في مواجهة التاريخ الرسمي الذي يصر علي أن كل شيء مرتب، مخطط له، يسير طبقًا لدراسة محكمة، خاصًة في المعارك الكبري، يأتي كتاب "دور الصدفة والغباء في تغيير مجري التاريخ" للمؤرخ إريك دورتشميد، ليهدم هذه النظرية، وليرد الأحداث الكبري، التي تركت بصمتها علي مصائر البشر وحركة التاريخ، إلي محض صدفة. يسخر الكتاب من جدية العالم، أو من تلقي أحداثه بجدية، ليبرهن، علي طول 415 صفحة، أن يد البشر، الزعماء منهم تحديدًا، أضعف بكثير مما نتخيل، وعقولهم، الموصوفة بصورة نمطية بأنها عبقرية، لا تتمتع بما نظنه فيها، بل إنها منزاحة عن كل تحصين مفترض، إذ أن من صنع ما اتفقوا علي تسميته ب "التاريخ"، ليسوا إلا دمي متحركة هدهدتها في لحظة زمنية يد خفية، يد اختار أن يسميها دورتشميد بالصدفة. كم حادث تاريخي عظيم في نتائجه لا يمكن تخيل معطياته؟ هذا ما يتطلع دورتشميد لرصده. ورغم أن الفكرة الأساسية للكتاب فلسفية محضة، إلا أنها تتكيء علي التاريخ، وتلامس السياسة، وتفتش في خبايا الاستراتيجية، وتضرب بجذورها في أسس أفكار الحكّام وأرباب السلطة. بذلك، يتخير المؤلف الأحداث التي غيرت مجري التاريخ، والتي نشبت الحروب علي هامشها أو في المركز منها، والتي بسببها سقط آلاف القتلي وأريقت بحور من الدماء، ليتوصل إلي نتيجة مفادها العبث، العبث وحده، وهو يتضمن الغباء من ناحية والصدفة من ناحية أخري، هو ما أدي إلي كل ذلك. ينطلق المؤلف من "حرب طروادة"، ليسرد القصة من البداية، مضيفًا إليها ما سمّاه ب "العامل الحاسم"، وهو العنصر القطعي الذي قاد لنهاية المعركة، حيث خدعة الحصان صارت مثلًا. ورغم أنها كانت خدعة معروفة في الزمن الطروادي، إلا أنها آتت ثمارها، لتنضم الخدعة إلي الصدفة والغباء في تغيير حسابات المعارك. اللافت تسليط دورتشميد الضوء بإلحاح علي الحكيم، وهو الصوت المكرر علي طول التاريخ الذي لا يسمعه أحد، الصوت الخافت الذي عادًة ما لا يلتفت له التاريخ باعتبار مهمته تنحصر في رصد ما حدث وتقديم تأويلات له، وليس افتراض "ماذا لو" التي بالطبع تطرح تاريخًا مختلفًا. هنا تحديدًا يعمل دورتشميد، بالنبرة السردية التي تميز الكتاب في مجمله، إذ كان يمكن لصوت الحكيم، بقليل من الإنصات إليه، تجنب مآلات الأمور، والانزياح عن المصائر التي صارت محتومة. يحكي دورتشميد في عبارات قليلة، لكنها دالة، هذا الصراع الأبدي بين صوت رب السلطة وصوت الحكمة، يقول: "تنطلي خدعة الإغريق علي الملك فريام، فيأمر بإدخال الحصان إلي المدينة، ويضطر الإغريق لأجل ذلك إلي فتح ثغرة في الجدار. غير أن كاهن طروادة الأكبر لاقوون يحذر مليكه: إني أخشي الإغريق، ولو حملوا إلينا العطايا بأنفسهم". ولأن الحبكة لا تتغير أبدًا، كطريق مرصوف يسير فيه الجميع، "يغتاظ الملك القاسي فريام من تجرؤ الكاهن عليه". تمثل "حرب طروادة" أحد الينابيع الرئيسية التي نهل منها الأدب، ولعل طابعها الأليجوري ما ضمن لها البقاء طويلًا، بل والتسلل إلي علوم أخري أكثر واقعية وحياتية، مثل الاستراتيجية العسكرية وألعاب السياسة، وانتقالها إلي الحياة اليومية لتتحول إلي إحدي مفرداتها، وتصير مضربًا للأمثال، تحديدًا "الحصان/ الخدعة" الذي اخترق الحصن المنيع. لكن دورتشميد، رغم غلبة السردية، لا يستعرضها كنموذج أدبي، بل نموذج استدلالي يشيد فوقه أحداثًا أخري لعبثية البشر. إنها طريقة مثلي لغياب المعطيات والتوصل، مع ذلك، إلي نتائج. غير أن القصة الإلياذية لا تتوقف في عبثيتها عند الحصان فحسب، إذ أن التفاصيل التي تناولتها منذ البداية كانت إتفاقًا ضمنيًا علي أن حياة الأبطال/ البشر ستكون سلسلة لا متناهية من الصراعات، علي لا شيء ومن أجل لا شيء، حتي وإن بدا أنه صراع علي السلطة. وجه آخر للناصر صلاح الدين يقدمه دورتشميد، في الكتاب الذي ترجمه محمد حبيب، في ترجمة رائقة، وصدر عن دار المدي. وجه ربما يتناقض مع صورة الناصر في التاريخ العربي والفيلم الشاهيني، الذي كان أكثر مبالغة من التاريخ نفسه في رسم صورة أقرب للملائكية للحاكم الأيوبي. وباستشهاد من بهاء الدين ابن شداد عام 1187، ينقل المؤلف في الفصل المعنون "ضياع الصليب الأعظم" قول الناصر:" لن ألقي سلاحي ما دام هناك كافر علي وجه البسيطة". وبعيدًا عن هذه النقطة الخلافية في مدي تسامح صلاح الدين مع المختلفين عنه عقائديًا، وتضارب الروايات هنا وهناك، يؤكد المؤلف بناءً علي أحداث موثقة أن "الغباء" وحده، لو اعتبرنا العجرفة جزءًا راسخًا في بنيته، ما قاد الزعماء الصليبيين إلي الهزيمة، مستطردًا في الحدث التاريخي حتي الوصول لنقطة تحويل الحرب المقدسة إلي حرب دنيوية، ونهب الشرق وبداية عصر الهرطقة وصراع الكنيسة مع السلطة الدنيوية، لتشهد القدس، مهد المسيحية، مذابح وإراقات لا حد لها للدماء. في فصول أخري متعددة بعناوين مثل "رعاع حفاة: أجينكورت 25 أكتوبر 1187" و"برميل شبص: كارانسيباس 1788" و"حفنة مسامير: واترلو 1815" و"ثلاث سيجارات: انتيتام 1762"، يسلط دورتشميد الضوء علي حياة المعارك وهزائم الجيوش، يسخر من فصل لفصل من الجيش النمساوي أو الروسي أو العثماني أو الفرنسي والألماني، عندما يحكي عن الحروب التي جمعت أحدهم بالآخر، ليكشف من خلال سرد تلك الأحداث مهازل تاريخية ما كانت لتحدث لولا أن القادة تميزوا بقدر كبير من الغباء والطيش، أو العجرفة والتكبر، أو عدم التأهل لدخول المعارك. غير أن اللافت اقتراحات المؤلف لحلول أخري كان يمكن من خلال إدراكها تجنب الحروب، أو حتي إقامة هدنات في الوقت المناسب. يكتب دورتشميد:"ماذا لو: لم تقع إشارات الروس في أيدي الألمان؟" ويجيب: " لما تجرأ هوفمان ولوديندورف علي تنفيذ خطتهما الجريئة". ويضيف:"ماذا لو: هب رينينكامبف إلي نجدة سامسونوف؟" ويجيب: "عندئذ كان سحق الجيش الثامن لهيندينبرج". ثم يكرر الافتراضية: "ماذا لو: أبقي مولتيك فيالقه الاحتياطية الأربعة في فرنسا بدلًا من سحبها ليزجها في الشرق؟" ويجيب: "يمكن الزعم بأن الألمان كانوا سيحتلون باريس، ولانتهت الحرب العالمية الأولي في أقل من شهر، ولما زادت ضحاياها عن بضع مئة ألف وليس ملايين كثيرة كما جري خلال سنوات الحرب الأربع". لقد انتهت روسيا القيصرية كقوة مقاتلة في تاتينبرج، حيث نهاية الفيلق الروسي الأرستقراطي، فيما التفت الألمان إلي رينينكاتف وأبادوا جيشه، فكانت خسائر الروس الإجمالية، بحسب المؤلف، أكثر من ربع مليون قتيل. هذه الهزيمة أدت في نهاية المطاف لنشوب الثورة البلشفية ونهاية القيصرية وآل رومانوف وهوهينزولون. وفي معركة بين بريطانيا وألمانيا يحسمها النحل، كصدفة لعبت دورًا رئيسيًا في انتصار الألمان، يحكي دورتشميد أن إطلاق النار المستمر أقلق أسراب النحل المتجمعة حول قمم الأشجار هاجمت الجنود المتقدمين من الجيش البريطاني بلسعاتها القاسية. لكن لمَ هاجم النحل البريطانيين دون غيرهم؟ يفسر المؤلف بأن الأمر ربما يتعلق برائحة الجسد، تماما كما تشم الكلاب الخوف. لقد استطاع إريك دورتشميد، علي طول 415 صفحة، اعتمد فيها علي عشرات المراجع التاريخية، أن يكتب التاريخ بشكل جديد، إنطلاقًا من ميراث فلسفي يقوم علي الشك، كما لا يستبعد الصدفة، ليهدم مقولات كبري حول التخطيط والاستراتيجية. سؤال دورتشميد الممتد بطول الكتاب كان ما الدافع للحروب والقتال؟ وكيف يحدث ذلك لأسباب أكثر هشاشة مما نتوقع؟ وكيف يلعب الخفي والمستتر دور البطولة في أحداث تغير مصائر البشرية؟ ليتوصل القاريء في النهاية إلي أن "الغباء والصدفة" حكمت الإنسان منذ بداية التاريخ، أكثر مما حكمه العقل والتخطيط.