أيمن منصور ندا «الانتظار فى المنطقة الرمادية بين الموت والحياة أمر صعب، فلا الحياة تسعف، ولا الموت يريح». صديقة عزيزة كتبت على صفحتها على الفيسبوك منذ أيام «أعتقد أنَّنى جاهزة للرحيل الآن» فى إشارة إلى تمكن «المرض العضال» من جسدها المنهك، وسيطرته التامة عليها، واستسلامها الكامل له.. صديقتى فى العقد الرابع من عمرها..وهو نفس عمر شقيقتى التى رحلت منذ عامين بنفس المرض.. وهي، بالنسبة لأصدقائها، مثال لكلّ ما هو نقيٌّ وأصيل وجميل.. وبالنسبة لرؤسائها وزملائها فى العمل، هى نموذج للجدية والنشاط والالتزام.. وبالنسبة لطفليْها هى العالم بيابسه ومحيطاته وهى الحياة.. لم تكن هناك مقدمات تؤدى إلى هذه النتيجة: حياة عادية، تنقلب، بين غمضة عين وانتباهتها، من حال إلى حال..إذ لاتوجد «حقيقة نتعامل معها وكأنَّها الوهم مثل الموت» على حدّ تعبير «الدكتور مصطفى محمود»..ويظل هول المفاجأة، وخرص المنطق، وشرود الفكر، وعجز الثقة، هو المسيطر على حالتها وحالة من يحيطون بها، ويصبح «الموت هو أنْ ترى الموت» كما يقول «محمود درويش». تساؤلات عديدة تقفز أمام عينى وتشدُّ أذنى وتقرصها كلَّما فكرتُ فى حالة هذه الصديقة وغيرها من الحالات المماثلة، أهمها: لماذا يختار الموت أفضل مَنْ فينا؟ لماذا ذائقة الموت لها مثل هذه الانتقائية العالية فى الاختيار؟ أو يمكن صياغة السؤال بشكل مختلف على ما ذكره «نيلسون مانديلا»:لماذا «يموت مَنْ لا يستحق الموت، ويعيش مَنْ لا يستحق الحياة؟»!!إجابات عديدة ذكرها البعض فى هذا المجال.. حيث يرى «أحمد خالد توفيق» أنَّ هذه الشخصيات الجميلة نجحت «فى الامتحان مبكراً فلا داعى لوجودها».. ويشير «سوفوكليس» إلى أنَّ «الموت لا يأخذ أبداً شخصاً شريراً، ولكنه ينتقى الأفضل دائماً». ويعتقد «أوليفرهيرفورد»: «فقط الأصحاء هم منْ يموتون جيداً». الرحلة المجهولة تجربة أنْ تصاحب وترافق شخصاً عزيزاً فى أيامه الأخيرة، ليست جديدة بالنسبة لي.. ذقتُ كأسها، وتجرعتُ مرارتها مرات عديدة فى السنوات الخمس الأخيرة.. ودائماً ما شغلنى تقمص الحالة النفسية لمريض روحه معلَّقة بين السماء والأرض: كيف يفكر؟ وماذا يرى؟.. حالة الاستسلام التى تبدو وكأنَّها سلام وسكينة.. وحالة العجز التى تبدو وكأنَّها تجلُّد وعزيمة.. والعيش بين عالمين متناقضين متصارعين، كلُّها أمور تحيل المقبل على الموت إلى كائن بين الإنسان والملاك..شخص هلاوسه حكم، وكلامه هلاوس.. وبينما يكون جسده طريح الفراش لا يقوى على شيء، تحلِّق روحه بشدة وتتأرجح بين الثرى والثريا.. أو كما يشير «واسينى الأعرج» تكون هذه الروح مُعلَّقة على حافات الأشياء «بلا سقوط ولا تحليق، فى منزلة بين المنزلتين: خارج الموت والحياة، داخل الاحتضار البطيء».. الموت يأتى مسرعاً للغاية مثل القطار، وفى كثير من الأحيان لا تشعر به إلا وهو أمامك.. ولهذا يعانى منْ يكون على شفا هذه الحفرة العميقة من هذه الصدمة وتبعاتها.. المقبل على الموت قهراً وفجأةً يعانى لحظات الانكسار.. لحظات السخرية الدائمة من عبثية الحياة.. تذكير المحيطين به بأنَّهم سيفتقدونه حتماً، ولو على سبيل المزاح (بالذمَّة مش هوحشكم؟!)؛ الحنين إلى الكبار الراحلين ومخاطبتهم والتحدث معهم؛ والشفقة على الصغار المتروكين والخوف عليهم.. التقلب الحاد فى المزاج: ما بين التشبث بالحياة والإمساك بها، والزهد فيها والانصراف عنها.. ما بين نوبات الضحك المجلجلة، ونوبات البكاء المتشنجة.. ما بين الخوف من الرحلة المقبلة، والحنين إليها بشدة.. ما بين القلق التام، والطمأنينة المطلقة.. وتضيق الأرض على رحابتها، وتضيق الأنفس على اتساعها.. فى هذه اللحظات يحدث كلُّ شيء ونقيضه.. وفى هذه اللحظات المتأرجحة، «تنجلى الحقيقة كاملةً عبر عيون الموت» على حدّ تعبير «فان براون»..وتصبح الحياة وكأنَّها «حُلمٌ يوقظنا منه الموت» كما يشير أهل فارس.. ويصبح «الموت فوق الأكتاف وليس وراء الجبال» كما يشير الروس.. انتظار الموت والتفكير فى رحلة مجهولة الهوية هو أصعب لحظات الإنسان.. وانتظار الموت هو فى حد ذاته موت.. ورفع «الراية البيضاء» أمام الموت هو موت مسبق.. المثل الشعبى المصرى يقول «وقوع البلاء ولا انتظاره».. والمثل التركى يقول «شيئان لا تستطيع التحديق بهما طويلاً: الشمس والموت».. التفكير فى الموت وكثرة الانتظار فى المنطقة الرمادية بين الموت والحياة أمر صعب، فلا الحياة تسعف، ولا الموت يريح.. وأصعب شيء كما يشير أحدهم «أن تنساك الحياة، وأن ينساك الموت».. والأصعب أيضاً كما يشير «غسان كنفاني»:»أن نرى الموت قريباً إلى هذا الحدّ وأن ننتظره ليل نهار»! فى انتظار الغروب كلُّنا يبكى الأموات الراحلين.. وكما يقول المثل الفرنسي: «الجميع يسيرون فى جنازة الميت، وكلُّ واحد يبكى ميته».. غير أنَّ أشدَّ الأمور إيلاماً أنْ تنتظر «خروج السر الإلهي» من شخص تحبه فى أية لحظة، وأن تترقب سماع الخبر الحزين؛هذا الترقب الذى يجمّد الزمن، ويجعل وقع الثوانى على النفس بطيئاً ثقيلاً.. صعبٌ أن تنظر إلى حبيب وتعرف أنَّه فى حالة «عدّ تنازلي» مع الموت الذى يظلل بجناحيه أرجاء المكان.... الموت فجأةً أحياناً يكون نعمة، رغم دعائنا الدائم بالابتعاد عنه «اللهم إنَّا نعوذ بك من موت الفجأة فى ساعة الغفلة».. الموت فجأة صدمة للأحباب يفقدون معها التركيز بعضاً من الوقت وتزول.. غير أنَّ انتظار الأجل المحتوم للأحباب مؤلم، وتتبع خفوت الصوت ووَهَن الجسم لمن ترتبط بهم موجع.. وإطالة النظر إلى منْ لا تأمل عودتهم إلى الحياة قاسٍ ومزعج.. دخل والدى رحمه الله فى غيبوبة تامة ومفاجئة لمدة أسبوع فى مرضه الأخير.. سبعة أيام من الانتظار والترقب..تحسبها لطولها سبعين عاماً.. مؤلم وموجع أن تتفحص قسمات وملامح عزيز فى طريقه إلى الموت، وأنْ تحاول «الشبع» من صوته أو من ضحكته أو حتى من «زعيقه»!! الموت بشكل متجزئ يقولون إنَّ كثرة التجارب المؤلمة تقسّى القلب، وتجعله قادراً على تقبل المزيد من المآسي.. وأقول إنَّها ليست قسوة للقلب، بل هى موت أجزاء كثيرة منه بموت الأحبة؛ تماماً كما ذكر «جبران خليل جبران»: «ما زلت أومن أنَّ الإنسان لا يموت دفعة واحدة، وإنَّما يموت بطريقة الأجزاء، كلَّما رحل صديق مات جزء، وكلَّما غادرنا حبيب مات جزء.. وكلَّما قُتِل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتى الموت الأكبر ليجد كلَّ الأجزاء ميتة فيحملها ويرحل».. وهى نفس فكرة «محمد الماغوط» «إنَّ الموت ليس هو الخسارة الكبرى.. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء».. الموت بالتقسيط هو أصعب أنواع الموت.. أشدُّ أحكام الإعدام قسوةً هى تلك التى لا تسمح بالمحكوم عليه بالموت السريع.. الموت البطيء وعلى مراحل وبالتقسيط غير المريح أشدُّ إيلاماً من فكرة الموت نفسها.. والأصعب من الموت الحقيقى أنْ تموت وأنت على قيْد الحياة.. وكما أشار الشاعر «عَدِيّ بن الرَّعلاء» «ليس منْ مات فاستراح بميْتٍ... إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ».. وهو المعنى ذاته الذى أشار إليه «مونتسيكيو» «إنَّها رحمة أنْ نفقد أحباءنا بالموت ولا نفقدهم وهم أحياء».. كان «سقراط» يعرف الفلسفة بأنَّها «معرفة الموت»، وكان «سيجموند فرويد» يرى أنَّ»كلَّ أشكال الحياة هدفها الموت»، والموت الحقيقى هو أنْ تعجز عن فعل ما تحب،وتكون غير قادر على الاستمتاع به حتى ولو كنت فى كامل الصحة وتمام العافية.. آباء وأبناء الآباء يموتون بموت أولادهم، وقد يموتون قبلها حزناً عليهم، لا فرق فى ذلك بين نبيّ وبغيّ.. رسولنا الأكرم بكى بكاءً شديداً لوفاة صغيره إبراهيم: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربُّ».. النبيُّ يعقوب «ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» أَسَفَاً على «يوسف» وحزناً عليه..»عبد الرحمن الأبنودى» أوصته عمَّته «يامنة»: «أوعى تعيش يوم واحد بعد عيالك.. اوعى يا عبد الرحمان.. فى الدنيا وجع وهموم.. أشكال وألوان.. الناس ما بتعرفهاش.. أوعرهم لو هتعيش بعد عيالك ما تموت.. ساعتها بس هتعرف إيه هو الموت».. وكان الشاعر «ابن عبد ربه» يتمنى أنْ يكون هو من مات وليس ابنه: «هلَّا دنا الموت منى حين منك دنا».. وهو ما عبَّر عنه «ابن الرومي» فى رثاء ابنيه حين ظلَّ يبكى بلا جدوى: «بكاؤكما يشفى وإن كان لا يجدى».. فى كتاب المرايا «لنجيب محفوظ» (1971) إشارة إلى شخصية «الدكتور إبراهيم عقل» القوية الجبارة، الذى ضحى بكلّ شيء من أجل المنصب الجامعى الرفيع.. والذى كان لا يتوانى عن فعل أى شيء من أجل المحافظة على مكانته الوظيفية.. فى وباء الكوليرا الذى اجتاح البلاد عام 1947، فقد «الدكتور إبراهيم عقل» ابنيه الوحيدين.. وتحول بعدها إلى «صورة ناطقة لليأس الأعمى» و«أصبح يُرى كثيراً فى جامع الحسين، ويمضى الساعات متربعاً أمام المقام»، وظلَّ هكذا حتى مات وحيداً، ولم يبق منه إلا مأسأة.. أمي، رحمها الله، كانت امرأة ريفية صلبة وقوية، غالبت الزمن طويلاً، وانتصرت عليه فى معارك كثيرة.. غير أنَّه انتصرعليها بالضربة القاضية فى معركتها الأخيرة، حين شهدت موت ثلاثة من أولادها فى عاميْها الأخيرين.. ماتت أمى حين مات أولادها، وغابت أمى عن الدنيا بغيابهم، ولم يتبق بعد ذلك غير دفنها حين أتى موعدها المحتوم.. «اللهم ارزقنى قبل الموت توبةً، وعند الموت شهادةً، وبعد الموت جنةً، وارزقنى حُسْنَ الخاتمة..»إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون».. رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون - إعلام القاهرة
