنون الحضارات المصرية، وما يؤدي إلي التواصل التربوي مع المجتمع، ويدين لها بالفضل أصحاب هذه الأبحاث بامتلاكهم لمنهجها وتمثلهم لشخصيتها وتأسيهم بصفاتها، وهو ما تجلي بقوة خلال حفل التكريم لها عقب رحيلها بجمعية محبي الفنون الجميلة التي كانت عضواً بمجلس إدارتها، حيث توالت الكلمات والدموع لبعض تلاميذها من أساتذة الكلية، بدءاً من عميدها، د.محمد إسحق، وعميدها الأسبق د.حمدي عبدالله، ود.رقية الشناوي، ود.أحمد شحاتة.. وآخرين ، فضلاً عمن حالت ظروفهم من تلاميذها دون الحضور فأفصحوا في مناسبات أخري عن مشاعرهم نحوها، مثل د.فرغلي عبدالحفيظ، ود. سرية عبدالرازق صدقي. ود.أحمد عبدالكريم، ود.ثناء عز الدين، وكانت قد أشرفت علي الرسائل العلمية التي تحولوا بعدها إلي أساتذة، هذا بخلاف من رتبوا لإقامة هذا الحفل وعبروا عن نفس المشاعر، وعلي رأسهم الفنان د.أحمد نوار- رئيس مجلس إدارة الجمعية، والناقد محمد كمال، وركز أغلبهم علي أنها كانت أماً وراعية للجميع، وأبدي بعضهم أسفه لأنه لم يحاول بما يكفي لإعطائها ما تستحقه من تقدير وتكريم وهي علي قيد الحياة، ومن المحزن أنها كانت مرشحة -وهي تقترب من سن التسعين- للحصول علي جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلي للثقافة في دورتها الأخيرة، لكنها لم تفُزْ بها لعدم حصولها علي الأصوات الكافية من لجنة التحكيم، وربما لعدم معرفتهم بها، وليس هذا غريباً في حياتناً الثقافية، خاصة بالنسبة لمن ليس له صوت مسموع، فضلاً عن أنها لم تسع قط إلي ذلك، فكل ما كان يشغلها هو العطاء وليس الأخذ، وهو العمل المستمر ايضاً، حيث ظلت تعمل بغير توقف حتي أيامها الأخيرة، جاعلة من مرسمها ومتحفها مدرسة للإبداع والتنوير.. حتي سافرت سفرها الأخير في صمت وسلام روحي وتصالح مع نفسها، وبلهفة للقاء رفيق عمرها مثلما عاشت دائماً، لكن برحيلها أنفكَّ حزام الصمت من حولها، وتعالت الأصوات مطالبة بتكريمها التكريم الذي تستحق، كأيقونة للعطاء والأمومة الروحية. أعتقد أن عمرها المديد- بما يدنو من عمر أستاذها وشيخها حامد سعيد - كان بسبب ما جُبلت عليه من صفات العطاء والسلام الداخلي مع النفس، وهي صفات منحتها الطاقة المستمرة للعمل والمشاركة، ما جعل عمرها المديد أطول من أن يُحصي بالسنين.. بل بالأعمال.