من منا يعرف نينا براوي.. لو كنا في منتصف الخمسينات، حين كانت متابعة الآداب العالمية من حولنا علي أشدها لعرفنا مثل هذه الظاهرة منذ اليوم الأول لظهورها، حين تابع المصريون مثلهم مثل أغلب القراء في العالم، كاتبة ولدت موهبتها وهي في التاسعة عشر من عمرها ظلت في قمة تألقها حتي ماتت، إنها فرانسواز ساجان. نينا براوي هي فرانسواز ساجان السنوات العشر الأخيرة، بدون منازع بل قبل هذا العقد بسنوات غير قليلة وأشهد أنني تعرفت علي كتاباتها لأول مرة في عام 2000 من خلال ميليسا ماركوس استاذ الأدب الفرنسي في إحدي الجامعات الجنوبية الأمريكية، لقد كرست ميليسا كل أنشطتها لترجمة كل أعمال الأديبات الجزائريات اللاتي يكتبن باللغة الفرنسية، وقد حرصت هذه المترجمة علي ان تتقن اللغة العربية حتي لا يفوتها ان تفهم أي مصطلح لغوي عربي، وقد قامت بترجمة روايات نينا براوي وزميلتها مليكة مقدام إلي اللغة الفرنسية وتعرف عليهما القارئ الأمريكي، أما نحن هنا في مصر فلا نكاد نعرف عن هذا الجيل شيئا. بنت ثقافتنا نينا براوي هي حديث الناس في فرنسا هذا الشهر بعد صدور روايتها الأخيرة «متوحشة» وقد أقامت مجلة «لير» ملفا خاصاً في عدد شهر مايو عن الكاتبة وروايتها وبدت الاحتفائية بالكاتبة ذات الأصول الجزائرية أشبه بما كان يحدث منذ نصف قرن عند صدور أي رواية جديدة لفرانسواز ساجان. إذن هي كاتبة من بنات ثقافتنا، رغم انها تحمل الهوية الفرنسية، شأنها في ذلك شأن عشرات الأدباء العرب الذين هاجروا إلي اللغة الفرنسية. لماذا هذا النوع من الاحتفالية، لا شك أننا أمام ظاهرة أدبية تستحق الوقوف عندها وأن نقدمها للقارئ قبل أن نتعرف علي روايتها الأخيرة وما أثارته من جدل. نينا براوي مولودة في مدينة «رين الفرنسية» عام 1967، من أب جزائري وأم بريثونية، سافرت في نفس عام ميلادها إلي الجزائر مع أسرتها وعاشت هناك أربعة عشر عاماً، قريباً من صحراء حجار وتسلمي وجدت نفسها بين ثقافتين، الثقافة العربية الجزائرية والفرنسية الجزائرية، عاشت أسرتها في حياة شبه انعزالية، فلم تختلط بالأسر الأخري أو بالجيران وعاشت مع مجتمع الملونين، وكما قالت الكاتبة فإنها عاشت حياة قاسية وهي تقول إن الكتابة هي وطني الحقيقي والشيء الذي عشته حقا والأرض الوحيدة التي وطأتها. أعمال وجوائز كانت نينا قد كتبت أول قصة لها عام 1976، أي وهي في التاسعة من العمر، وقد رحلت أسرتها من الجزائر عام 1981، والتحقت نينا بالمدرسة الثانوية بزيورخ بسويسرا عام 1982. فازت نينا براوي بجائزة أدبية مهمة في عام 2005، هي جائزة رينودو عن روايتها «أفكاري السيئة»، ولم تكن أول جائزة تحصل عليها في فرنسا حيث حصلت عام 1991، أي وهي في الرابعة والعشرين من العمر علي جائزة الكتاب الدولي عن روايتها الأولي «المتلصصة الممنوعة» هذه الرواية التي ترجمت إلي اللغة الألمانية في العام التالي لنشرها وفي عام 1992، صدرت روايتها الثانية «قبضة ميتة».. ثم نشرت روايتها الثالثة «حفل» عام 1996، وفي عام 1998 نشرت «العمر المجروح» وفي عام 2000 نشرت رواية «القتل الناقص»، ثم «الحياة السعيدة» عام 2002، و«الدمية الحلوة» عام 2004، وفي عام 2006 نشرت رواية «يوم السمسم» ثم نشرت رواية «قبل الرجال» عام 2007 و«ناديني باسمي الأول» عام 2008 و«قبلاتنا وداع» عام 2010. يعني هذا أن أعمال نينا براوي غزيرة قياساً إلي سنها والسنوات التي اتجهت فيها إلي الإبداع وهي روايات منشورة في فرنسا، لكنها في أغلبها عن المرأة الجزائرية. رواية «أفكاري السيئة» تناقش طفولة المؤلفة، والأفكار التي حدقت بحياتها العاطفية في شكل اعترافات نفسية تحليلية، انها رواية عن حياة الحب في الجزائروفرنسا تري أن الجزائر هي أرض الطفولة، هي البلد العنيف، حيث يجب علي المرء ان يكون قوياً، خاصة إذا كانت أنثي. أما رواية «طفل ناقص» فهي أول عمل سيرة ذاتية تقدمها المؤلفة بعد خمس روايات وهي تتحدث حول ذلك قائلة: «إنها المرة الأولي التي اتحدث فيها عن نفسي دون ان أكذب، فعندما بدأت الكتابة كانت هناك أهمية مطلقة لسياسة السرد ورؤية الكذب، كان لدي ما يكفيني من الخوف، الخوف الذي يحكم حياتي، ومع مرور الزمن حلت نهاية الخوف، كانت لدي إرادة التغيير وان أقول أشياء كانت تسكنني فيما قبل. وتري الكاتبة إن «أنا» أو Je هي مرجعية للذات، فيجب أن تسمي الأشياء والناس والعالم الذي يحوطنا فأنا لدي أسلوبي بأن أصنع نموذجاً وأنا أمتلك تعبيري الذي يخصني بجمل تتمثل في كلمة واحدة، فيما قبل كان هناك نوع من الضعف في الكتابة، هناك معني. وعن الثقافة العربية، قالت الكاتبة في حديث منشور علي شبكة المعلومات، إنها تعلمت اللغة العربية طوال خمسة عشر عاماً، ومع هذا فإن الفرنسية هي اللغة الرئيسية بالنسبة لها، المهم هو موسيقا الكلمة، فهناك تناغم حميم دافيء، وهو موجود في الجزائر أكثر مما هو متاح في فرنسا، كانت هناك فترات صمت في طفولتي، وقمت بعمل مزلاج لداخلي، انه موجود أكثر في هذا الكتاب لأنه سيرة ذاتية، وتري المؤلفة في سيرتها الذاتية ان الجزائر أرض مميزة بشكل ملحوظ، حتي في جغرافيتها، فالكلام عن الجزائر هو عنف بقوة والكلام عن الجزائريين في فرنسا هو نوع من العنف لقد كتبت هذا الكتاب من أجلي، ولكن بشكل خاص لكل الناس الذين يتكلمون الذين عقدوا زواجا مختلطاً، المهاجرون الجزائريون هنا وهناك، الذين يسكنون ويقيمون ويتكلمون عن البلدين، الذين يمارسون الحرب، ويستكملون حياتهم بشكل ما انه أمر عنيف يعني هذا أنا النص أكثر قربا من الدموع والعيون من الحقد. في 31 مايو عام 2004، أجرت مجلة الإكسبريس حوارا مطولاً مع نينا، عكس أهمية الكاتبة في الحياة الأدبية بمناسبة صدور روايتها «الدمية الحسناء» قالت فيه: «لقد عشت طويلا بعيدة عن الاتصالات مع الآخرين وبدأت في الكتابة، وفي الكلام والحب في الوقت نفسه، عندما كنت طفلة» قالت ان أمها قد جاءت مع أبيها إلي الجزائر بعد أن أحدثت قطيعة مع أسرتها انه الحب، أو أيضا لأسباب سياسية فقد نجحت الجزائر في أن تثير التعاطف معها، لكنا أحست بالاختناق في الجزائر وانعكس هذا علي أسرتها، فقد عانت الأم من مجتمع الذكورة العنيف، وأحست المرأة انها ليست فرنسية، لذا قررت العودة كانت ابنتها في الرابعة عشرة، أي في عام 1981، لذا تركت الكاتبة أشياءها وراءها طفولتها وأصدقاءها وكانت تلك القطيعة بالغة العنف وبدأت حياتها الثانية، وتقول إنها نسيت نبرتها الجزائرية الفرنسية خلال أسبوع، كما أنها أرادت نسيان الجزائر، لكنها عادت إليها من خلال الكتابة، فقد استعادت أشباح الجزائر من خلال ما كتبته». وقد جاء في روايتها أن «كل الرجال آباء..» وأن كل النساء منسيات، لقد تساءلت دوماً، لماذا هناك سحاق، هل للهروب من عالم بالغ العنف الرجولي، عندما كنت طفلة، كنت مغرمة بالفتيات، ووجدت هذا شيئاً طبيعياً، لكن أعرف أنني مختلفة قلت إنني وددت أن أكون صبياً وعندما صرت مراهقة ذهبت إلي أقصي ما لدّي كنت خائفة من لا شيء، أردت ان أموت حباً في سن الثامنة عشرة، بعد وصولنا إلي باريس نظرت في برامج «الخروج» وقرأت «كتا ماندو» انه نادي للنساء فقط ترددت عليه ونظرت إلي نفسي في المرآة، ورحت أفكر «حسنا» هاأنا ذا وتحت التسوية. في روايتها عبرت نينا براوي عن معاناتها من سطوة الرجل، لذا فهي ضد الزواج من أجل الجنس، فهذا لا يمنحنا الاحترام. وفي حديث آخر أيضاً علي شبكة المعلومات قالت نينا «كل رواية جديدة بالنسبة لي ،هي روايتي الأولي، هذا أسلوبي في العمل وفي التقدم في فترة الكتابة أحس أنني أدخل إلي عالم ثان، انها الطريقة المثلي لنسيان الحياة، انها تجربة حسية، وأنا لا أفصل الجسم قط عن الروح، فأنا قبل كل شيء فنانة، وقد نلت حظي عندما فزت بجائزة رينردو عام 2005، وقد كنت قد عرفت بعض الفشل قبل ذلك لكن الفشل الحقيقي بالنسبة لي هو ان أتوقف عن الكتابة. وقد جاءت روايتها «ناديني باسمي الأول» عام 2008 حول قصة حب تتولد بين امرأة، تؤلف الروايات ورجل يقرأ هذه الروايات انها مثل الروح والجسد اللذين يجب ألا ينفصلا مثلما قالت نينا في الحديث المشار إليه لذا فإن الكاتبة اختارت الفعل الناقص لتكتب من خلاله كل أحداث الرواية، ولعل هذه الرواية هي واحدة من أعمالها القليلة التي تدور أحداثها بعيداً عن الجزائر. وعليه فإننا أمام فرانسواز ساجان عربية الجذور، غزيرة الكتابة بشكل ملحوظ تحصل علي الجوائز وتثير الجدل مع كل رواية جديدة. هذا الجدل، جعل مجلة «لير» تقدم ملفاً متكاملا عن روايتها الأخيرة التي عادت فيها إلي وطنها الأول.. الجزائر. رواية متوحشة الرواية الأخيرة للمؤلفة تحمل عنوان «متوحشة» ويمكن ان يكون العنوان أيضاً «فتاة برية» وهذه الفتاة اسمها عاليا، كانت مراهقة عام 1979، أي يمكن ان تكون المؤلفة بشكل مؤكد وهي دائما خائفة من القادم من عام 1980 والعام التالي بالنسبة لها انها تعيش مع أسرتها في عمارة بمدينة الجزائر، تقول «يردد كل الناس ان شيئاً ما سوف يحدث، سوف يتغير وان التقنيات سوف تتجاوز البشر» وتقول الراوية في مكان آخر مما ترويه «لا شيء مؤكد عندما نري الهدايا التي تقدمها لنا جدتي الفرنسية، مثل لعبة الفيديو حول التنس التي لا تعمل سوي مرة واحدة انه طموح في نهاية القرن، خاصة بالنسبة للجزائر، ذلك البلد، الذي يصعد نحو السماء». تتكلم عاليا عن حياتها التي تتحرك في شكل دائري، وذلك منذ اختفي الطفل سامي الذي كان مقربا من أمها لا توضح الرواية ان كان سامي هذا هو شقيقها لكنها تقول إن حبا تولد بينهما حب يخلو تماماً من أي رغبة. تنغلق عاليا في أحلامها وهي تري أنها كنت دوماً شاهدة علي حيوات الآخرين وهي تكتب لأنها تري أن الكلمات المكتوبة بصدق هي الشيء الحقيقي الوحيد في العالم، وتحاول الكاتبة ان توهم نفسها أو توهم قراءها ان سامي هذا قد اختفي، وربما ان أحد الأطباق الطائرة قد أخذه معه، لقد كان الصبي يحب الأغنيات المشهورة في تلك الآونة، خاصة أغنيات الفيس بريسلي، وكلود فرانسو وشيلا. إذن ، الفكرة الأساسية التي تدور حولها الرواية هي اختفاء سامي الأخ بما يعني الموت، حيث تتساءل الكاتبة عم يوجد فيما وراء الموت، إذن فالاختفاء عند الكاتبة يعني الموت. وقد أجرت مجلة «لير» في عدد شهر مايو الحالي حوارا مع الكاتبة حول ان عاليا هي صورة مكتوبة من المؤلفة نينا براوي، وقالت: أريد ان أكتب رواية حقيقية ورغم انها تنفي ان تكون هي نفسها بطلة الرواية لكنها أكدت انها حاولت تثبيت الأماكن في الذاكرة خاصة الأحياء الجزائرية كما كانت عليه في عام 1979، دون أن تكون الكتابات هنا أقرب إلي تقارير الشرطة في صياغتها «أخاف دوما ان أكون حبيسة لذاتي، وأنني أقوم بتأليف نفس الكتاب أكثر من مرة».