علمت أنهم سيرحلونه إلي القاهرة في مساء اليوم، فذهبت مع زميل لوداعه. كنا نتقابل كثيرا أنا وهو، نذهب إلي محطة الرمل، وفي ليالي رمضان نذهب إلي شارع النصر، نتابع الشيكا بيكا، وندخل صالة كبيرة مضاءة بالنيون، فيها كل أنواع القمار هو وصديق آخر يلعبان كل ليلة ويخسران، ثم نذهب إلي الكومبكير في اللبان، شارع الفراهدة والقاضي الفاضل وشارع ابن بطوطة، نتابع النسوة الجالسات علي الأرصفة بجلابيبهن، في انتظار الزبائن. ألغت الحكومة الدعارة لكن المكان تعود عليها ولا يستطيع الاستغناء عنها. كنت أزوره في بيته المواجه لأسرة خالي، فكانوا يرونني من شرفتهم أو نافذتهم، حذرني خالي من الارتباط بهذه العائلة، فهم شرسين، ويتشاجرون علي أقل شيء، كنت أسمع ولا أجيب، فابنهم صديقي ويحبني ولا يمكن أن يتشاجروا معي. رغم أن أمه لا تكف عن الشجار، وتضرب الرجال ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، خوفا من أقاربها الكثيرين جدا، والمسلحين، والمعتادين علي الشجار ودخول أقسام الشرطة. رأيتها تضرب شابا يجلس علي قهوة بخيت الحلواني في عنف، وهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه. لكنها في هذه الليلة كانت تبكي حزناً علي ابنها الذي سيغيب عنها بالشهر والاثنين، كثير من رجال ونساء الحارة جاءوا لوداعه، كان مع زملائه في عربة القطار بملابسهم العسكرية، نظر من نافذة القطار وابتسم ولوح لي. فازدادت أمه في البكاء. هي رغم شراستها جميلة وشهية. اقترب منها زميلي الذي جاء معي لوداعه، وضمها لصدره، فنامت بين ذراعيه وبكت بصوت مرتفع، فأخذ يربت علي ظهرها في حنان وهي مستسلمة في صدره، تجهش بالبكاء. زميلي هذا وافد جديد علي الحارة، وليست له صلة بالمرأة ولا بابنها، وإنما جاء إلي محطة القطار من أجلي. دهشت من التصاقه بها، ومداعبة وجهها، ومسح دموعها، ودهشت أكثر لاستسلامها له. وبقائها في أحضانه لوقت طويل. انطلق القطار، ولوح صديقي لي، وسارت وهي تمسح دموعها بمنديلها وتتابع زميلي باهتمام شديد، لكنه سار بجواري وكأنه لم يفعل شيئا. قلت له: إنك تصطاد في المياه العكرة. قال وهو يتابعها وقد سارت بين النسوة الكثيرات: هذا هو الوقت المناسب للتعامل معها، وقت ضعفها.