في مقال بعنوان "ممل!"، نشرته مدونة "ورشة التاريخ الاجتماعي" بجريدة هاآرتس الإسرائيلية، كتب الباحث أفنير فيشنيتسار، الأستاذ في تاريخ الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب، عن تاريخ الملل في تركيا بين القرنين ال 19 وال20. كيف كان وصف النساء الشاعرات بالملل موضوعاً مفضلاً في الأدب التركي، وكيف حذرت السلطة من ملل الجنود وربات البيوت وحاولت محاربته طول الوقت، وكيف ميّز خطاب "شغل وقت الفراغ" بين الجنسين والطبقات الاجتماعية في تركيا آنذاك. نحن نتذكر إجازة الصيف في طفولتنا كسلسلة طويلة من النشاطات وقضاء الوقت يصحبها إحساس بالحرية والاستمتاع المتواصل. نميل لنسيان أن إجازات الصيف تميزت، بين وقت وآخر، أيضاً بعدم العمل وبملل غير بطال. قبل الخروج للإجازات بلحظة هو الوقت المناسب للتأمل التاريخي للملل. يربط غالبيتنا إحساس الملل بعدم العمل ولكن الأمر لا يتعلق بظاهرتين متطابقتين. عدم العمل هو غياب للفعل، أما الملل فهو وضع إدراكي من عدم الاهتمام. يمكن للإنسان التبطل بدون الإحساس بالملل، وعلي الناحية الأخري، أن يعمل ولا يزال يحس بالملل. يبدو أن الوضع الثاني، من العمل المصحوب بالإحساس بالملل يغدو أكثر وأكثر شيوعاً. فعلاً، الملل ليس من نصيب الأطفال وحدهم وغير محدد فقط بشهور الصيف. الآباء في حدائق الأطفال، السائقون في الإشارات، الطلبة في الفصل، الجميع يتلصصون علي التليفون الذكي كل عدة دقائق. يبدو أننا نحن أيضاً، وليس فقط أطفالنا، نحتاج لتدفق لا ينتهي من الإثارات كي لا نحس بالملل. كيف أصبحت هذه طبيعة ثانية لنا؟ مثل أية ظاهرة إنسانية، فالملل أيضاً يُحس به في سياقات ثقافية محددة تتغير بين مجتمع وآخر. يُفهم في تواؤم مع بديهيات محددة ويُشرح بأشكال مختلفة في فترات ومناطق مختلفة من العالم. منذ نهاية القرن ال19، وبشدة أكبر مع النصف الأول من ال20، بدأ منظرون مختلفون في ملاحظة الوفرة المتزايدة من الإثارة الحسية التي تميز حياة المدينة وتأثيراتها علي سكانها. هل الملل إحساس بالعدم يُحس به فقط لدي المقارنة بهذه الوفرة؟ هل لو كنا في عالم أقل اتصالاً وأكثر بطئاً كان الأمر ليصبح أقل أم أكثر مللًا؟ هل يشعر فلاح في إيطاليا القرن ال13، يحرث حقله لسبع ساعات متواصلة، بالملل؟ والجالسون في مقهي في قرية صغيرة في يونان القرن ال17، ويقضون كل ما بعد الظهيرة في نفس المقهي، مع نفس الأشخاص بالضبط، هل أحسوا بالملل؟ وهل نُظر إلي الإحساس بالكآبة في الماضي أيضاً كمشكلة، وإذا حدث هذا، فلماذا؟ الأخلاقيون العثمانيون المسلمون، مثل الكثيرين من قرنائهم في عقائد أخري، كانوا يحذرون دوماً من عدم العمل ورأوا في التبطل خطيئة، بل وخطراً علي أحوال المجتمع. ولكن في القرن ال19، في مقابل المركزية المتزايدة للسلطة وتدخل الإمبراطورية العثمانية في الاقتصاد العالمي الجديد بدأ التبطل يشغل الدولة. الخوف من إحساس الجنود بالملل، مثلاً، شغل قادة الجيش الجديد الذي أقامه السلطان العثماني محمود الثاني في 1826. اللوائح المصاغة لوحدات الجيش الجديدة أكدت بوضوح علي ضرورة التأكد من كون الجنود مشغولين طول الوقت. بالتواؤم مع هذا خُطط روتين المعسكر من أجلهم: من يقظتهم وحتي ذهابهم للنوم كان علي الجنود المرور من نشاط لآخر، تحت رقابة دائمة، فقط "كي لا يجلسوا بلا عمل"، بلغة اللوائح. لم يُنظَم الروتين العسكري وفق المبدأ الرأسمالي بأن الوقت يعني المال، أي أنه مخزون ينبغي استغلاله بالشكل الأمثل لصناعة الربح، وإنما نُظر إلي وقت الجنود، مثل وقت الأولاد في الصيف، علي أنه فراغ يتحتم ملؤه بوسائل "شغل الوقت". ولكن رسملة الوقت أيضاً فعلت فعلها. في النصف الثاني من القرن ال19 بدأ موظفو الدولة، المثقفون والمدرسون العثمانيون في التأكيد علي أهمية التنشط والإبداع للتطور الاقتصادي. انتشرت هذه الأفكار بواسطة الجرائد والمجلات للكبار والصغار، وعبر روايات تعليمية وقصص قصيرة وكتب تعليمية في المدارس. من الآن لم يعد التبطل مجرد خطأ أخلاقي وتهديد للنظام الاجتماعي ولكنه أيضاً أصبح ماسّاً بالاقتصاد الإمبريالي. علي هذه الخلفية، بدأ كتاب مختلفون في عرض التبطل كاختلاس من الواجب الوطني، بل وكخطر علي الصحة. خطاب الإبداع تركز علي عدم العمل، ولكن في أحيان متقاربة فقد استخدم الملل لدفع الناس ليكونوا مبدعين. الكتاب التعليمي لتلاميذ المقابل العثماني للمرحلة الثانوية شرح أنه عندما يتبطل شخص لدقائق فقد يستمر هذا لأيام بل وسنوات، وحث التلاميذ ليكونوا مجتهدين وليملؤوا وقتهم بالتعلم والعمل. هنا إشارة واضحة لهذا الوضع الإدراكي من عدم الاهتمام، ونعرف أن هذا الإحساس كان معروفاً بوضوح علي الأقل في هذه الدوائر الاجتماعية التي كُتبت لأجلها الكتب التعليمية. أكثر من هذا، فانعدام القيود الاقتصادية المختلفة (بشكل خاص بعد المعاهدة البريطانية العثمانية في 1838) أدي بالتدريج لرسملة وقت الفراغ. في النصف الثاني من القرن ال19، اقترح مبادرون كثيرون، وكثير منهم أوروبيون، علي طائفة الأجانب الكبيرة وعلي الطبقات المؤسسة أكثر بين السكان المحليين، طرقاً جديدة لقضاء وقت "الفراغ". صحف ومجلات وروايات، مطاعم، مسارح، دور أوبرا وسينما (أقيم العرض العلني الأول في إسطنبول عام 1897) جعلت البحث وراء الإثارة مصدراً للربح. العلنية المتزايدة لثقافة وقت الفراغ أثارت لدي كتاب مختلفين مخاوف من اتساع التبطل وغذت خطاب الإبداع المذكور سلفاً. علي الناحية المقابلة، فثقافة وقت الفراغ الجديدة لم تكن متاحة بشكل متساو لكل الجماعات السكانية وأسهمت بهذا في التأكيد علي الحدود الاجتماعية. هؤلاء الذين لم يتمتعوا بالاتصال الحر بعالم الإثارات الجديد هذا، شعروا بالنقص بصورة أكثر حدة. هكذا كان، علي ما يبدو، إحساس نساء مدينيات كثيرات من الطبقتين العليا وأعلي الوسطي. فرضت البديهيات الجندرية والطبقية الشائعة علي هؤلاء النساء أن يقللن من الخروج للشارع، من أجل الحفاظ علي حشمتهن، وكثيراً ما كانت النتيجة الإحساس بالملل والتأزم. وصف بعض مؤلفي الروايات العثمانية في الثلث الأخير من القرن ال 19 النساء اللائي يحاولن القضاء علي الملل بأشكال مختلفة. هكذا مثلاً يتيح لنا الأديب مهمت رؤوف أن نتلصص علي تيار الوعي ل ثريا، بطلة كتابه "أيلول" (Eylül)، ويكشف عن الإحساس بالاختناق والملل القاسي الذي تسببه لها حياة البيت، وكذلك محاولتها للتعامل مع هذه المشاعر عن طريق مراقبة الرجال المارين من تحت نافذة بيتها. لم يكن الملل الذي أرجعه رؤوف لثريا محدوداً بالشخصيات الخيالية. الكتب التعليمية للتلميذات، التي هدفت لتأهيلهن ليكن زوجات وأمهات طيبات يقمن بدور في مشروع بناء "الأمة" العثمانية، أكدت مراراً وتكراراً علي أن العمل حل الملل في الحياة الزوجية. بكلمات أخري، علي نقيض خادمات هؤلاء النساء، واللائي كان العمل ضرورة بالنسبة لهن، فبالنسبة للسيدات كانت أعباء المنزل بمثابة مادة لملء الوقت الفارغ. في كتاب تعليمي لتلميذات الصفوف العليا من المدرسة الابتدائية مكتوب أن "عليكِ القيام بكل العمل بيديك وأن تفخري بالنتائج [...] الملل في وقت الفراغ يتسبب في معاناة رهيبة، وفي المقابل فالعمل يجلب السعادة... لأنه لا شيء مرض أكثر من رؤية التقدم في تنفيذ المهمة". مؤلف كتاب تعليمي آخر للبنات أعلن أنه "فقط الكسلانات اللائي يكرهن العمل يشعرن بالملل ويرين حياتهن ..." حل الملل الذي اقترحه مؤلفو الكتاب التعليمي والأخلاقيون علي أنواعهم كان جدول يوم مشغول حتي الإعياء، حرفياً. هكذا علي سبيل المثال، فقد حذر كتاب عن اقتصاد البيت لتلميذات الفصول العالية للمدرسة الابتدائية من عدم العمل، وأكد أنه علي ربة البيت الحديثة تنظيم أعمال البيت وفق جدول أسبوعي مفصل. ربة البيت الجيدة، المخلصة لبلدها وعائلتها، كان عليها القيام قبل الجميع، لقضاء يومها في سلسلة لا تنتهي من الواجبات، والذهاب للنوم بعد الجميع، ليس قبل أن تتأكد أن كل الأبواب والنوافذ مغلقة ومرورها علي قائمة المهمات ليوم الغد. لا شك في أنه تنبغي رؤية هذا الانشغال بملل النساء علي خلفية الخوف من انتهاك الحدود الجندرية، الذي شغل كتاباً معاصرين آخرين. مثل الجنود والأطفال الشاعرين بالملل، فأيضاً النساء يمكنها "ارتكاب الحماقات"، أو الأشياء التي لم يكن ذوو السلطة يرغبون في أن تفعلها النساء. يمكنهن الخروج بشكل مستقل، السعي وراء الحياة التي تظهر في السينما، يمكنهن الغرق في قراءة الروايات المضرة، أو، والعياذ بالله، الوقوع في علاقات مضرة. انشغل الكتاّب المحافظون بهذه الاحتمالات ولهذا فقد حاولوا "حل" مشكلة الملل بطرق منتجة، أي بطرق تخدم النظام القائم. لو كان الأمر هكذا، فعلي الأقل في السياق التاريخي المناقَش هنا، كان الملل مرتبطاً بهيراركية اجتماعية وبالأخص بتصنيفات الجنس والطبقة الاجتماعية. بكلمات أخري، فإحساس الملل تشكل، علي الأقل جزئياً، بواسطة الإتاحة ووفرة الإثارات والجنس بواسطة علاقات القوة التي حددت الوصول لهذه الإثارات. وفق هذا التحليل القصير، هل تعلقنا بتدفق متواصل للإثارات شهادة علي أننا أصبحنا أكثر مللاً، أم أن هذه الإثارات ببساطة متاحة أكثر؟ يمكننا بالتأكيد الادعاء أن صناعة وقت الفراغ في أيامنا ببساطة تقدم حلولاً جديدة لمشكلة قديمة. وربما يبدو أن الصورة مركبة أكثر. هل كان (وظل) إحساس الجنود، الأطفال والنساء بالملل تهديداً لأصحاب القوة، فمن أجل دوافع تجارية، كان الملل ومازال فرصة للربح. هؤلاء يصنعون مالاً من إحساسنا بالكآبة، السباحة في الشبكات الاجتماعية، صور الناس الذين نتذكرهم بصعوبة من الثانوية، الأفلام علي اليوتيوب، المسلسلات علي شاشة التليفون الذكي، فقط كي لا يكون فقيراً للحظة. مثل أي ديلر، فهم يتربحون أيضاً من إدماننا، وبالمرة يسهمون في تفاقمه.