»أعتقد أن ما لمسته أثناء زيارتي الأخيرة لمصر بعد فترة غياب قصيرة، قد دعاني إلي الاندهاش، والحقيقة أنني لا أدري مبعث الاندهاش هذا، أهو الحنين والاشتياق إلي هذا الوطن الذي جبلت بعشقه منذ مولدي، أم هي عظمة المصريين وندرة معدنهم النفيس الذي يتجلَّي في أروع صوره في قدرتهم علي التعايش مع أقصي وأصعب الظروف، أم كلاهما معاً.. كانت ملامح سائق السيارة الأجرة تشبه كل ملامح المصريين، السمار المحبب والمستمد جماله من طمي النيل وبريقه من شمس الوطن الدافئة، وخفة الروح التي انعكست علي قسمات وجهه ببريق ابتسامة سحرية، قد لا تغرب آثارها مع رحلته مع المعاناة اليومية. ابتسمت ابتسامة خفيفة، وبادرت موجهاً حديثي له، إيه الأخبار يا حاج ؟، أجاب ﺑﻌﺒﺎرات ﻣﻠﺆﻫﺎ الرضا : »الحمد لله، نحمده علي كل شيء، طول ما هو الواحد فيه صحة يشتغل ويجيب قرش بالحلال يبقي الحمد لله يا ابني»، هززت رأسي كنوع من الامتنان وأجابته : »ربنا يعطيك الصحة والعافية وطولة العمر يا حاج»، والحقيقة أن قلبي كاد أن يحترق شوقا، لرؤية كل شبر من أرض مصر، حضن أمي، الجلسة علي القهوة مع الحاج إبراهيم، الزحام، فطلبت منه أن يتوقف قليلاً أمام أحد المقاهي الشعبية المتناثرة علي جانبي الطريق وقلت له: »تعالي ننزل نتاول سندوتشين فول وطعمية بالسمسم، ونحبس باتنين شاي بالنعناع ونستريح قليلاً قبل أن تصلني إلي منزلي»، هز رأسه بالموافقة ثم زم عينيه بثقة كأنه يحاول أن يستذكر مكاناً ما، ثم ما لبث أن قال بثقة عمياء: »يبقي مفيش غير قهوة »علي» جنبها علي طول مطعم »رفعت» ده بيعمل حبة فلافل شفا»، وبالفعل توجهنا إلي القهوة، وما إن جلسنا علي الطاولة ووضعنا أغراضنا، حتي جاء إلينا القهوجي مسرعاً بمريلته البيضاء يحمل ابتسامته معه ولا يهتم بكثرة طلبات رواد القهوة، قائلاً: »تشربوا إيه يا يا أفندية»، رد عليه مرافقي السائق: »خمسة يا ذوق عانأكل الأول لقمة»، استدار القهوجي بإيقاع سريع، وما من لحظات معدودة حتي وضع علي الطاولة صينية معدنية صغيرة عليها أكواب دائريّة كبيرة الحجم تحوي ماء مثلجا، قائلاً: »بالهنا والشفا يا أفندية»، وعلي مقربة منا كان يجلس اثنان يبدو من هيئتهما أنهما من الصنايعية الجدعان، كانت أمامهما مجموعة لفائف من سندوتشات الكبدة، وتتناثر حولها حبّات الطماطم وقرون الفلفل الخضراء وحبّات الليمون البنزهير، فكانت تنبعث الرائحة من السندوتشات كمقطوعة موسيقية تعبق المكان بأكمله، بينما كانت تقبع تحت أقدام أحدهما قطة »ماو» فرعونية ذات أعين جميلة ومتسعة، فيقوم أحدهما بين حين وآخر بإلقاء قطع من الكبدة لها، وجهت نظري صوب مطعم »رفعت» كانت روائح أبخرة قلي أقراص الفلافل وهي تتهاوي من بين ثنايا يديه السمراوين بترقب وحذر شديدين، في مقلاة الزيت العميقة فتتصاعد شيئا فشيئا حتي عبقَت فضاء الحي الشعبي بأكمله بنكهة الحياة، وعلي بُعد خطوات معدودة كانت تفترش أم محمد الرصيف بجلابيتها الفلاحي المنقوشة بالورود وضحكتها الصبوحة وتتناثر حولها أكوام من الجبن القريش الأبيض، وعدة بلاليص من المش بالدود وعدد من مشانات البيض البلدي وزجاجات الحليب السائل، وأعواد الفجل الخضراء، وعلي مقربة ليس ببعيدة من المقهي وقفت سيارة متنقلة تابعة لوزارة الصحة وتحمل عنوان حملة »100 مليون صحة» للكشف علي المواطنين بالمجان يستقلها مجموعة من الأطباء الشباب المتحمسين، يرتدون ملابس بيضاء كملائكة الرحمة وحولهم يصطف العشرات من المواطنين البسطاء لإجراء التحاليل المجانية لأمراض الضغط والسكر والسمنة، هززت رأسي وقلت: »بالفعل فيها حاجة حلوة»، رد عليّ مرافقي قائلاً: »أحلي بلاد الكون». • كاتب مصري مقيم ببيروت